عناصر الخطبة
1/من الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان 2/فضل السعي في نفع الآخرين 3/عظم أجور الساعين في نفع الناس 4/ثمرات نفع الناس والإحسان إليهم 5/كف الأذى عن الناس.اقتباس
مكانةٌ عظيمة ومنزلة رفيعة جعلها الله لمن يُقدّم النفعَ لعباده مهما قل، من الابتسامة حتى أكبر نفع تتخيله العقول وتصل إليه الفهوم. وإن لم تَسْمُ بعضُ النفوسِ وتُعْطِي فلا أقل من أن تكفَّ أذاها عن عباد الله.
من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل
الخطبةُ الأولَى:
الحمدُ لله جلَّ من ربٍّ وتعالى من إله، سبحانه ربُّ كلِ شيءٍ ومليكُهُ ومولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل نفع العبادِ من أعظم القُرَبِ فقرنه بالركوع والسجود، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جعل نفع العباد سببًا للفلاح يوم التناد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اقتدى وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فخيرُ الوصايا وصيةُ رب البرايا؛ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131]، فاتقوا الله -رحمكم الله-، فبالتقوى العصمةُ من الفتن، والسلامةُ من المِحَن، قال طَلْقُ بنُ حبيب -رحمه الله تعالى-: "اتقوا الفتن بالتقوى".
أيها الأحبة: تأملت قول النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ"، وفي رواية "فَلْيَنْفَعْهُ"(رواه مسلم عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)؛ فتَمَلَّك نفسي العجب عندما تدبَّرت بعضَ معانيه؛ ففيه معانٍ رائعة تأخذ بالألباب.
وذلك أن الشعور الذي يخالج نفسَ المسلم وهو يهمّ بنفع إخوانه بأيّ نفع مهما صغُر وقل منبعه ودافعه، غايته واحدة، وهي أن يكون الخير ونفع الآخرين هو سمة المجتمع.
والسعي في نفع الآخرين من أعظم الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان، ولفضل هذا الخُلق قرنه الله -سبحانه- بأعظمِ عبادة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج:77]؛ قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "يأمر -تعالى- عباده المؤمنين بالصلاة، وخص منها الركوعَ والسجود، لفضلهما وركنيتهما، وعبادتَه التي هي قُرةُ العيون، وسلوةُ القلب المحزون، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة، ويأمرهم بفعل الخير عمومًا.. وعلَّق –تعالى- الفلاحَ على هذه الأمور؛ فقال: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)؛ أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده، فمن وُفِّق لذلك، فله القدح المُعَلَّا، من السعادة والنجاح والفلاح".
وقال -سبحانه- عن أصفيائه -عليهم السلام-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)[الأنبياء: 73]؛ أي: يفعلونها ويدعون الناس إليها، وهذا شاملٌ لجميع الخيرات، من حقوق الله، وحقوق العباد.
أيها الأحبة: ولقد رفعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مقامَ من ينفعُ عبادَ الله إلى درجة سامية عليّة، فجعلهم أحبَّ الناس إليه؛ فقد سُئل -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلى اللهِ؟ فَقَالَ: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ".
وبيَّن أنواعًا من النفعِ فَقَالَ: "يَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ يَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ يَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا"(حديث صحيح رواه الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-).
وجعل في حديث آخر مَن يتَّصف بنفع الأمة خَيْرَ النَّاسِ؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"(رواه الطبراني بالأوسط عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني).
قيل في شرح "أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"؛ أي: بالإحسانِ إليهم بمالِه وجاهِهِ فإنهم عبادُ الله وأَحَبُّهم إليه أنفعُهم لعبادِه؛ أي: أكثرُهم نفعًا للناس بنعمةٍ يُسديها أو نقمةٍ يَزْويها عنهم دِينًا أو دُنْيا، ومنافعُ الدين أشرفُ قدرًا وأبقى نفعًا.
قال بعضهم: "هذا يفيد أن الإمامَ العادلَ خيرُ الناس -أي: بعد الأنبياء-؛ لأن الأمور التي يعمّ نفعها ويعظم وقعها لا يقوم بها غيره، وبه نفع العباد والبلاد، وهو القائم بخلافة النبوة في إصلاح الخلق ودعائهم إلى الحق وإقامة دينهم وتقويم أَوَدِهم ولولاه لم يكن علم ولا عمل".
أيها الإخوة: والأجر في نفع المسلمين عظيم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه مسلم). وفي رواية: "ومن مشى مع مظلوم حتى يُثبت له حقَه ثبَت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام"(ابن أبي الدنيا بسند حسن).
واعلموا أن نفع الناس من أسبابِ الوقاية من المهالك، وسبيلٌ للظفر بحسن الخاتمة، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع الْمَعْرُوف تَقِي مصَارِع السْوُءِ، وصدقة السر تُطفئ غضبَ الربِّ، وصِلَةُ الرَّحِم تزيد في العمر"(رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، وقال الألباني: حسن لغيره).
وقالت خديجة -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه الوحي وخاف على نفسه: "كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"(رواه البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها-).
قال شيخ الإسلام: "فاستدلت بعقلِها على أن من جعل اللهُ فيه هذه المحاسن والمكارم التي جعلها من أعظم أسباب السعادة لم تكن من سُنة الله وحكمته وعدله أن يُخزيه، بل يُكرمه ويُعظمه فإنه قد عُرف من سُنة الله في عباده وإكرامه لأهل الخير وإهانته لأهل الشر ما فيه عبرة لأولى الأبصار".
وبركة العبد تُدرَك بمدى نفعه؛ فقد فسَّر مجاهد قول الله حكاية عن المسيح -عليه السلام-: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا)[مريم: 31]؛ أي: نافعاً للناس.
وقال ابن القيم -رحمه الله- في وصف شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان شيخُ الإسلام يسعى سعيًا شديدًا لقضاء حوائج الناس".
وحدَّث أحد كُتّاب الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- بأن الشيخ كان يترك صيام النافلة في بعض الأيام، ويقول: لأنه يُضعفني عن القيام بحوائج الناس؛ لأن الشيخ يأتيه المستفتون وأصحاب الحاجات والشفاعات وغيرهم من كل مكان. ولعل الشيخ -رحمه الله- رأى أن الصيام نفعه للشخص، أما الأعمال الأخرى المتعدية فيكون نفعها للناس.
رحمه الله، ووفقنا لكل خير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ما أجمل مجتمع المسلمين وهو ينفعُ بعضُه بعضًا، ويسعى كلُّ فردٍ فيه إلى نفعِ إخوانه؛ فإن كان في مجال البيع والشراء وجدته ناصحًا لأخيه لا يغشّه ولا يغالي بالثمن.. وإن كان في مجال التعليم وجدته حريصًا على طلابه أو جماعته يُعلّمُهم ويرشدُهم ويستفرغُ وسعه في ذلك.
وإن كان في وظيفته وجدته مُنجزاً لأعمال مراجعيه متهللًا في تعامله وناصحًا لهم سعيدًا مبتسمًا لكل مراجع يأتيه لحاجته. وإن كان ذا صنعة وجدته جادًّا فيها متقنًا لها حريصًا على تجويد عمله يراقب الله في ذلك. وإن كان في مكان آخر كان فيه متقنًا متهللًا؛ المهم أن يكون دافع المسلم وهمه نفع الناس وإن تقاضى على عمله أجرة.
وبعد أيها الأحبة: مكانةٌ عظيمة ومنزلة رفيعة جعلها الله لمن يُقدّم النفعَ لعباده مهما قل، من الابتسامة حتى أكبر نفع تتخيله العقول وتصل إليه الفهوم. وإن لم تَسْمُ بعضُ النفوسِ وتُعْطِي فلا أقل من أن تكفَّ أذاها عن عباد الله.
فَعَنْ أَبَي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فقُلت: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فقَالَ: "يُؤْمِنُ بِاللَّهِ"، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلاً؟، قَالَ: "يَرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ"، قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا لَا شَيْءَ لَهُ؟، قَالَ: "يَقُولُ مَعْرُوفًا بِلِسَانِهِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ عَيِيًّا لَا يُبْلِغُ عَنْهُ لِسَانُهُ؟ قَالَ: "فَيُعِينُ مَغْلُوبًا" قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا قُدْرَةَ لَهُ؟ قَالَ: "فَلْيَصْنَعْ لِأَخْرَقَ"، قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ أَخْرَقَ؟ قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: "مَا تُرِيدُ أَنْ تَدَعَ فِي صَاحِبِكَ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ؟! فَلْيَدَعِ النَّاسَ مِنْ أَذَاهُ".
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا كُلُّهُ لَيَسِيرٌ، فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا، يُرِيدُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ"(رواه ابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره). وقد اشْتَرَطَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا إِخْلَاصَ النِّيَّةِ.
وفي حديث آخر عند مسلم عنه -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بعدما ذكر له رسول الله بعض فضائل الأعمال قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ".
اللهم وَفِّقنا لطاعتك، واستعملنا في نفع عبادك، واجعلنا من الراشدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم