عناصر الخطبة
1/رجاء المرابطين وأهل فلسطين في رب العالمين 2/خير القرون وخير الأصحاب 3/وقفات وعظات من سيرة الصحابي الجليل سعد بن معاذ 4/ثبات أهل فلسطين على الحق والرباط 5/بركة الصلاة والسلام على رسول الله 6/تحية إكبار وإعزاز للعلماء العاملين المتقيناقتباس
نستهلّ شهرَ ربيع الأنور، شهرَ مولدِ الحبيبِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، مُستلهِمِينَ من سيرته وسيرة أصحابه العظماء الثباتَ والرباطَ، إنَّ ما نعيشه اليوم من الكرب لا مُفرِّجَ له إلا اللهُ، ولا ملجأَ لنا إلا اللهُ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الْفَتْحِ: 29]، الحمد لله؛ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التَّوْبَةِ: 100]، قال عليه الصلاة والسلام: "خيرُ القرونِ قَرنِي، ثم الذين يَلُونَهُمْ، ثم الذين يَلُونَهُمْ".
يا عظيمًا تُرجى لكل عظيم، قد عَظُمَ الخَطْبُ وفاض البلاءُ، يا غياثًا ببابك قد وقَفْنا أذلةً صرعى مسَّنا الهوانُ، دعوناكَ ربَّنا والأقصى جريحٌ، والطرف قريحٌ، والعقلُ هباءٌ، باسمك الأعظم يُرجى دعانا، بنور وجهك الكريم يتم الشفاءُ، أنتَ أَوقَفْتَنا ببابكَ ندعو وحاشَا أن يَخِيب المرابطون ولهم فيكَ رجاء، وحاشا أن يخيب أهلُ فلسطينَ ولهم فيك رجاءٌ.
ستبقى هامات المرابطين على ثرى الأقصى ساجدة، ستبقى حناجر الثابتين في المسرى للقرآن تالية، ستبقى قلوب المؤمنين في الأقصى لله طائعة، فهذا مسجدنا وحدنا، وهذا مسرانا، هذا أقصانا، وهذه أرضنا، ولا عبرة للدخلاء علينا، ولا بمن خذلنا.
وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، ذو العزة والجبروت، خضعت لعظمته الرقاب، وذلت لجبروته الصعاب، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-، اللهم صل على سيدنا محمد، صلاة تنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، وترحم بها الشهداء والأموات، وتقتضي بها جميع الحاجات، وتُطهِّرنا بها من جميع السيئات، وترفعنا بها عندَكَ أعلى الدرجات، وتُبلِّغنا بها أقصى الغايات، في الحياة وبعد الممات.
وارضَ اللهُمَّ عن الصحابة الأخيار، أبرّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأحسن الأمة حالًا وهديًا، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذكر الإمام أحمد في مسنده، أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه"؛ (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الْفَتْحِ: 29]، هذه الثلة من الأولين، حفظ الله بها الدين، إنَّها غرس المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، آمنوا بالنبي وعزَّروه ووقَّروه، وتتجلَّى عظمةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- بسرعة البناء لأصحابه، فمن السهل أن تبني مصنعا، ولكن من الصعب أن تبني رجالًا، ارفع رأسك عاليًا، فأنت من أتباع محمد.
أيها المرابط على ثرى فلسطين: ارفع رأسَكَ عاليًا، فأنتَ من أتباع محمد، أيها المرابطون: علِّموا أولادَكم محبةَ محمد، علِّمُوا أولادَكم محبةَ أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فمحبة هؤلاء الرجال تُصحِّح الفكرَ، وتُوقِظ الغفلةَ.
هُمُ الجبالُ فَسَلْ عنهم مُصادِمَهُمْ *** فصولُ حتفٍ أَدْهَى مِنَ الوَخَمِ
إلى أحد العظماء العدول من غرس محمد -صلى الله عليه وسلم-، سعد بن معاذ، ذاك النجم المنير، -رضي الله عنه- صدرت الإشارة النبويَّة لمصعب بن عمير بدعوة أهل المدينة المنوَّرة لدين الله، فالتقط ذاك النورَ سعدُ بنُ معاذ، وشرَح اللهُ صدرَه للإسلام، كان سيدًا في قومه، قال لقومه حين أَسلَم: "حرمتُ على نفسي الكلام معكم، ونساؤكم حرام عليَّ حتى تُسلِمُوا"، فأسلَمُوا جميعًا، شهد بدرًا، وذاق مرارةَ الخيانة التي لحقت بالمسلمين يومَ معركة الأحزاب، حين تآمَرَتِ الأعرابُ على المسلمين، وازدادت مرارةُ الخيانة بتآمُر بني قريظة، وعندما اشتدَّ الخناقُ على المسلمين في الخندق أُصِيبَ سعدُ بنُ معاذٍ إصابةً بليغةً في قَدَمِه أقعَدَتْه، ويبقى سعد ثابتًا على مواقفه كما يبقى المرابطون ثابتين على الحق، فقد عاهد الله من قبل وقال: "امضِ يا رسول الله فيما أردت ونحن معك، لو استعرضت بنا البحر خضناه معك"، فمهما جرى من اللأواء والشدة يبقى أهل بيت المقدس على عهدهم مع مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يا أهل فلسطين، يا أهل الوفاء: لعل الله أن يقر برباطكم أعين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدفاعكم عن مسراه، ويُجاء بسعد بن معاذ بعد الخندق، يجاء به محمولًا متأثرًا بجراحه، ليحكم على الخائنين، فحكم بحكم الله من فوق سبع سماوات، سعد بن معاذ الذي أسلم وعمره ثلاثون سنةً، لم تتجاوز رحلتُه الإيمانيةُ السبعَ سنواتٍ، استُشهد متأثرًا بجراحه، فكيف تكون جنازتك -أيها الثابت- بين الشهداء، لقد اهتز عرش الرحمن لجنازة سعد، لقد فرح حملة العرش بقدوم روحك إليهم أيها الثابت على الحق، حُمل الجسد الطاهر إلى قبره كلمح البصر، فبدأت أصوات المنافقين والمثبطين تنتشر هنا وهناك من المتخاذلين بأنَّه قد نحل وهزل من إصابته، وإذا بخطاب الحق يصدع؛ سبعون ألف ملك شيعوا جنازته، بل حملوا جسده، وفتحت له أبواب السماء، وكأني بقوافل الشهداء يزفهم الملائكة، بل وإن تم احتجاز جثامينهم فهم في مقعد صدق؛ (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزُّمَرِ: 73].
فالله نسأل أن ينزل على قلوب الأمهات الصبر والثبات، فصبرهم رباط، وتربيتهم رباط، وتربية أبنائنا رباط، وحفظهم في البيوت وفي الساحات وفي الحارات رباط؛ (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)[الْحَشْرِ: 10]، فالله يبعث على رأس كل مئة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها؛ (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الْفَتْحِ: 29]، فأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- مليئة بالعظماء، الذين حملوا راية الدين، ووضحوا السبيل، وبقوا على الحق ثابتين، فمهما أصاب بيت المقدس من اللأواء والضراء إلا وكان من الأمة فاتحين مجددين كصلاح الدين، وما يعتري بيت المقدس من مشاهد الاقتحامات والتنكيل، والاستباحات والعراقيل، فلا تثني عزيمة أهل بيت المقدس وجأشهم.
نستهلّ شهرَ ربيع الأنور، شهرَ مولدِ الحبيبِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، مُستلهِمِينَ من سيرته وسيرة أصحابه العظماء الثباتَ والرباطَ، إنَّ ما نعيشه اليوم من الكرب لا مُفرِّجَ له إلا اللهُ، ولا ملجأَ لنا إلا اللهُ، وإلى مَشاهِد تفريج الكروب بعظماء الصحابة، الذين لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلَغ مُدَّ أحدهم أو نصيفه.
ما بالك يا أُبَيُّ بنَ كعب، يا كاتبَ الوحي؟ يا رسول الله، إني أُكثِرُ الصلاةَ عليكَ، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئتَ، فإن زدت فهو خير لك. فقال أبي: أجعل لك صلاتي كلها؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك، إذن تُكفَى همَّكَ، ويُكفَّر لكَ ذَنبُكَ"، اللهم صلِّ على سيدنا محمد صلاةً تُفرِّج بها كربتَنا، وتُفرِّج بها همَّنا، وتُطهِّر بها أقصانا، وتَرحَم بها شهداءنا، صلاةً تكون لنا يومَ القيامة سعادةً وذُخرًا.
أيها المرابط: إن أعمالك تُعرَض على رسول الله، وإن رباطك يُعرَض على رسول الله، أَبشِر فقد آويتَ إلى ركن شديد.
استغرق أُبَيٌّ وقتَه بالصلاة على النبي، وبقي الحال على ذاك الحال.
ومُذْ ألزمتُ أفكاري مدائِحَهُ *** وَجَدْتُه لخلاصي خيرَ مُلتَزَم
إلى أن قرع الباب ليلًا، نعم قرع الباب سَحَرًا، قال أبي بن كعب: "مَنِ الطارقُ؟ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالباب، يا أُبَيُّ، إنَّ اللهَ أمَرَني أن أُقرِئَكَ القرآنَ. قال أُبَيُّ بنُ كعبٍ: وسمَّاني لكَ يا رسولَ اللهِ؟ آللهُ سمَّاني لكَ يا رسول الله؟ قال: نعم، قال أبي بن كعب: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم، فأجهش بالبكاء وفاضت عيناه دموعًا فرحًا وطربًا؛ لقد حجز أُبَيٌّ مقعدَه في مجلس: (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 18-20]، وكأني بأسماء الشهداء والجرحى والمرابطين معروضة عند الله، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
أيها المرابطون: اجتباكم الله لبيت المقدس، وسكنتم جواره، والخير فيكم إلى يوم الدين، فأنتم أهل المسؤوليَّة، مجنِّبِينَ مسجدَكم كلَّ عبث، مُقدِّرينَ قدسيتَه، فلا خيرَ في الأمة إذا فسَد أهلُ الشام، كفانا فُرقةً وتشرذُمًا.
أيها المرابطون: عليكم بالقرآن، عليكم بأحكام القرآن، عليكم بالصلاة على النبي العدنان.
أيها المرابط: إياكَ أن تُصِيبَكَ الحسرةُ وتتخلفَ عن رَكب المرابطينَ، إياكَ أن تُصِيبَكَ الحسرةُ وتتخلف عن ركب أهل القرآن.
يا أهل المحبة، يا أهل الرباط: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ أشدِّ أُمَّتِي لي حُبًّا ناس يكونون بَعدي، يودُّ أحدُهم لو رآني بأهله وماله"، اللهم اجعلنا ممَّن يتَّبِع سُنَّتَه، ويَرِدُ حوضَه، وينال شفاعتَه، اللهم اسقنا من يده الشريفة شربةً لا نظمأ بعدها أبدًا، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا رادَّ لقضائه، ولا مُعقِّبَ لحكمه، ولا غالبَ لأمره، الأول قبل كل شيء، والآخِر بعد كل شيء، كل شيء عندَه بمقدار، عالِم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ الملك الحق المبين، يُحيِي ويُمِيتُ وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيينَ، ما من خير إلَّا وأرشَدَنا إليه، وما من شر إلا حذَّرَنا منه، القائل: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يَقبِض العلمَ بقبض العلماء".
لقد فقدت الأمة الإسلاميَّة واحدًا من علمائها الأجِلَّاء، مجتهدًا مُجدَّدًا رائدًا في العلم، أزهريًّا ثابتًا مدافعًا عن الحق وأهله؛ إنَّه الشيخ الدكتور العلَّامة يوسف القرضاوي، المؤسس للاتحاد العامّ لعلماء المسلمين، فقد انتقل إلى جوار ربه بعد أن شهدت له ساحات العلم والدعوة، والْمَعاهِد والجامعات، ومراكز الجاليات الإسلاميَّة في العالَم أجمعَ، أيقونة هذا العصر في العلم والاجتهاد، وقد ترجمت كتبه إلى لغات العالَم، وبقيت شاهدة على علمه وفضله، تهفو روحه للمسرى، فقد كان الأقصى حاضِرًا في وجدانه مدافعًا عن قدسيته، ترجل هذا الفارس المعلم، رجل القرآن وهو بعيد عن مسقط رأسه، والآن أغمد قلمه الذي لم ينضب إلى آخر حياته؛ (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)[آلِ عِمْرَانَ: 145]. اللهم ارحمه رحمةً تُدخِله الفردوسَ الأعلى.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وارحم من تُوفِّي من أمة محمد من الدعاة والأولياء والصِّدِّيقينَ والعلماء، اللهم ارحم شهداءنا، شبابًا وأطفالًا، اللهم شافِ جرحانا، اللهم فُكَّ قَيدَ أَسرَانا، اللهم عَجِّلْ بخلاص مُحاصَرينا، اللهم احقن دماءنا، الهلم احرص المسجد الأقصى والمرابطين بعينك التي لا تنام، واحفظهم بركنك الذي لا يُضام، اللهم اجزِ عَنَّا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- خيرَ الجزاء، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ والعشرة المبشرينَ، والصحابة والتابعينَ، وبارِكْ لنا في العلماء العاملينَ، والأئمة والصالحينَ، اللهم يا مَنْ جعلتَ الصلاةَ على النبي مِنَ القُرُباتِ، نتقرَّب إليكَ بكل صلاة صُلِّيَتْ عليه من أول النشأة إلى ما لا نهايةَ للكمالات؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم