عناصر الخطبة
1/وقوع الناس في الحرام وتركهم للمباح 2/نص حديث إتقاء الشبهات 3/أهمية حديث إتقاء الشبهات وفضله 4/شرح حديث إتقاء الشبهات والفوائد المستفادة منهاقتباس
لقد انتشر الحرام بين الأنام، رغم وضوحِه وبيانه، فمن وقع في الحرام، فهو يقع فيه على معرفةٍ وبيِّنة، فمَن مِنَّا مَن لا يعرفُ أنَّ الإِشْرَاكَ بِاللَّهِ، وَعُقُوقَ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلَ النَّفْسِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ من الكبائر؟ ومَن لا يعرف أنّ أَكْلَ الرِّبَا، وَأَكْلَ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ، وأَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، وعقوقَ الوالدين من الكبائر؟ ومُن يجهل أنَّ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
لقد انتشر الحرام بين الأنام، رغم وضوحِه وبيانه، فمن وقع في الحرام، فهو يقع فيه على معرفةٍ وبيِّنة، فمَن مِنَّا مَن لا يعرفُ أنَّ الإِشْرَاكَ بِاللَّهِ، وَعُقُوقَ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلَ النَّفْسِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ من الكبائر؟
ومَن لا يعرف أنّ أَكْلَ الرِّبَا، وَأَكْلَ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ، وأَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، وعقوقَ الوالدين من الكبائر؟
ومُن يجهل أنَّ اليَمِين الغَمُوسَ من أكبر الكبائر؟ وسأل عبدُ الله بنُ عمرو -رضي الله تعالى عنه-: وَمَا اليَمِينُ الغَمُوسُ؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: "الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ".
ومَن لا يعرفُ أنَّ الْمَيْتَةَ -أي الفطيسة-، وَشربَ الدَّمَ، وَأكلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ، وَالنَّطِيحَةَ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ من المحرمات؟
من لا يعرف أن دِمَاءَ المسلمين، وَأَمْوَالَهم، وَأَعْرَاضَهم حَرَامٌ؟
وفي المقابل؛ من يجهلُ أنَّ الخبزَ والعسل، والماءَ والفواكهَ أنها حلال؟
ومن ينكر أن الزواجَ والزراعة، والتجارة والصناعة من الحلال؟
أم جاء وقتُ هذا الحديث؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ؟" [صحيح البخاري (2059)].
والمشكلةُ تكمن فيما لا نصَّ فيه بتحليلٍ أو تحريم، أو فيما فيه نصٌّ لا يعلمُه كثيرٌ من الناس، كما ثبت عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه- يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ-: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ" وفي رواية: "وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا". "كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ" "وفي رواية: "فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ". "اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ" [رواه مسلم (1599) ونحوه في صحيح البخاري (52)].
وفي رواية أخرى عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" [صحيح البخاري (2051)].
إن هذا الحديث حديث عظيم في ألفاظه ومعانيه، قال الْحَسَنُ طَاهِرِ بْنِ مُفَوِّزٍ الْمُعَافِرِيِّ الأَنْدَلُسِيِّ:
عُمْدَةُ الدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتٌ *** أَرْبَعٌ مِنْ كَلامِ خَيْرِ الْبَرِيَّهْ
اتَّقِ الشُّبُهَاتِ وَازْهَدْ وَدَعْ مَا *** لَيْسَ يَعْنِيكَ وَاعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ
قال النووي عن هذا الحديث: "أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عِظَمِ وَقْعِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ، وَأَنَّهُ أَحَدُ الأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الإِسْلامِ، قَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ ثُلُثُ الإِسْلامِ، وَأَنَّ الإِسْلامَ يَدُورُ عَلَيْهِ، وَعَلَى حَدِيثِ: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ"، وَحَدِيثِ: "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المرء تركه مالا يَعْنِيهُ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّجستانِيُّ: يَدُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ، هَذِهِ الثَّلاثَةُ، وَحَدِيثِ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
وَقِيلَ: حَدِيثُ: "ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ".
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ عِظَمِ مَوْقِعِهِ؛ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ فِيهِ عَلَى إِصْلاحِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي تَرْكُ الْمُشْتَبِهَاتِ؛ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحِمَايَةِ دِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَحَذَّرَ مِنْ مُوَاقَعَةِ الشُّبُهَاتِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْحِمَى، ثُمَّ بَيَّنَ أَهَمَّ الأُمُورِ؛ وَهُوَ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ، فَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مُضْغَةً" إِلَى آخِرِهِ.. فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه.
وأمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ".
فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الأَشْيَاءَ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ:
حَلالٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لا يَخْفَى حِلُّهُ؛ كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ، وَالسَّمْنِ وَلَبَنِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَيْضِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَكَذَلِكَ الْكَلامُ، وَالنَّظَرُ، وَالْمَشْيُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، فِيهَا حَلالٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لا شَكَّ فِي حِلِّهِ.
وَأَمَّا الْحَرَامُ الْبَيِّنُ؛ فَكَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، وَالْبَوْلِ والدم المسفوح، وكذلك الزنى وَالْكَذِبُ، وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالنَّظَرُ إِلَى الأَجْنَبِيَّةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
وأَمَّا الْمُشْتَبِهَاتُ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاضِحَةِ الْحِلِّ وَلا الْحُرْمَةِ، فَلِهَذَا لا يَعْرِفُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلا يَعْلَمُونَ حُكْمَهَا.
وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ، فيعرفون حُكْمَهَا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِصْحَابٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَرَدَّدَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ وَلا إِجْمَاعٌ؛ اجْتَهَدَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ، فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلالا، وقد يكون دليلُه غَيْرَ خَالٍ عَنِ الاحْتِمَالِ الْبَيِّنِ، فَيَكُونُ الْوَرَعُ تَرْكَهُ، وَيَكُونُ دَاخِلا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ".
وَمَا لَمْ يَظْهَرْ لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ مُشْتَبَهٌ؛ فَهَلْ يُؤْخَذُ بِحِلِّهِ؟ أَمْ بِحُرْمَتِهِ؟ أَمْ يُتَوَقَّفُ؟ فِيهِ .. مَذَاهِبَ -صحح النووي- أَنَّهُ لا يُحْكَمُ بِحِلٍّ وَلا حُرْمَةٍ، وَلا إِبَاحَةٍ وَلا غَيْرِهَا؛ لأَنَّ التَّكْلِيفَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالشَّرْعِ... وقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ" أَيْ حَصَلَ لَهُ الْبَرَاءَةُ لِدِينِهِ مِنَ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ، وَصَانَ عِرْضَهُ عَنْ كَلامِ النَّاسِ فِيهِ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنْ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ" مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُلُوكَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ يَكُونُ لِكُلِّ مَلِكٍ مِنْهُمْ حِمًى -يعني قطعة أرض يقتطعها لنفسه يرعى فيها دوابه ومواشيه، كما نقول اليوم: أرض حكومية، هذا يسمى حمى- يَحْمِيهِ عَنِ النَّاسِ، وَيَمْنَعُهُمْ دُخُولَهُ، فَمَنْ دَخَلَهُ أَوْقَعَ بِهِ -الملكُ أو الحكومةُ- الْعُقُوبَةَ، وَمَنِ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ لا يُقَارِبُ ذَلِكَ الْحِمَى؛ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَلِلَّهِ -تَعَالَى- أَيْضًا حِمًى، وَهِيَ مَحَارِمُهُ؛ أَيْ الْمَعَاصِي الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ؛ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ وَالْخَمْرِ وَالْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَذَا حِمَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ مَنْ دَخَلَهُ بِارْتِكَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، وَمَنْ قَارَبَهُ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَمَنِ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ لم يقاربْه، ولا يتعلقْ بشيء يقرِّبُه من المعصية، فلا يدخلُ في شيء مِنَ الشُّبُهَاتِ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ".
يقال: صلح الشيء، وَفَسَدَ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَالسِّينِ.
وَالْمُضْغَةُ، قَالُوا: الْمُرَادُ تَصْغِيرُ الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَدِ، مَعَ أَنَّ صَلاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ تَابِعَانِ لِلْقَلْبِ.
وَفِي هذا الحديث: التأكيدُ عَلَى السَّعْيِ فِي صَلاحِ الْقَلْبِ، وَحِمَايَتِهِ مِنَ الْفَسَادِ.
وَاحْتُجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ لا فِي الرَّأْسِ؛ لقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) [الحـج: 46].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق: 37].
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ" يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ كَثْرَةِ تَعَاطِيهِ الشُّبُهَاتِ، يُصَادِفُ الْحَرَامَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْهُ، وَقَدْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ إِذَا نُسِبَ إِلَى تَقْصِيرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْتَادُ التَّسَاهُلَ وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْهِ، وَيَجْسُرُ عَلَى شُبْهَةٍ، ثُمَّ شُبْهَةٍ أَغْلَظَ مِنْهَا، ثُمَّ أُخْرَى أَغْلَظَ، وَهَكَذَا حَتَّى يَقَعَ فِي الْحَرَامِ عَمْدًا.
وَهَذَا نَحْوَ قَوْلِ السَّلَفِ: "الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ" أَيْ تَسُوقُ إِلَيْهِ -عَافَانَا اللَّهُ تَعَالَى- مِنَ الشَّرِّ.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ" أَيْ يُسْرِعُ وَيَقْرَبُ "أن يقع في الحرام عمدا وصراحة -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-" [شرح النووي على مسلم (11/ 27)].
وكلُّ ذلك وما يستدعي اقترافَ الشبهاتِ، هو استعجالُ الرزقِ وهو للعبد مقسوم، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ" [سنن ابن ماجة (2144)، صحيح الجامع (2742)].
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ؛ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ" [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 27) صحيح الجامع (2085)].
قال المناوي: "إن روح القُدُس" أي الروحُ المقدسة؛ وهو جبريل -عليه السلام-، سمي به؛ لأنه يأتي بما فيه حياة القلب، فإنه المتولي لإنزال الكتب الإلهية، التي بها تحيا الأرواحُ الربانية، والقلوبُ الجسمانية، فهو كالمبدأ لحياة القلب، كما أن الروحَ مبدأٌ لحياةِ الجسد، وأضيف إلى القُدُسِ؛ لأنه مجبولٌ على الطهارة والنزاهة من العيوب، وخَص بذلك -وإن كانت جميع الملائكة كذلك-؛ لأنَّ روحانيتَه أتمُّ وأكملُ. ... "نَفَثَ" تفل بغير ريق "في رُوْعِي" بضم الراء؛ أي ألقَى الوحيَ في خَلَدِي وبالي، أو في نفسي، أو قلبي، أو عقلي، من غير أن أسمعه ولا أراه،.. أما الرَّوع بفتحٍ؛ فهو الفزع لا دخل له هنا: "إنّ نفسا لن تموتَ حتى تستكملَ أجلَها" الذي كتبه لها الملَكُ، وهي في بطن أمها، فلا وجه للولَهِ والتعبِ، والحرص والنصب، إلا عن شكٍّ في الوعد "وتستوعبَ رزقها" كذلك، فإنه سبحانه وتعالى قسم الرزق وقدره لكل أحد، بحسب إرادته، لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، بحسب علمه القديم الأزلي، ولهذا سئل حكيم عن الرزق فقال: "إن قُسِم فلا تعجل، وإن لم يُقسَم فلا تتعب" "فاتقوا الله" أي ثقوا بضمانه، لكنه أمرنا تعبُّدا بطلبه من حله، فلهذا قال: "وأجملوا في الطلب" بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحلَّلة، بغير كَدٍّ ولا حرص، ولا تهافتٍ على الحرام والشبهات "ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق" أي حصوله "أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده" من الرزق وغيرِه "إلا بطاعته" فيه أن الرزقَ مقدَّرٌ مقسومٌ لا بدَّ من وصوله إلى العبد، لكنه إذا سعى وطلبَ على وجه مشروع وُصف بأنه حلال، وإذا طلب بوجه غير مشروع فهو حرام، فقوله: "ما عنده" إشارة إلى أن الرزق كله من عند الله الحلال والحرام.
وقوله: "أن يطلبه بمعصية" إشارة إلى ما عند الله إذا طُلب بمعصية سمي حراما.
وقوله: "إلا بطاعته" إشارة إلى أن ما عند الله إذا طُلب بطاعته مُدح وسُمي حلالا.
وفيه دليل ظاهر لأهل السنة: أن الحرام يسمى رزقا، والكل من عند الله -تعالى- خلافا للمعتزلة" [فيض القدير (3848)].
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
جاء في كتاب "الورع للإمام أحمد، رواية المروزي، ص: 55): "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الشُّبْهَةِ؟ فَقَالَ لِي: "وَتَعْرِفُ الشُّبْهَةَ؟!" قُلْتُ: نَعَمْ! هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي لا يُقَالُ: إِنَّهُ حَلالٌ، وَلا يُقَالُ: إِنَّهُ حَرَامٌ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ.
وقُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: هَلْ لِلْوَالِدَيْنِ طَاعَةٌ فِي الشُّبْهَةِ؟ فَقَالَ: فِي مِثْلِ الأَكْلِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمَا عَلَيْهَا، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَعْصِيَهُمَا، يُدَارِيهِمَا، وَلا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الشُّبْهَةِ مَعَ وَالِدَيْهِ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ تَرَكَ الشُّبْهَةَ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ".
وَلَكِنْ يُدَارِي بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ، فَأَمَّا أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمَا عَلَيْهَا؛ فَلا.
وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُلِ لَهُ وَالِدَانِ يَسْأَلانِهُ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُمَا أَعْنِي مِنَ الشُّبْهَةِ، فَقَالَ: "يُدَارِيهِمَا" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يُطِعْهُمَا عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنْ يَعْصِيَهُمَا، يُدَارِيهِمَا.
وعَنْ عَبَّاسِ بْنِ جُلَيْدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "إِنَّ إِتْمَامَ التَّقْوَى؛ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ الْعَبْدُ فِي مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، حَتَّى يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا؛ يَكُونَ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ بَيَّنَ لِلْعِبَادِ الَّذِي مَصِيرُهُمْ إِلَيْهِ".
وقُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ عِيسَى الْفَتَّاحَ قَالَ: سَأَلْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ هَلْ لِلْوَالِدَيْنِ طَاعَةٌ فِي الشُّبْهَةِ؟ قَالَ: لا! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: "هَذَا شَدِيدٌ" [انتهى [كتاب الورع].
أقول: هذا كلامهم في الشبهات، وأقوالهم في المتشابهات، كلُّها تدل على أنَّ في اتقائها والبعدِ عنها براءةً للدين والعرض، والحديثُ دلَّ على أن المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد وبفسادها يفسد، هي القلب.
قال ابن بطال: "وفيه: أن العقلَ والفهمَ إنما هو في القلب وموطنه، وما في الرأس منه إنما هو عن القلب ومنه سببه" [شرح صحيح البخارى، لابن بطال (1/ 117)].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم