عناصر الخطبة
1/في اختلاف الليل والنهار عبر 2/العلاقة بين حر الدنيا وحر الآخرة 3/هدي السلف في شدة الحر 4/ما ينبغي عمله إذا اشتد الحر 5/وجوب شكر نعم اللهاقتباس
هذا يدعونا لأن نذكي في أنفسنا وفيمن حولنا استشعار نعم الله التي نتقلب بها صباح مساء، فنحن نعيش في ظل بارد، ونأكل ونشرب اللذيذ من الحار والبارد المتنوع مما لم يتمتع به أسلافنا، حتى صارت النعم جزءًا مما ألفناه في حياتنا، وقد يغفل بعضنا عن حمدِ الله عليها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمّا بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أيّها الإخوة: في اختِلافِ اللَّيل والنّهار عِبرٌ، وفي تَقلُّبِ الزَّمانِ مُدَّكر، في تلوُّن الأجواءِ مِنْ شتاءٍ وصَيفٍ، وتقلُّبِه مِن وَصفٍ إلى وَصفٍ، وتحوُّلِهِ مِن حال إلى حالٍ معتبر، وهذا يُبهرُ المتعقّلِين، ويُنبِّهُ المتذكّرين، ويُرشِدُ أفئدتَهم إلى الدّلالات الواضِحَةِ، والبراهين البَيِّنَة على عَظَمَة الخالقِ، وبديعِ خَلقِه وعلى وحدانيَّتِه وقُدرتِه -سبحانه-؛ فقد قال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:190-191].
أحبتي: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لا يدعُ فرصةً للتذكير إلا استثمرَها، ومما ذَكَّرَ به بمثل هذه الأيام وما فيها من شدةِ حرِ الشمسِ تذكيرُه -صلى الله عليه وسلم- بحَرِّ نارِ جهنم، الذي لا ينتهي أبَدَ الآبدين، ودَهرَ الدّاهرين، وبَيَّنَ أَنَّ الحَرَ الذي نجدُه هو من حرِّ جهنم فَقَالَ: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَـــرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ"، عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رواه البخاري ومسلم، وزاد: "وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ"، والحرور: شدة الحر، يُرِيدُ أَنَّ اللهَ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَتَنَفَّسَ؛ فَيَخْرُجَ عَنْهَا بَعْضُ مَا تَضِيقُ بِهِ مِنْ أَنْفَاسِ حَرِّهَا وَزَمْهَرِيرِهَا، أَعَاذَنَا اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْهَا، فإذا عَلمَ العبدُ أَنَّ شِدَّةَ هذا الحَـــرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ؛ أَقْبَلَ على رَبهِ واستغفره، واستعاذ منها.
وقد أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بشدةِ حرِ جهنم بقوله: "نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قَالَ: "فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا"(رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
أيها الإخوة: دارُ الآخرةِ إمّا دارُ نعيمٍ مَحضٍ لا يشوبه ألم، وهذا للموحِّدين الطائعين، وإمّا دارُ عذابٍ مَحضٍ لا يشوبه رَاحةٌ، وهذا للمشركين، وأما هذه الدار الفانِية فممزوجةٌ بالنعيم والألم، فما فيها مِن النعيم يُذكِّر بنعيمِ الجنّة، وما فيها من الألم يذكِّر بألم النار.
وكان عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يقول: "أَكثِروا ذِكرَ النّار؛ فإنَّ حَرَّها شَديد، وإنَّ قعرَها بَعيد، وإنَّ مَقامِعَها حَديد"، وكان بَعضُ السَّلف إذا رجَع من الجُمُعة في حرِّ الظهيرةِ يذكرُ انصرافَ الناسِ مِن موقفِ الحسابِ إلى الجنّةِ أو النار، فإنَّ السَّاعةَ تقوم يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِف ذلك النهار حتى يَقِيْلَ أهلُ الجنَّةِ في الجنَّة وأهلُ النَّارِ في النار، ثم تَلَا: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)[الفرقان: 24].
ولقد أرشدنا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إلى دعاءٍ سهلٍ، يكون سببًا -بإذن الله- بالإعاذة من النار، فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَأَلَ اللهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثًا؛ قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ اسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنَ النَّارِ ثَلَاثًا؛ قَالَتِ النَّارُ: اللهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ النَّارِ"(رواه أحمد، وقال الأرناؤوط: صحيح الإسناد، ورواه الحاكم وصححه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
أيها الإخوة: وشدةُ حرارةِ الشَّمس هذه الأيام، تذكُّرُ بالموقِفِ العظيم يومَ القيام؛ فإنَّ الشمسَ تَدنو يوم القيامة من رؤوسِ العِباد ويُزادُ في حَرِّها، فعن الْمِقْدَادُ بْنَ الأَسْوَدِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ، حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ"، قَالَ سُلَيْمٌ الراوي عن المقداد: "لَا أَدْرِي أَيُّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي، أَمَسَافَةُ الْأَرْضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ؟"، وأيًا كان الميل فالشمس قريبة من الرؤوس، ثُمَ قَالَ -صلى الله عليه وسلم- : "فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، ومنهم من يأخذه إلى حِقْوَيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا"؛ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إلى فيه يقول: "يُلْجِمُهم إِلْجَامًا"(رواه ابن حبان وصححه الألباني).
والمعنى: أنَّ الشَمْسَ العظيمة هائلةُ الحرارة تدنو يوم القيامة من أرض المحشر، وقد توقعَ علماءُ الفلكِ درجةَ حرارةِ سطحِها إلى نحو 5600 درجة مئوية، وحرارة باطنِها تزيد على 15 مليون درجة مئوية!، فيا الله لطفك بنا، كم نعاني الآن من حرِ الشمس إذا بلغت درجة الحرارة 50، فكيف بنا يوم القيامة إذا قربت منا بحرارتها؟! اللهم خفف عنا حرارتها في الدنيا والآخرة.
ومن حكمة الله -تعالى- وفضله على البشرية في الدنيا، أن الشمسِ تبعد عن الأرض أكثر من 150 مليون كيلومتر؛ لذلك لا يصلُ إلى الأرضِ من حرارتِها إلّا ما يناسبُ الحياةِ، ولو اقتربت الشمسُ قَليلاً إلى الأرض، لانقرضت الحياة ولاحترقت الأرض.
جعلني الله وإياكم ووالدينا ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يخفف عنا حرها في الدنيا والآخرة، آخر، دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: نشهد في هذه الأيام حراً شديداً، وينبغي لنا أن نعلم علم اليقين أن الله -تعالى- بيده مقاليدُ الكون، يُصرفُه كيف يشاء وهو أحكم الحاكمين، وأن ما يكون من تغير في هذا الكون بعلمه وتقديره، وقد أمر عبادَه بالاعتبارِ به فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة: 164]، وأن نذكر أسرنا ومن حولنا، بالاعتبار بهذا التغيرات الكونية، وأنها بتقدير الله وحكمته.
أحبتي: ربما تأوه بعضنا من شدة الحر وتفوه بكلامٍ لا يليق، وأظهر الضجر بالكلام والفعل المنافي للصبر، وهذا لا يحسن بالمسلم، بل علينا أن نعلم أن هذا الحر من الابتلاء واللَأْواَء التي يجب أن نصبرَ عليها حتى نؤجر.
ثم هذا يدعونا لأن نذكي في أنفسنا وفيمن حولنا استشعار نعم الله التي نتقلب بها صباح مساء، فنحن نعيش في ظل بارد، ونأكل ونشرب اللذيذ من الحار والبارد المتنوع مما لم يتمتع به أسلافنا، حتى صارت النعم جزءًا مما ألفناه في حياتنا، وقد يغفل بعضنا عن حمدِ الله عليها، وحمدها سبب لرضى اللهِ عنا، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا"(رواه مسلم).
والمطلع على عيشِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يرى العجب، فَعَنْ أَبِي عَسِيبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلًا، فَمَرَّ بِي فَدَعَانِي إِلَيْهِ فَخَرَجْتُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: "أَطْعِمْنَا بُسْرًا"، فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه أحمد وحسنه الألباني)، وفي رواية: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
وبعد -أحبتي- ونحن نتقلب بصنوف النعيم، في ظلٍ بارد، ومركب باردٍ، ومسجدٍ بارد، ومشربٍ بارد، ومأكل حار وبارد، تصوروا حالَنا لو انقطع عنا الكهرباء في هذا الحر الشديد ساعة، ما حالنا؟! والله لنُسأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم