عناصر الخطبة
1/قصة وعبرة 2/وصية الإسلام بالوالدين 3/فنون شكر وبر الوالدين 4/التحذير من عقوق الوالدين 5/وعيد للظالمين وبشارات للمظلومين.اقتباس
بَذلَا حياتهما من أجلك، كم سهرت عيونهم لتنام أنت؟! كم ضحوا براحتهم لترتاح أنت؟! كم أقضَّ مضجعهم صياحك وبكاؤك؟! كم أرَّقهم تدبير معاشك؟! وهم في كل ذلك لا يتضجرون ولا يتململون، بل في غاية السعادة والرضا يعطون ويبذلون!!...
الخطبةُ الأولَى:
أما بعد:
ها هو يقدم من بعيد، من بلاد خراسان... يقطع الجبال والأودية والبلدان، قاصدا بيت الله العتيق...
جاء من تلك المسافة البعيدة، وقت لم يكن هناك مراكب هنيئة، ولا مفارش وثيرة، ولا أجهزة تبريد ولا تدفئة.
السفر طويل، والجهد عظيم، والمشقة كبيرة... ولم تنته الحكاية هنا!
يقف بعرفة، ينفر إلى مزدلفة ويبيت بها، يرمي الجمار، يطوف ويسعى، يقضي كل المناسك ثم يطير إلى صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليستخبره عن جزائه، وقدر إنجازه.
قال: يا ابن عمر، حملت أُمِّي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك، أتراني جزيتها؟ قال: "لا، ولا طلقة من طلقاتها".
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].
أخي المسلم: لعلك سمعت هذه الآية كثيرًا؛ (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)، لكن هل توقفت عندها؟ هل تأملت كيف أن الله -سبحانه- يقرن شكره بشكر الوالدين. وذلك أنه ليس أحد أكثر إنعامًا وتفضلاً عليك من الله -سبحانه-، فهو الذي خلقك ورزقك، ورحمك وأكرمك.
ثم تأتي المنزلة بعد ذلك في الفضل والإنعام لأمك وأبيك.. والداك اللذان بذلا حياتهما من أجلك، كم سهرت عيونهم لتنام أنت؟! كم ضحوا براحتهم لترتاح أنت؟! كم أقضَّ مضجعهم صياحك وبكاؤك؟! كم أرَّقهم تدبير معاشك؟! وهم في كل ذلك لا يتضجرون ولا يتململون، بل في غاية السعادة والرضا يعطون ويبذلون!!
كنت تحزن، كنت تخاف، فلا تجد من مأوى إلا الانكباب في أحضانهم، والنهل من معين حنانهم.
هما أول من يشاركك في أفراحك، ويفرحان بإنجازاتك، ولا والله لا تتم لهما سعادة حتى تقر أعينهما برؤية البسمة في وجهك.
وإننا لو ظللنا يومنا هذا نعدد أفضال والدينا وإنعامهم علينا لما بلغنا عشر المعشار، ولكن حسب المرء منا أن يستحضر عموم الفضل، وأن لا ينسى وافر الجميل، ليدفعه ذلك إلى تطبيق أمر ربه له (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
وإن هذا الشكر المتمثل في البر له فنون كثيرة، نذكر أبرزها فيما يلي:
أولاً: تلمُّس رضاهما، والبعد عن أدنى درجات السخط؛ (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[الإسراء: 23]، تحضر عند الطلب، تلبّي عند الحاجة، تراضي عند السخط، لا عناد، ولا مكابرة، بل (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 24].
جاء رجُلٌ إلى رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقال: جِئتُ أُبايِعُكَ على الهِجرةِ، وترَكتُ أبَوَيَّ يَبكيانِ. فقال: "ارجِعْ إليهما، فأضحِكْهما كما أبكَيْتَهما".
بالله عليك! أي أجر تريد؟! أي سعادة تبتغي؟! أي توفيق ترتجي؟! وأبواك يتحرقان ألمًا بسبب تقصيرك في برهما، وعدم استيفائك لحقوقهما... تلمَّس الرضا للوالدين حتى لو كانا أكفر الكافرين، بل وحتى لو اضطهداك على الدين.
حَلَفَتْ أمُّ سعد بن أبي وقاص أن لا تكلِّمه أبدًا حتى يَكْفُرَ بدِينه، ولا تأكل ولا تشرب، فقال لها سعد: "يا أُمَّهْ، تعلمين واللهِ لو كانت لك مِائةُ نَفْسٍ، فخرجتْ نَفْسًا نَفْسًا؛ ما تركتُ ديني هذا؛ فإن شئتِ فَكُلي، وإن شئتِ لا تأكلي"؛ فأَكَلَتْ، فأنزل الله توجيهًا وتعليمًا: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان: 15]؛ فإذا كان الأمر بالشرك لا يُنْسِي جميل الوالدين، فما الشأن فيما دون ذلك؟!
الفن الثاني من فنون البر: إدخال السرور على قلوبهما، والتفنن في إسعادهما، ورسم البسمة على وجوههما؛ فهذا خبر سعيد تكون أوَّل مَن يبشرهما به، وهذه مناسبة فتكون أول المهدين، والجو جميل اليوم ويحلو بالجلسة واللقاء فتكون أول الحاضرين، ولا تنساهم من لطيف الدعابة، وطيب الكلام، ورقيق المشاعر وغير ذلك من صنوف الإسعاد وإدخال البهجة، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على قلب مسلم"؛ فما بالكم إذا كان هذا المسلم هو الأب والأم؟!
حين روى أبو هريرة -رضي الله عنه- حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لِلْعَبْدِ المَمْلُوكِ الصَّالِحِ أجْرانِ"، قال بعد ذلك: "والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَوْلا الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ، والحَجُّ، وبِرُّ أُمِّي؛ لَأَحْبَبْتُ أنْ أمُوتَ وأنا مَمْلُوكٌ"؛ فالبر عنده ومصاحبة أمه والقيام على حُسْن صحبتها وإسعادها بذلك من أولى الأولويات.
الفن الثالث: استدامة العطاء، فالبر لا يتوقف، والإحسان لا ينتهي، وكل مرحلة من مراحل الحياة، يبرز فيها جانب من جوانب البر، ففي الصغر يبرز جانب الطاعة لكثرة أوامرهما لك، وعند الكبر يبرز جانب الخدمة والقيام على مصالحهما، وبعد الموت يبرز جانب الدعاء وصلة أحبابهما، فالعطاء مستمر، وشكر الجميل مستدام.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ"؛ تلك بعض المقتطفات من فنون البر، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين لنعم ربنا، المعترفين بجميل والدينا.
عباد الله: فإن بر الوالدين سعادة في الدنيا، ونعيم في الآخرة، وتالله ما ذاق السعادة عاق، ولا نال التوفيق من سخط عليه والداه؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أَحَبَّ أنْ يُمَدَّ له في عُمُرِه، وأنْ يُزادَ له في رزقِه، فلْيَبَرَّ والِدَيهِ، ولْيَصِلْ رَحِمَه"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الوالدُ أوسَطُ أبوابِ الجنَّةِ".
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "نِمتُ فرأيتُني في الجَنَّةِ، فسمِعتُ صَوتَ قارئٍ يَقرَأُ، فقُلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذا حارِثةُ بنُ النُّعمانِ. فقال رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: كذاك البِرُّ، كذاك البِرُّ". وكان أبَرَّ النَّاسِ بأُمِّه. وذاك هو جزاء البر وعاقبة أهله.
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل اللهُ -تعالى- لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، مع ما يدِّخر له في الآخرةِ؛ مثل البغيِ وقطيعةِ الرحمِ"؛ وهذا وعيد عظيم لمن قطع رحمه، وعق والديه، وبغى وظلم عباد الله، فالويل لهم في الدنيا ثم الآخرة.
والحديث فيه بشرى لكل مظلوم؛ أنّ الله ناصره، ومنتقم له.. فإلى كل مظلوم اكتوى بنار الظلم، وإلى كل مقهور عاش حياة الغم والهم. إلى كل من اقتُطع ماله ظلمًا، أو هُجِّر من أرضه قسرًا، أو فقد أحبابه فامتلأ غيظًا وكدرًا.
إلى كل هؤلاء نقول: أبشروا فإن لكل ظالم نهاية، ولكل طغيان زوال! هل تظنون أن الله لا يسمع أنينكم، أو تغيب عنه صرخاتكم، أو أنه غافل عن آلامكم؟! لا والله! (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)[إبراهيم: 42].
ولكنها سنن الله في أرضه؛ سنة البلاء والتمحيص للمؤمنين، وسُنة الإمهال والمُحِقّ للكافرين والظالمين.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ. قالَ: ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)".
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "اتَّقُوا دَعْوَةَ المَظْلومِ؛ فإنَّها تُحْمَلُ على الغَمامِ، يقولُ اللهُ: وعزَّتي وجَلالِي لأنْصُرَنَّكِ ولَوْ بعدَ حِينٍ".
فأبشر أيها المظلوم، سيستجيب الله دعاءك، وسترى بعينيك عاقبة من ظلمك، في الدنيا أو الآخرة؛ (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المطففين: 29- 36].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم