عناصر الخطبة
1/ قصة غنى قارون وبغيه 2/ دروس مستفادة من القصةاقتباس
خرج قارون يستعرض قوته وأمواله في موكب زينة، وكأنه يقول بلسان الحال: إذا كان موسى أُعطي التوراة والرسالة، فأنا أملك كل هذه الأموال، وأستطيع أن أفعل بها ما أشاء، خرج يتحدى موسى والصالحين من قومه، ويفتن العامة.
إن الحمد لله..
أما بعد:
أيها المسلمون: رجل فتح الله عليه أبواب النعيم وسبل الرزق وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاءً في العيش، وكثرة في المال، فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء.. طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية، فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة.
فمن هو هذا الغني؟! ومن يكون ذلك الثري؟! وما هي قصته؟! وكيف كانت نهايته؟! استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية: قال الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 76-83].
أيها المسلمون: بدأت القصة بتحديد البطل، فبطل القصة: قارون، وحددت الآيات قومه: (مِنْ قَوْمِ مُوسَى)، ويقال: هو ابن عم موسى عليه السلام. وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.
فقارون كان موجودًا في زمن نبي من أنبياء الله -وهو موسى عليه السلام- وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.
والأمر الثاني: الإشارة إلى أن قرابته لموسى وصِلَتَه به لم تغن عنه شيئًا من عذاب الله تعالى.
قال الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) [القصص:76] لم يحدد نوع ذلك البغي؛ وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه.. بغى عليهم بالكبر، وبغي عليهم باغتصاب أموالهم، وبغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، وبغى عليهم بالظلم، وبغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.
(وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص:76] آتيناه؛ فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون ولا بعلمه ولا بأفضليته؛ فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.
هو الرزق لا حَلٌّ لديك ولا ربط *** ولا قلم يُجدي عليك ولا خطُّ
فطيرٌ يطوف الأرض شرقًا ومغربًا *** وآخر يُعطَى الطيباتِ ولا يخطو
يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تُحمل على ستين بعيرًا؛ فقارون رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، لكنه بغى على قومه.
وكان هناك أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب؛ فإن لله حقًّا، وللناس حقًّا، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه. ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة؛ فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقًا لسعادته في الآخرة.
وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وُعظ بها قارون، فقال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 76: 77] فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟! أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي): أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافيًا في رده، جريئًا في مقولته، مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر؛ ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية ونهاية القصة، فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78]
انتقلت الآيات بعد ذلك إلى خروج قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة وغاية الكبر ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم؛ وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية وأفكار دنيوية: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79]
خرج قارون يستعرض قوته وأمواله في موكب زينة، وكأنه يقول بلسان الحال: إذا كان موسى أُعطي التوراة والرسالة، فأنا أملك كل هذه الأموال، وأستطيع أن أفعل بها ما أشاء، خرج يتحدى موسى والصالحين من قومه، ويفتن العامة.
وانقسم الناس أمام هذا الموقف إلى فريقين: فريق ثابت على الحق، لا يتزعزع إيمانه بمثل هذه الأمور، وهؤلاء هم الذين أوتوا العلم، وهؤلاء لم يفتنوا.
ويقابلهم فريق من ضعاف الإيمان والعلم، وهم الذين فُتِنُوا بما عند قارون، وغرَّهم مظهر الزينة الزائلة، وتمنوا أن يكون لهم مثل ما أوتي قارون، وأعلنوا ذلك صراحة بلسان المقال، فحذرهم الذين أوتوا العلم وقالوا لهم: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ) [القصص:80] وهذا قولٌ يدل على الرسوخ في العلم، واليقين بما عند الله.. ذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فيجب أن يكونوا أعلى نفسًا، وأكبر قلبًا؛ (وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ): الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا؛ لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.
أيها المسلمون: ماذا كانت نهاية قارون؟! قال الله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ) [القصص:81]
وعندما تبلغ الزينة ذروتها يضع الله سبحانه حدًّا للفتنة والعلو والاستكبار في الأرض بغير الحق، قال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ).. وهكذا أمر الله الأرض فابتلعته، وابتلعت داره، وذهبت زينتُه في لحظات، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاءً وفاقًا، وذهب ضعيفًا عاجزًا لا ينصره أحد، ولم ينفعه ماله الذي تكبَّر به.
وهكذا طارت أحلام الذين تمنَّوا مكانه بالأمس، الذين طارت قلوبهم، وتهاوت نفوسهم، وتمنوا لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ويحسبون أنه أوتي حظًّا عظيمًا يشتهيه المحرومون.. وهكذا أفاق الذين أسكرتهم نشوة حبِّ المال، نعم أفاقوا من غفلتهم بعد رؤية الخسف الذي عاجل الجبارُ سبحانه به قارون، وهو شيء لم يكونوا يتوقعونه، نعم ربما رأى بعضهم أو جميعهم غرق فرعون في البحر هو وجنده، لكنهم لم يكونوا يتخيَّلون أن الأرض الجامدة تبتلع هي أيضًا أعداء الله، لم يكونوا يدركون أن لله جنودَ السماوات والأرض، ويرسل الله جنده على من يشاء عندما يشاء.
انتبَهَ الذين تمنّوا مكانه بالأمس على المشهد الرهيب الذي تنخلع من هوله القلوب، ووقفوا يحمدون الله -سبحانه وتعالى- أن منَّ عليهم ونجَّاهم من الخسف، وبعد أن أخذ العجبُ بألبابهم أدركوا أن الله يبتلي عباده بالخير والشر، وأن الثراء العريض ليس دليلاً على رضا الله عن العبد؛ لأن الله سبحانه من سننه الكونية أن يوسع الرزق لمن يشاء ويضيقه على من يشاء، ابتلاءً وفتنة، فهي أسباب أخرى لا علاقة لها بالرضا والغضب، فإن الرضا والغضب يتوقفان على أسباب أخرى وضحها الله في كتابه وعلى لسان رسله الأكرمين، ولو كان الثراء وحده دليل الرضا ما أخذ اللهُ قارونَ هذا الأخذ الشديد العنيف، وعلموا كذلك أن الكافرين لا يفلحون أبدًا، وإن بدا ظاهرهم في الدنيا يأخذ بألباب ضعاف الإيمان؛ لذا ناسب أن التعقيب من رب العزة والجلال: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص :83]
هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة واشتدت المحنة.. هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره. قال -صلى الله عليه وسلم-: "بينا رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما، أمر الله الأرض فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة".
وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنّوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [القصص: 82]
ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة، وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83]
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب المبين...
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد:
أيها المسلمون: في هذه القصة من العبر والدروس الشيء الكثير، من ذلك: أنها جاءت تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا معه، الذين كانوا يواجهون طغيان المشركين من أهل مكة أصحاب الجاه والسلطان والمال، جاءت الآيات تهديدًا ووعيدًا لهؤلاء المستكبرين -إنْ أصروا على كُفرهم واستكبارهم- أن يصيبهم من العذاب مثل ما أصاب قارون ومن سبقه من أهل الظلم والبغي، وحينئذ لا يجدون لهم وليًّا ولا نصيرًا، وهذه سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ومن العبر: أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئًا، وأن الرزق من عند الله تعالى؛ فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.
أما ترى البحر والصيادُ منتصبٌ *** لرزقه ونجوم الليل محتبكة
قد غاص في لُجةٍ والموج يلطمه *** وعينه لم تزل في كلكل الشبكة
حتى إذا بات مسرورًا بليلته *** بالحوت قد شق سفّودُ الردى حَنَكَه
شراه منه الذي قد بات ليلته *** خِلْوًا من البرد في خير من البركة
سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا *** هذا يصيد وهذا يأكل السمكة
وأيضًا من العبر: عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.
ثم إن مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.
ومن العبر: أن الثراء الفاحش الذي لا يعرف صاحبه حق الله -جل وتعالى- في هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه، يعد وبالاً على المجتمعات وضررًا بالدول؛ ولذا فإن أنظمة الدول –حتى الدول الكافرة– تحرّم بعض أنواع التجارات التي ينمو فيها مال الفرد الواحد نموًّا فاحشًا بصورة غير معقولة في تجارات غير واضحة وغير معلومة، وهو ما يسمَّى في الأعراف الدولية بغسيل الأموال؛ لذا نجد أن جميع الدول تحرِّم غسيل الأموال؛ لأن أصحابها يضرون بالمجتمع ضررًا بالغًا في تجارات لا تحقق نماءً؛ لذا يجب إيقاف هؤلاء ومنعهم من حرق المجتمع لحساب أنفسهم. وقد رأينا من القصة السابقة أن الله أهلك قارون وخسف به الأرض، فيجب على جميع الحكومات منع وإيقاف هؤلاء والحجر على أموالهم لأنهم سفهاء.
ومن العبر: أن أهل الخير والصلاح إذا علموا من حال أحد التجار أنه يستثمر أمواله في أمور محرمة -كأن تكون غسيلاً للأموال- فيجب عليهم نصحه المرة بعد المرة، ولا يترك مثل هذا التاجر؛ لأن بقاءه ضرر بالجميع، لكن الذي يحصل -والله المستعان- المجاملات وعبارات المدح والثناء، بل وذكره بالخير مقابل مبالغ بسيطة تبرع بها لعمل خيري أو بناء مسجد؛ ذرًّا للرماد في العيون، مقابل ملايين متراكمة في تجارات محرمة نتيجتها الضرر العام.
ومن الفوائد: أن الإسلام يدعو إلى إعمار الأرض والسير في مناكبها، والأخذ بنصيب من الدنيا، ولكن يجعل ذلك كله طريقًا إلى الدار الآخرة، ويحسن الإنسان كما أحسن الله إليه.
واعلم أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله، فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟! وفي واقعنا أصحاب أموال طائلة سخروا أموالهم في نشر الفاحشة والدعوة إلى الرذيلة في استثمار الأموال في قنوات فضائية هابطة تنشر الخنا والرذيلة.. والله المستعان.
كما يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم