اقتباس
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش في مكة ويرى الأصنام منصوبة تطل عليه بعيونها الجامدة البغيضة، فلم يرفع لها يدا، ولم ينتهز فرصة من غفلة قريش ليكسرها أو يحرقها، ولكنه صلى الله عليه وسلم استمر في دعوته، وإقامة الحجة على الناس، والسعي في تنوير عقولهم، وتبصير فهومهم، وتغيير عقيدتهم، وإصلاح أفكارهم ليكون التغير من داخلهم...
ملاطفة من يرجى إسلامه لتأليف قلبه أمر مرغوب فيه، هذا بالنسبة للكفار.. فما بالك بمن يرجى توبته وهو مسلم يشهد شهادة الحق؟ أليس أحق بالملاطفة من الذي يراد إسلامه وهو كافر؟
إن الملاطفة في الدعوة نوع من الرقة في المعاملة تفتح قلب المدعو، وهذا أصل من أصول الدعوة، وهو خط عام في خطاب القرآن الكريم، وسمة عامة في دعوة جميع المرسلين، يبدو أكثر وضوحا في دعوة إبراهيم لأبيه ونداءاته المتكررة له بوصف الأبوة تلطفا وطلبا لاستمالته بهذه الرابطة الوثيقة (يا أبت .. يا أبت .. يا أبت)، وكذا تتضح جدا في قصة موسى مع فرعون مدعي الربوبية عندما أرسل الله له موسى وهارون فقال لهما: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)، فالقول اللين أدعى للقبول وأقرب للإجابة.
والنهج الإسلامي في الدعوة لم يخرج عن هذا الخط العام بل أكده القرآن وطبقه النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[آل عمران: 159].
والمتأمل لحديث القرآن يجد أنه لا يذكر الغلظة إلا في مواطن المعركة وميادين القتال، ومواجهة الأعداء، إذ لا مجال هنا للكلام الرقيق، فلا صوت يعلو فوق صوت السيف والرمح وآلات القتال، حيث توجب العسكرية الناجحة الصلابة عند اللقاء حتى تضع الحرب أوزارها.
ولكن حتى في هذا الميدان كان سبق الإسلام إلى الرفق، بضوابط الجهاد في هذا الدين العظيم، فلا قتال قبل دعوة، والمقصد "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"؛ فليس الجهاد للقتل والسبي والغنيمة، وإنما رحمة في كل أبوابه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يوصيهم: "انطلقوا على بركة الله لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا ولا امرأة، ولا تغلوا ولا تغدروا، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين".
فإذا كان هذا في ميادين الوغى فكيف تكون الرحمة والرفق في ميادين الدعوة والكلام؟
والجواب على هذا بأمور:
العنف لا يأتي بخير:
لا شيء يشين الدعوة أكثر من العنف لأن الدعوة إلى الله تحاول أن تدخل إلى أعماق الإنسان لتجعل منه شخصا ربانيا في مفاهيمه ومشاعره وتصوراته وسلوكه، وتبدل كيانه كله، وتنشء منه خلقا آخر، فكرا وشعورا وإرادة، كما أنها تهز كيان الجماعة هزا لتغير عقائدها المتوارثة وتقاليدها الراسخة وأخلاقها المعكوفة، وأنظمتها السائدة المخالفة لقانون الله وعقائد الإيمان ومفاهيم الحق.
إنها إذا تبديل وإحلال فكري وعقائدي وشعوري، ومعلوم أن العقائد والأفكار لا تغير بالعنف ولا بالقوة ولا بالإكراه، إذ هي محلها العقل والقلب، ولا سبيل للإكراه فيهما، وإنما سبيلها الوحيد هو الإقناع وإقامة الحجة.
وهذا لا يمكن أن يتم إلا بالحكمة وحسن التأني في الأمور، والمعرفة بطبيعة الإنسان وعناده، وجموده على القديم، مع مراعاة طبيعة الخلقة البشرية في محبة الجدل كما قال سبحانه: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)[الكهف: 54]؛ فكان لابد من الترفق في الدخول إلى عقل المدعو والتسلل إلى قلبه حتى نلين من شدته، ونكفكف من جموده، ونحط من كبريائه.
لا إكراه في الدين
إن الله -سبحانه جل في علاه- لم يكره أحدا على الإيمان به، والدخول في دينه، بل ونهى المؤمنين عن السعي وراء هذا الإكراه لإدخال الناس في الإسلام فقال سبحانه: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة: 256]؛ إذ الإكراه لا قيمة له في العقائد، ولا في الأفكار، ولا ينتج عنه إيمان حقيقي، ولا مؤمن صادق الإيمان.
ومع التسليم بقدرة الله على أن يجعل عباده كلهم مؤمنين (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)[السجدة: 13]، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[يونس: 99]؛ إلا أنه سبحانه لم يفعل هذا، وإنما بسط الأدلة، وأقام الحجة وبين المحجة، وأرسل الرسل (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء: 165]، وترك لهم بعد ذلك الاختيار ليكون الجزاء على فعل العبد واختياره لا على فعل غيره فيه؛ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)[الكهف: 29].
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش في مكة ويرى الأصنام منصوبة تطل عليه بعيونها الجامدة البغيضة، فلم يرفع لها يدا، ولم ينتهز فرصة من غفلة قريش ليكسرها أو يحرقها، ولكنه صلى الله عليه وسلم استمر في دعوته، وإقامة الحجة على الناس، والسعي في تنوير عقولهم، وتبصير فهومهم، وتغيير عقيدتهم، وإصلاح أفكارهم ليكون التغير من داخلهم عن قناعة تامة.
ولقد كان شباب الدعوة حول رسول الله -عليه الصلاة والسلام- تأخذهم الحماسة فيطلبون منه أن يثوروا بأسلحتهم، أن يهبوا في وجوه أعدائهم وكان عليه السلام يسكن ثورتهم، ويهدئ حماستهم، ويطلب منهم الانتظار حتى يحين الوقت المناسب، ويأمرهم أن يكفوا أيديهم ويكتفوا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حتى تكتمل القوى وتنضج الثمرة وتطلع الأقدار بأيام الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)[النساء: 77].
وهب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عجل بعجلتهم فمال على أهل الوادي بهذه الفئة القليلة العدد الضعيفة العدد؟
أو هب أنه قام إلى الأصنام التي حول بيت الله فكسرها وهدمها فماذا ستكون العاقبة والنتيجة؟
واقع مؤلم:
لقد قام بعض الشباب المتحمس في بلد إسلامي كبير بنبش قبور أقيمت في مساجد، وهدم أضرحة يتقرب بعض الجهال إليها ويقدمون لها القرابين، واستدلوا لفعلهم بأحاديث وآيات تنهى عن ذلك، ومع التسليم بحسن نيتهم في ذلك، وسعيهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أن النظر في العواقب والمآلات كان مؤلما جدا..
لقد تم القبض على هؤلاء، والقبض على أعداد كبيرة من المشايخ وطلبة العلم والمنتسبين إلى الدين، وتعرض هؤلاء جميعا للأذى الشديد، خلافا لما تعرض له ذووهم من الأذى المادي والمعنوي.
ثم زيادة على ذلك.. أعيد بناء هذه الأضرحة والقبور بصورة أحسن مما كانت عليه، فكان هذا النهي عن المنكر سببا إلى منكر أكبر منه.
وأذكر في إحدى بلداننا الإسلامية كان في بعض ميادينها تمثال لامرأة عارية، قديم متهالك لا يأبه كثير من الناس به، ولا ينتبهون إليه، فقام أحد الشباب المتحمس بكسر التمثال وتشويهه، وربما كان معه بعض الحق.. ولكن مرة أخرى كانت العاقبة، أنه قبض عليه وذاق الويلات ولا يدرى حاله، واحتفت الدولة بالتمثال المهمل، فأعادت ترميمه وتجميله فأصبح أكثر فتنة، وصار حديث الناس، وانتبه له من لم يكن ينظر إليه قديما.
إننا لا نقر ولا نرضى ببقاء هذه التماثيل وتلك الأصنام، ولا ببناء الأضرحة وطواف الناس حولها، ولا بوجود منكر في بلد مسلم، ولكننا لابد وأن ننظر في عواقب الأفعال ونتائجها فإن بعض النهي عن المنكر يصبح نفسه منكرا إذا أدى إلى منكر أكبر منه.. وهو ما اتفق عليه أئمة الإسلام وعلماء الشريعة.
إن علاج الفساد بالعنف، أو بطريقة غير منضبطة بضوابط الشرع ومحتكمة لشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرا ما يوقع الفاعل تحت طائلة القانون الوضعي، ويغضب مقامات كبيرة لها منفعة في استمرار هذا الفساد وبقائه على ما هو عليه، وحينئذ يعرض الداعية نفسه للعقوبة وبطش الجبارين "في غير نفع يعود على الرسالة والدعوة والمسلمين"، فإذا بالدعوة تصد وتعاق عن الانتشار، وإذا بجهد الداعية يبدد دون فائدة.
ونحن لا نقصد بذلك أن يكون الداعية جبانا مستكينا، ولكن نحب له أن يتسع أفقه العقلي والنفسي، ويزداد فقهه فيعالج مبعث العلة وأصلها بالحكمة والروية وحسن النظر في مبادئ الأمور ونهايتها، فهذا هو السبيل الطبيعي للعلاج.
إن تحطيم الأوثان وكسر الأصنام لا يبطل الفساد ولا يستأصل الكفر، ولن يغير من الواقع شيئا. بل إن القوم لا يبعد أن يصنعوا أصناما غير التي كسرت ويعيدوا بناءها في حلة جديدة أبهى وأجمل من القديمة، ويأخذهم العناد إلى عدم سماع الحق أصلا. والغالب أنهم سيغضبون لآلهتهم وربما عاجلوا المسلمين ونبيهم بالقتل كما فعل قوم إبراهيم بنبيهم حين كسر أصنامهم.
دور الداعية
إن دور الداعية ليس قتل الناس الذين يعبدون الأوثان، فإنهم وإن قتلوا فإنه سيأتي غيرهم من يعبدها أو حتى أكثر منهم.
وليس دوره هو هدم هذه الأصنام الحسية، مع بقاء حبها يملأ قلوب عابديها والمعتقدين فيها، لأنهم كما قلنا سيعيدون بناءها أفضل مما كانت.
وإنما دور الداعية هو هدم الأصنام في قلوب عبادها حتى تجافيها القلوب وتعلم أنها آلهة باطلة لا تنفع ولا تضر نفسها فضلا عن أن تفعل ذلك بعابديها، إنه نزع للتعظيم والمحبة والتقديس، والانتقال بهذه المحبة وذاك التعظيم والتقديس لمن يستحقه، فعندها يقوم عبادها أنفسهم بهدمها بأيديهم بعد أن هدمها الدعاة في قلوبهم.. هذا هو التغيير الحقيق، وهذا هو دور الدعاة ووظيفتهم وواجبهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ "أصول الدعوة" لزيدان
ـ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ابن تيمية.
ـ "الدعوة قواعد وأصول" لجمعة أمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم