اقتباس
فإنها تثير الاهتمام عند المتلقي، وتحفزه للتفكير، وكلما كان السؤال عميقًا، ملامسًا لحاجات المتلقين؛ كان أكثر تحريكًا لدواخلهم، وقد احتوى القرآن الكريم على أكثر من ستمائة سؤال، لم يكن المراد في أكثرها الجواب، بل المراد هو التفكير، وكثيرًا ما كان...
يعد التشويق من العناصر المهمة في الخطبة، وهو أحد أسرار تأثير الخطبة، لأنه العامل الأكبر في جذب السامع والتأثير فيه، وقد حاولت أن أقدِّم للخطباء الكرام خلاصة تجربة، تجمع بين معرفة خصائص الكلام وبلاغته، وبين ممارسة الخطابة لسنوات عدة، ومن وسائل التشويق:
1. الأسئلة:
فإنها تثير الاهتمام عند المتلقي، وتحفزه للتفكير، وكلما كان السؤال عميقًا، ملامسًا لحاجات المتلقين؛ كان أكثر تحريكًا لدواخلهم، وقد احتوى القرآن الكريم على أكثر من ستمائة سؤال، لم يكن المراد في أكثرها الجواب، بل المراد هو التفكير، وكثيرًا ما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يحرِّك أذهان سامعيه بأسئلةٍ يطرحها، ولعل مِن ذلك ما ورد عنه في خطبة الحج كما عند البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ خَطَبَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ..." الحديث.
2. ذكر الأرقام ذات الدلالة:
وهذا ظاهر في أسلوبه عليه الصلاة والسلام في جذب انتباه المخاطَبين، وذلك لما في الرقم من الإبهام والإجمال، مما يستوجب التفكير في تفسير هذا المبهَم، وعندما يُذكر المراد بهذا العدد يثبت ويستقر، ومِنْ هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «منهومان لا يشبعان: منهوم في علم لا يشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع». [أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ" [رواه مسلم]، وقوله صلى الله عليه سلم: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا..." الحديث [رواه البخاري]، وقوله صلى الله عليه سلم: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ..." الحديث [رواه البخاري].
3. البدء بالمبهمات الأخرى غير الأرقام:
مثل: الاسم الموصول، وضمير الشأن، كقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري في الأدب المفرد: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" [قال الشيخ الألباني: صحيح]، هنا تشتاق النفس لمعرفة مَنْ هذا صفته، فعندما يقول بعدها: "خيرٌ مِنْ الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" يثبت ويستقر المعنى، ومن هذا قول أبي العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
ومثله ضمير الشأن والقصة، وهو الذي لم يتقدم لمرجعه مذكور، مثل قول الخطيب: إنه لأمر جلل، وإنه لحدث عظيم... فهذا يثير عند السامع حب معرفة هذا الذي يتحدث عنه الخطيب.
4. استخدام أدوات التنبيه:
مثل: (ألاَ) و(هلاّ) و(أما)، فإنها تثير انتباه السامع، وتجعله يحضر سمعه وقلبه لتلقِّي الكلام، ومِنْ هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ (ثَلاَثًا)..." الحديث [رواه البخاري].
5. القَسَم:
فإنه إذا بُدئَ به الكلام؛ فإن درجة الاستعداد عند المتلقِّي ترتفع، وأهمية الموضوع عنده تعلو، ولعل مِن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ"، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ..." الحديث [رواه البخاري].
6. التكرار لجملة أو عبارة:
فإن ذلك يوجِد اهتمامًا لدى المخاطَب، ويشعره بأهمية الكلام، ويغريه بالاستماع له، ومِنْ ذلك ما ذكرنا في الأسلوبين السابقين.
7. السكت الخفيف:
فهذا يبعث الحياة في القلوب الساكنة، فعندما يتعجب الخطيب، أو يسأل ثم يسكت، فما أعظم أثر هذا السكت، ومِنْ هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في خطبة الحج «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا». قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فتأمل كيف بعث هذا السكت كل هذه المعاني في نفوس الصحب الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
8. القصة:
فإن في القصة من التأثير ما لا يستطيع المستمع دفعه، إذا أحسنَ الخطيبُ استثمار ذلك، ومن هذا أن يذكر حدثًا موجزًا مهمًّا من أحداث القصة، دون أن يُفصح عن تفاصيلها، فهذا مما يشد السامع ويؤثر فيه ويشوّقه لمعرفة تفاصيلها، ومَنْ تأمّل أول قصة أصحاب الكهف أدرك ذلك.
9. البدء بعبارات تُبيِّن أهمية الموضوع وخطورته وعلاقته بالمتلقي:
كأن يقول الخطيب: "سنحدثكم اليوم عن أمر جلل، يهم الصغير والكبير"، فإن مثل هذا الأسلوب يجتذب انتباه السامع، لأنه يهمه ويتعلّق به، ولعل مما يمثِّل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام أحمد: "ويل للذي يحدث القوم ثم يكذب ليضحكهم، ويل له وويل له" [قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن]، وقوله صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري في صحيحه: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ -مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا"، وجاء عند البخاري أيضًا في صحيحه: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على زينب بنت جحش فَزِعًا يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ»، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ».
10. إخفاء بعض المعلومات المهمة عن المستمعين بغية توضيحها بعد ذلك:
كأن يقول الخطيب: "هل تدركون أيها المؤمنون أن ضحايا التدخين في بلادنا تجاوز... ثم يسكت قليلاً، ثم يقول:لا أستطيع ذكر هذا الرقم المروِّع، لكني سأجلي ذلك في هذه الخطبة".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم