في التحذير من الإفتاء بغير علم

عبد الرحمن بن علي النهابي

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ فضائل وثمرات الفقه 2/ الحث على طلب العلم والفقه 3/ حاجة الأمة للفقهاء 4/ التحذير من الإفتاء بغير علم 5/ المطلوب في حق المستفتي 6/ التحذير من تتبع الرخص .

اقتباس

إنَّ على المسلم أن يحتاط في أمر الفتيا والاستفتاء، فلا يجعل نفسه في منزلة العلماء العارفين؛ بل يجب عليه أن يتواضع، ويتهم نفسه بالقصور والتقصير، وإذا كان لا يعرف ما أشكل عليه، أو ما سُئل عنه، فعليه أن يتحرى لدينه من هو أعلم وأوْرع، الأمثل فالأمثل.

 

 

 

 

الحمد لله الملك الحق المبين، له الخلق والأمر، مالك يوم الدين، شرع لنا من الدين ما وصَّى به المرسلين، وأتمَّ به خاتم الأنبياء وإمام المتقين، والحمد لله الذي جعل علامة الخير للعبد التفقه في الدين.

وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المرسلُ رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الهداة المهديين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتفقهوا في دين الله؛ لتعبدوا الله على بصيرة، فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فالفقه في الدين أساس الخير والعمل الصالح، فيه يَعْرِف العبدُ ربَّه وخالقه معرفةً حقَّة، ويَعْرِف كيف يعبده، وكيف يأتي ما أُمِر به، وينتهي عما نهى عنه، به يعرف كيف يتطهر الطهارة المشروعة، به يعرف كيف يصلي، وكيف يصوم، وكيف يزكي، وكيف يحج ويعتمر، به يخير بين الواجبات والسنن، والحلال والحرام، به يعرف كيف يسير إلى ربه إذا انعقدت غيوم الجهل والفتن، به يعرف كيف يُعامل ويتعامل مع الغير في البيع والشراء، والمكاتبات، وسائر العقود والعهود، به يعرف كيف الخطأ والصواب، والحق والباطل، والحسن والقبيح.

بالتفقه بالدين يكون العبد سراجاً في أمته، ومصباحاً يستضاء به، يهدي إلى الله، وإلى طريقه المستقيم، ويبين لهم النهج القويم.

وبالتفقه بالدين يعرف العبدُ كيف يسير في حياته، ويعرف غايته من هذه الحياة، فهو يسير على نورٍ من ربه، قد استنار به في حياته وبعد مماته، فهو في نورٍ مستمر؛ وهو: نور القلب، ونور القبر، ونور الحشر، ونور الصراط.

فتفقهوا عباد الله في هذا الدين؛ لتكونوا على نورٍ من ربِّكم، وتهتدوا إلى صراطه المستقيم، وتعلموا أحكام هذا الدين؛ لتنالوا الخير في الدارين، فمن عبَد الله على بصيرة وعلم ويقين لا يساوى في الثواب والمنزلة عند الله بمَن عبَده على جهل وعمى، وشكٍّ وتخمين، والعالم حي بعد مماته، والجاهل ميتُ في حياته (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].

وما اكتسب مكتسب مثلُ فضلِ علمٍ يهدي صاحبه إلى هُدى، أو يرده عن ردى، من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وأن العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظ وافر.

عباد الله: تفقهوا في هذا الدين، فإن التفقه معناه: فهم أحكام هذا الدين والعلم بأصول تلك الأحكام وفروعها، ومعرفة الأدلة واستنباطها، فمن استطاع منكم أن يتفرغ للعلم وتحصيله، وكان عنده ملكة الفهم والإدراك فليلج هذا الباب، فقد قصر فيه الكثيرُ من الناس في هذا الزمان؛ مع توفر الدواعي ووجود الوسائل والأسباب، وإن التفقه في دين الله؛ لَيتأكد في هذا الزمان الذي قلَّ فيه الفقهاء المجتهدون، كثر فيه القراءُ والقارئون، وتنوعت فيه المعارف والعلوم , وكثر فيه -أيضاً- من يدرسون علوم الشريعة دراسة سطحية لا عمق فيها، ولا اجتهاد، ولا بحث، ولا إجهاد؛ بل دراستنا في هذا الزمان تحتاج إلى دراسة، وعلمنا يحتاج إلى فهم وتمحيص.

فانظر -أيها المسلم- كم خرَّجت المدارس والجامعات من الطلاب والطالبات، ومع ذلك ينقصنا الفقيه المجتهد، الذي عنده علم الرواية والدراية، وتنقصنا الفقيهةُ من النساء المسلمات، ولا عجب أن يقال: قلَّ الفقهاءُ في هذا الزمان، مع كثرة القارئين والقراء.

فيا أهل العلم والفهم: من استطاع منكم أن يتفرغ للعلم والتفقه في الدين فليفعل، فالأمر متأكدٌ خصوصاً في هذا الزمن، فقد كثر فيه طلب الدنيا بشتى الوسائل، والإقبال عليها، ومن لم يستطع ذلك فليستمع إلى الذكر، وليجلس إلى أهل العلم فيستفيد منهم، ويفيد غيره، ومن لم يستطع فلا أقلَّ أن يسأل عن دينه، وكل ما عرض عليه في أمر الدين من إشكال أو اشتباه، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ...) [النحل:43].

عباد الله: إن السؤال عند الإشكال هو الأمر المطلوب المشروع، الذي فيه امتثال لأمر الله، والذي به يُعرف كيف يؤتى الأمر ويُجتنب النهي، وفيه البعد عن مواطن الشبهات والشكوك، وفيه اطمئنان النفس إلى عمل المسؤول عنه.

وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا ينبغي للمسلم أن ينظر عند إرادة العمل أو تركه إلى ما يوافق مراده وهواه، وليس عنده علم فيه؛ بل يجهل أن يكون مأموراً به أو منهياً عنه، ثم بعد ذلك يُحَكِّمُ عقله أو يستفتِ قلبه، وقلبه فارغ من نور العلم والفقه، بل ملطخٌ بظلمات الجهل والغي، إن الاستفتاء في أمور الدين أمرٌ مطلوبٌ، لكن على المؤمن أن يَحْذَر أن يكون مفتياً لنفسه أو مفتياً لغير وهو ليس عنده من الفقه في الدين شيء، إنه بعمله هذا يقعُ في خطر عظيم، وضلال كبير؛ حيث حمَّل نفسه تبعة ذلك ووزرَه، وقال في دين الله بلا علم، وكان قائده في ذلك إبليس اللعين، الذي يأمر أتباعه أن يقولوا على الله بلا علم.

إنَّ على المسلم أن يحتاط في أمر الفتيا والاستفتاء، فلا يجعل نفسه في منزلة العلماء العارفين؛ بل يجب عليه أن يتواضع، ويتهم نفسه بالقصور والتقصير، وإذا كان لا يعرف ما أشكل عليه، أو ما سُئل عنه، فعليه أن يتحرى لدينه من هو أعلم وأوْرع، الأمثل فالأمثل.

واعلموا أن المطلوب في حق المستفتي: أن يتحرى من يظنّه أقرب إلى الحق؛ لكثرة علمه، وقوة ورعه، فإذا غلب على ظنِّه أنه أقربُ إلى الحق من غيره فليسأله، ثم ليأخذ بقوله.

ولا ينبغي له أن يستفتي غيره إلا أن يتبينَ له بعد ذلك أنه مُخطئ، مخالف لنصٍّ من كتابٍ أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فعليه أن يعدل إلى ما كان حقاً، فإن الحق يعرف بما في الكتاب والسنة، لا بأقوال الرجال والأشخاص، فكم ضلَّ قوم عرفوا الحقَّ وتركوه وراءهم ظهرياً، قادهم هواهم، وتعصبُهم إلى أقوال فلان وفلان.

إذا عرفت ذلك -أيها المسلم- فاعلم أن وظيفتك إذا لم يكن لك علم أو أشكلت عليك مسألة من المسائل أن تسأل أهل الذكر؛ امتثالاً لأمر الله، وخروجاً من خطر العمل على غير علم، وتبرئةً لدينك.

واعلموا: أن بعضاً من الناس يضع أمراً محرماً، لا يجوز في الاستفتاء، تجده يأتي إلى أحد ليَستَفتيهُ، راضياً بفتواه، معتقداً أن ما يقوله هو دين الله، وهو الحق الذي يجب عليه اتِّباعه، فإذا أفتاه بشيء ولم تناسبْه الفتوى؛ إما لاستغرابه لها، أو لصعوبتها عليه في نظره ذهب يطلبُ مفتياً آخر، وهذا العمل حرامٌ عليه؛ حيث إن تتبُّع الرُّخصِ أو أسهل الأقوال لا يجوزُ في حقِّ المستفتي المقلد، خاصة إذا سأل من يثقُ بدينه وورعه، والإنسان المستفتي متى قام بالواجب فسأل من يظنه أقربُ إلى الحق فقد برئت ذمته فيما بينه وبين الله.

فاتقوا الله عباد الله، ولا تتلاعبوا بدينكم فتسألون هذا وهذا وهذا فتختلفَ عليكم الأمور، وتكونوا ممن اتبعوا أهواءهم.

يقول الله -تعالى- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

المرفقات

التحذير من الإفتاء بغير علم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات