عناصر الخطبة
1/ الدنيا دار ابتلاء 2/ أثر المعصية في الأرض 3/ موعظة وتذكير لمن يهم بالمعصيةاقتباس
فالدنيا سريعة الزوال، ولذائذها منقطعة، ونعيم الجنة باقٍ، فلا تؤثرن لذة دنيا تزولُ، على جنة فيها النعيم الذي لا تدركه العقول، واعلم أن مِن أشرف الصبر صبرُك عن المعصية، والمجاهدة حتى لا تقع وتزِل، والدنيا ليالٍ وأيامٌ ولحظات وأنفاس معدوادت، ثم يرحل المرء ويقال مات، وحين يلقى المرء ربه يحمد العقبى إن لم يكن ممن أسرف وعصى ..
المرء في دنياه يظل في صراع مع نفسه والشيطان، والمعاصي قد تميل لها النفس، وقد يهوى بعضها القلب، وقد يزين الشيطان فعلها، وقد تتيسر سبلها، وتتفتح أبوابها، ولكن المرء يمتنع منها طاعة لله.
إن ربنا حين خلقنا وبالتكاليف تعبدنا، أمرنا بالطاعات، ونهانا عن السيئات؛ ولأننا متعبدون لله نترك الذنب ولو هواه النفس، ويظل المرء في صراع مع النفس والشيطان، فتارة يغلب حين يقوى الإيمان، وتارة يُغلب ويقع في العصيان.
ولأن المرء في الدنيا هو في أوان ابتلاء وزمان امتحان؛ فإنه ينبغي له -بل يجب- أن يترك المعصية طاعة للرب، وحين يقدم الهوى ويقع في العصيان والردى فسوف يخسر أيما خسار، وينقص عند الله في حقه المقدار.
وأما تيار الشهوات، وطوفات المعاصي التي تجرف وتوبق، وتتهيأ وتتيسر، فالمرء المؤمن بحاجة إلى التذكير فيما يعصمه من الزلل، كي يحفظ نفسه من العصيان، ما دام في دار الدنيا وحقبة الامتحان.
وثمة أمور مُعِيناتٌ تقوِّي القلب أمام تزيين المعاصي والمغريات، فإذا حدثتك نفسك بالمعصية، وتهيأت لك ابوابها، فاذكر أن المعصية سببُ كُلِّ هَمٍّ، فالمعصية تحرم الرزق، وتمنع التوفيق، وتذهب بالنعمة، وتخرب الديار العامرة، فكم أحلَّت من محنة ونقمة! فلها سوادٌ في الوجه، وظلمةٌ في القبر، ولها وهن في البدن، وبغضة في قلوب الخلق.
المعصية في الأرض هي سبب البلايا والمصائب، وهل أخذ الله الأمم إلا بذنوبها، وهل أُهلِكَ القومُ إلا بمخالفتهم أمر الله، ألم يقل الله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون) [العنكبوت:40].
وإذا أردت أن تعصي ربك فتذكر رقابة الله عليك، وأنه -سبحانه- يعلم ما يحدث في الأرض بعُد أو قرب، بل ويعلم ما يسقط في فيافي الأرض وقعر البحر، ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا يولد مولود إلا وبعلمه، ولا يقع في الأرض شيئ على اتساع فضائها وتباعد أقطارها بل ولا في السماء على تعددها وارتفاع بنائها إلا والله يعلمه وهو قد كتبه، فكيف تغيب عن نظر الله يا مَن أردت أن تعصيه؟ (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59].
أين تغيب عن الله الذي (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر:19]؟ أين تختفي منه وهو (لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ) [آل عمران:5]؟ فأقوالك يسمعها الذي سمع المجادلة من فوق سبع سماوات، وأفعالك يراها الذي يرى دبيب النمل في الظلمات، فأين تغيب عن رب الأرض والسماوات؟.
يا من أردت أن تعصي الله، تذكَّرْ أنَّ المعصية قد تُحِلُّ بك سخط الخلق وبغضهم، وأشنع من ذلك حنانيك، أنها سبب لسخط المولى عليك، قال أبو الدرداء: ليتّق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله فيلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين.
وقال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته، وقال غيره: إن العبد لَيُذْنِب الذنب فيما بينه وبين الله -تعالى- ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك عليه.
يا مَن هممت بالمعصية: تذكَّر كيف أنعم الله عليك فأجزل، وأعطاك وتفضل، كم من نعمة تتقلب بها وهي منه، كم من شر رده عنك، وخير ساقه لك! ألست الذي تسمع وترى، الذي تتحرك إذ سلِمَت منك القوى، ألست العاقل المسلم؟ فربك وقد أعطاك نعمائه يستحق أن تشكره، فلا تقع في معصيته، وإلا فُربَّ عبد عصى ربه فسلب نعمة، فاخش الله أيها المبارك.
يا من هممت بالمعصية: تذكَّر أنك بالمعصية قد تطفيء نوراً في قلبك، وقد قال مالك للشافعي حين جالسه: أرى الله قد ألقى على قلبك نورا ، فلا تطفئه بظلمة المعصية. وابن عباس يقول: إن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق. ولربما حرمت رزقاً أتى بسبب ذنب لم تتورع عنه أيها الفتى، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
يا من هممت بالمعصية: لا يخدعنك الشيطان فيقول قد عصيت فما ابتليت بشيء، وقد زللت، وها أنا على ما أنا عليه من خير، فالذنب ربما أخرت عقوبته، ورب عبدٍ حرم الخير بذنب قارفه قبل سنين، والإثم لا ينسى، كما قال الإمام أحمد.
يا من هممت بالمعصية تذكر أن للمعصية عقوبات، فالغم والبؤس والجحيم في الدنيا، عقوبة عاجلة يراها العاصي في دنياه، وكيف يسعد القلب وقد خالف مراد الله؟ فله المعيشة الضنك، وله في القبر العقوبة إن لم يتب ولم يرحمه الله، وتبقى العقوبة الأشدّ على الذنب يوم القيامة، حين يجزى كل امريء بما صنع، ويرى العاصون عقوبة ما كانوا يعفلون، ويرى الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
ولَغَمْسَة في العذاب أو لحظة فيه لا يعدلها العمر كله لو قضي في لذة المعصية، فإن وجدت في الذنب لذة فعما قريب تنتهي، وربما آلت إلى نقمة، فاحذر ولا تقدم اللذة التي تزول على الهناء الذي يبقى ويدوم.
يا من هممت بالمعصية: اذكر يوماً تودَع فيه في القبر وحدك، ويرجع القوم ويبقى لك عملك، فأي عمل تريد أن يبقى معك؟.
تذكر يوماً تقف فيه بين يدي الله -سبحانه-، الخلائق من ورائك، والميزان نظر عينك، والجبار -سبحانه- أمامك، والنار عن يمينك وشمالك، فأي عمل تريد أن يذكر لك ويوضع في ميزانك، تَذَكَّر المــــَرّ على الصراط، وسبق الصالحين، وتساقط الخاسرين، فأي عمل حينها تود أنك قدمت.
عبد الله: ولو بليت بالمعصية مع كل هذا، ولم تكفك تلك الزواجر، فاستتر ببلواك، ولا تجاهر بالذنب، فإن المجاهرة تعظم الذنب أضعافاً مضاعفة، والعلانية به مصيبة كبيرة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أمَّتي معافىً إلا المجاهرين" متفق عليه.
قال إبراهيم التيمي: أعظم الذنب عند الله أن يحدِّث العبد بما ستر الله تعالى عليه، وماذاك إلا لأن في الجهر بالمعصية استخفافاً بحق الله ورسوله، وعناداً للمؤمنين، وتكثيراً لسواد العاصين، والتسبب في جَرِّ الغير إليها وإغرائهم بها، والتسبب في تأثيم مَن لم ينكر؛ وليتذكر العاصي حديث: "إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم" رواه البخاري، والمستخفِي أقرب إلى التوبة، ويوفَّق للتوبة ما لا يوفق المستعلِن.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده...
أما بعد: تذكُر كتب الرقاق أن رجلاً جاء إلى إبراهيم بن أدهم، يشكو إليه كثرة ذنوبه، وقال له: يا أبا اسحق، إنى مسرف على نفسي في ارتكاب المعاصي، فاعْرِضُ عليَّ ما يكون لها زاجرا ومستنقذاً، فقال: إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك المعصية، ولم توبقك لذة، قال: هات يا أبا اسحق قال: أما الأولى فإذا أردت أن تعصى الله -عز وجل- فلا تأكل من رزقه، فقال الرجل: فمِن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه؟ قال: يا هذا، أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟ قال : لا، هات الثانية.
قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده، قال: هذه أعظم من الأولى، إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما ملك له، فأين أسكن؟ قال يا هذا؛ أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟ قال: هات الثالثة.
قال وإذا أردت أن تعصيه فانظر موضعا لا يراك فيه فاعصه فيه، فقال: يا إبراهيم، ما هذا؟ وهو يعلم السر وأخفي! قال: يا هذا أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويعلم ما تجاهر به؟ قال: لا، هات الرابعة.
قال: فإذا جاءك ملَك الموت ليقبض روحك فقل له أخرني حتى أتوب توبة نصوحا وأعمل لله صالحا، قال: لا يقبل مني. قال: يا هذا؛ إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب وتعلم أنه إذا جاءك لم يكن له تأخير فكيف ترجو وجه الخلاص؟ قال: هات الخامسة.
قال: إذا جاءك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم، قال: إنهم لا يدعونني ولا يقبلون مني، قال: فكيف ترجو النجاة إذن؟ قال له يا إبراهيم، حسبي حسبي! أنا أستغفر الله وأتوب إليه.
وبعدُ، أيها الكرام: فالدنيا سريعة الزوال، ولذائذها منقطعة، ونعيم الجنة باقٍ، فلا تؤثرن لذة دنيا تزول على جنة فيها النعيم الذي لا تدركه العقول، واعلم أن مِن أشرف الصبر صبرك عن المعصية، والمجاهدة حتى لا تقع وتزِل، والدنيا ليالٍ وأيامٌ ولحظات وأنفاس معدوادت، ثم يرحل المرء ويقال مات، وحين يلقى المرء ربه يحمد العقبى إن لم يكن ممن أسرف وعصى.
اللهم صبِّرْنا عن المعاصي، واحفظنا من الشرور والذنوب...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم