عناصر الخطبة
1/ وربك يخلق ما يشاء ويختار 2/اصطفاء الله لبعض خلقه 3/هل الاختيار قَدَر؟ 4/أقسام اختيار الرب تعالى لعبده 5/أهمية اختيار الإنسان لأفضل الأمور 6/أعظم طموحات المؤمن.اقتباس
والله -عزَّ وجلَّ- أكرم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجتباها واصطفاها، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأمور: فجعلهم الله أمة وسطاً, وجعلهم شهداء على الناس, واختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرها وهي الكعبة, واختار لهم سيد الأنبياء وأفضلهم وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-, واختار لهم خير الأديان وهو الإسلام, وأنزل عليهم خير الكتب وأحسنها وهو القرآن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العليم القدير, خلق الخلق ودبّرهم بعلمه وقدرته، وقضى فيهم بأمره، وسلّط بعضهم على بعض بحكمته، وأمد للظالم يستدرجه، نحمده على قضائه، ونشكره على عافيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, من تفكر في خلقه وأفعاله أقر بربوبيته، وأذعن لألوهيته، وعظّمه تعظيمًا، وكبّره تكبيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى واجتباه، وللخير هداه، ومن كل الفضائل أعطاه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الله -عزَّ وجلَّ- خالق الخلق ومدبرهم، له الخلق والأمر -سبحانه-، يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من المخلوقات البشر، واختار من البشر المؤمنين، واختار الأنبياء والرسل من المؤمنين، واختار من الأنبياء والرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمداً -عليهما الصلاة والسلام-, واختار -سبحانه- من الملائكة جبريل, واختار محمداً -صلى الله عليه وسلم- من البشر, واختار من السموات العلا, ومن البلاد مكة, ومن الأشهر المحرم.
والله -سبحانه- فضل بعض الأيام والليالي والشهور على بعض؛ فخير الأيام عند الله يوم النحر يوم الحج الأكبر، وأفضل الليالي ليلة القدر، وأفضل الشهور شهر رمضان، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص: 68].
والله -تبارك وتعالى- خلق جميع المخلوقات، واختار من كل جنس أطيبه، واختصه لنفسه، وارتضاه دون غيره، فإنه تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا يحب إلا الطيب، ولا يقبل من الأقوال والأعمال والكلام والصدقات إلا الطيب, فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى, فله من الكلام الكلم الطيب، الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو، وهو أشد شيء نفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان، والبذاء والكذب، وكل كلام خبيث.
ولا يحب الله من الأعمال إلا أطيبها وهي عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واصطفى -سبحانه- من الكتب القرآن، واصطفى من الكلام أربعاً، وهي: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".
وهو -سبحانه- أعلم بمن يشكره على نعمه فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره، فليس كل محل يصلح لشكره، واحتمال منته: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام: 53] وليس كل أحد أهلاً ولا صالحاً لتحمُّل رسالته، بل لها محال مخصوصة، لا تليق إلا بها، ولا تصلح إلا لها، والله وحده أعلم بهذه المحال: (اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124].
وإذا تأملنا في القرآن الكريم لوجدنا أن الاختيار قد ورد فيه صريحًا وضمنًا، فقد بين الله تعالى في كتابه الكريم أن سياسة الاختيار هي سنة الله في اختيار أنبيائه وعباده الصالحين، قال تعالى في حق بني إسرائيل: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان: 32]، وقال تعالى في حق عباده المؤمنين: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل: 59]، ومعنى الاصطفاء: الاختيار.
وقال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) [فاطر: 32]، وقال تعالى مخاطبا نبيه موسى -عليه السلام-: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) [طه: 13]، كما بين الله تعالى في كتابه الكريم أن سياسة الاختيار للأفضلية هي منهج الأنبياء عند اختيارهم لأصحابهم المقربين، قال تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا) [الأعراف: 155].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن الله -سبحانه- اختار من كلِّ جنسٍ من أجناس المخلوقات أطيبَه، واختصَّه لنفسه، وارتضاه دون غيره، فإنه تعالى طيبٌ لا يحبُّ إلا كل طيب، ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيب، فالطيبُ من كل شيء هو مختَاره تعالى".
واختار الأيسر من الأمور في كل شأنه ما لم يكن إثما، كما قالت أم المؤمنين -رضي الله عنها-: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" [البخاري(3560) ومسلم(2327)].
عباد الله: وقد اصطفى الله من البشر من يبلغ رسالة الخالق إلى خلقه (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) [فاطر: 32]، وفي هذا الاصطفاء رفعة لشأن من اصطفاهم وعلو لقدرهم.
وإذا جئنا إلى موجب اصطفائه -سبحانه- لرسله ابتداءً من آدم -عليه السلام- إلى عيسى إلى محمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، نجد أن آدم كان أول الخلق من البشر، وأنه خلقه تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ويكفيه أولية الخلق، وخلقه -سبحانه- بيديه، وفي الأثر: ثلاث خلقهن الله بيده: "خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، وبقية المخلوقات من كن فيكون، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [يس:82]".
وعيسى -عليه السلام- اصطفى الله مريم لتكون أماً له، واصطفاها حينما نذرت أمها ما في بطنها، واصطفاها حينما ألقوا أقلامهم أيهم يكفل مريم؟ واصطفاها: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [آل عمران:37]، واصطفاها حينما (انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا) [مريم:16-17]، واصطفاها في قوله: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا) [مريم:17-18].
واصطفاها حينما قال لها: (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا) [مريم:19] إلى أن جاءت به قومها تحمله، وجابهوها بتلك الفرية، فجعل الله مصدر تهمتها هو بعينه دلالة براءتها، حين قال لهم: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم:30] إلى قوله: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ) [مريم:34]، وجاء الوحي فكشف ما التبس عليهم بقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران:59].
فهو -سبحانه- يختار من خلقه ما يشاء ومن يشاء لما يريد من الوظائف والأعمال، والتكاليف والمقامات، ولا يملك أحد أن يقترح عليه شخصاً، ولا حادثاً ولا قولاً ولا فعلا (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)، لا في شأن أنفسهم ولا في شأن غيرهم، الاختيار هو الانتقاء والاصطفاء، هو سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
وبين الله تعالى في كتابه الكريم أن سياسة الاختيار هي منهج الحاكم العاقل الذي يختار أفضل العناصر والكفاءات لتسيير شؤون الحكم، قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) [يوسف: 54]، أي: أختاره وزيرا ومستشارا لي.
عباد الله: الاختيار سُنة من الله تعالى في عباده الصالحين، وفي كل جيل يختار ربنا أفضل الأمم لتقود البشرية في وقتها، كما فضلّ بني إسرائيل في وقتهم، وقال: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان: 32]، أما البِشارة: ألَيْس بعد النبي علماء أجِلاء؟ أليس هناك دعاة مُخْلِصون وفقهاء ومُحَدِّثون؟ أليْسَ هناك من دعَوا إلى الله؟، كل هؤلاء بِالمعنى الواسِع اِصْطَفاهم الله وأجْرى على أيْديهم الخير وأَنْطَق لِسانهم بِالحق وجعل قلوب الناس تهْفو إليهم, هذا نوْعٌ من الاصْطِفاء.
وإن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حافلة بكثير من الشواهد التي تبين أهمية الاختيار لأفضل العناصر في هجرته ودعوته وغزواته وجهاده ومشاورته، فقد اختار أبا بكر الصديق ليكون صاحبه في هجرته، واختار مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ليكون سفيرا له في يثرب قبل هجرته، واختار علي بن أبي طالب ليكون داعيته إلى الإسلام في اليمن، واختار معاذ بن جبل ليكون معلما للإسلام في جزء آخر من اليمن.
أيها الإخوة: خلق الله -تبارك وتعالى- الخلق، وجعل لكل منهم كمالاً يختص به هو غاية شرفه، فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه، فإن عدم ذلك انتقل إلى ما دونه وهكذا، حتى إذا عدم كل فضيلة صار كالشوك والحطب الذي لا يصلح إلا للوقود، كالفرس إذا كمل أعد لمركب الملوك، وأكرم إكرام مثله، فإن نقص قليلاً أعد لمن دون الملك، فإن نزل أعد لآحاد الأجناد، فإن تقاصر استعمل استعمال الحمار إما حول المدار، وإما لنقل الزبل، فإذا عدم ذلك كان مصيره الإهمال والإعدام.
وهكذا الآدمي: خلقه الله -عزَّ وجلَّ- ضعيفا ًجهولاً، فإذا كمل وبلغ كماله وذروته صار صالحاً لاصطفاء الله له، فاتخذه رسولاً ونبياً فـ: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124]، فإن كان جوهره قاصراً عن هذه الدرجة صالحاً لخلافة النبوة رشحه لذلك وبلغه إياه، فإن كان قاصراً عن ذلك قابلاً لدرجة الولاية رشح لها، وإن كان ممن يصلح للعبادة والعمل دون المعرفة والعلم جعل من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين، فإن نقص عن هذه الدرجة ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير أصلاً استعمل حطباً ووقوداً للنار والعياذ بالله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [فاطر: 36].
أيها الإخوة: وقد بيّن الله -تبارك وتعالى- أنه يصطفي ويفضل بعض خلقه على بعض، وله في ذلك الحكمة التامة والقدرة العظيمة، فقال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص: 68]، وقال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 33]، وقال الله تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج: 75]. وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 132]، ومعنى ذلك أنّ الدين صافٍ من كل شائِبة ومن كل ريْبٍ وشكٍ وتطرّفٍ وغُلُوّ ومن كل بعدٍ عن الحقيقة.
أيها الإخوة: والله -عزَّ وجلَّ- أكرم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجتباها واصطفاها، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأمور: فجعلهم الله أمة وسطاً, وجعلهم شهداء على الناس, واختار لهم أوسط جهات الاستقبال وخيرها وهي الكعبة, واختار لهم سيد الأنبياء وأفضلهم وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-, واختار لهم خير الأديان وهو الإسلام, وأنزل عليهم خير الكتب وأحسنها وهو القرآن, وأعطاهم وظيفة الأنبياء إلى يوم القيامة, وهي الدعوة إلى الله.
والله -عزَّ وجلَّ- لا يستخدم لدينه والدعوة إليه إلا من يقدم نفسه، فمن علم الله منه الرغبة والطلب الصادق والتضحية استخدمه الله لدينه، وجعله سبباً لهداية الناس، والعامل إنما يستخدمه صاحب العمل إذا قدم نفسه، أما المعرض فإنه لا يستخدم؛ لأنه ليس عنده الطلب.
وقد خلق -سبحانه- أكبر المخلوقات وأعظمها وأوسعها وهو العرش، واختاره فاستوى عليه بأعظم صفة وأوسعها وهي الرحمة، كما قال -سبحانه-: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5].
واختار قلب الإنسان ليكون محلاً لنظره -سبحانه-, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ" [مسلم (2564)]، فالعرش عظيم جداً، والقلب صغير جداً، فإذا كانت (لا إله إلا الله) في قلب الإنسان رجح بالسماوات والأرض، وصار ذلك القلب لائقاً بجلال الله، كما أن العرش لائق بجلال الله -سبحانه- لعظمته، وكماله، وخلوه من العيوب.
والله -عزَّ وجلَّ- يريد من عباده أن يزينوا قلوبهم بالإيمان، وأن تكون خالية من الشرك والعيوب، لتكون لائقة بنظر الله -جل جلاله-، والله -سبحانه- ينظر إلى العمل الذي ينظف القلب، ويطهره من العيوب، ويمقت العمل الذي يلوث القلب ويفسده.
وقد أكرم الله هذه الأمة فجعلها خير أمة أخرجت للناس، وأعطاها وظيفة الأنبياء والرسل، وهي الدعوة إلى الله، وجميع الأمم السابقة هي الآن في القبور تنتظر مجيء هذه الأمة، ورحمة بهذه الأمة جعلها الله خير الأمم وآخر الأمم؛ لئلا يطول عليها زمن الانتظار، وجعلها تعمل قليلاً، وتؤجر كثيراً، وكشف الله لهذه الأمة أعمال وفضائح وأحوال الأمم السابقة مع أنبيائهم؛ لتتعظ وتعتبر بمن خالف أمر الله، وتقتدي بمن أطاع الله ورسله، وستر عيوب هذه الأمة عن الأمم السابقة.
وجعل الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- سيد الأنبياء والرسل، وجعل أمته خير الأمم، واختار منهم السابقين والأولين، واختار منهم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها.
واختار أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأمم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، ووهبهم من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها، واختار -سبحانه- من الأماكن والبلاد والبقاع خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام، وجعل فيها بيته المبارك، ومسجده الحرام، وجعله حرماً آمناً، لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد، ولا يختلى خلاه، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب، وسبباً لدخول الجنة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ" [البخاري (1773) واللفظ له، ومسلم (1349)], وجعل الله -سبحانه- الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، فهو أفضل بقاع الأرض على الإطلاق، وهو في أم القرى، كما أن الفاتحة أم الكتاب.
وقد اختار الله -عزَّ وجلَّ- أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، واختار لهم أوسط القِبل وأفضلها، وهي الكعبة، وهم أوسط الأمم وخيارهم كما قال -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].
فاختار -سبحانه- أفضل القبل لأفضل الأمم، كما اختار لهم أفضل الرسل، وأفضل الكتب، وأفضل اللغات، وأخرجهم في خير القرون، وخصهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأخلاق، وأسكنهم خير الأرض، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل، وموقفهم في القيامة خير المواقف، فهم على تل عالٍ والناس تحتهم.
وقد اتخذ الرب تعالى من الجنان داراً اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه فهو سقفها، وهي الفردوس سيدة الجنان.
أيها الإخوة: إن الله حكيم عليم قسم بين العباد معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم، وهو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح له، وهو -سبحانه- الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات بعلمه وحكمته، وهو -سبحانه- أعلم بمواقع اختياره.
وكما خلق الله العباد وحده، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحاً، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه، وهذا الاختيار دال على ربوبيته ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره.
والله -عزَّ وجلَّ- خلق السموات السبع، واختار العليا منها، وجعل فيها البيت المعمور، وجعلها مستقر المقربين من ملائكته، واختصها بالقرب من كرسيه وعرشه، وأسكنها من شاء من خلقه، فلها مزية وفضل على سائر السموات، ولو لم يكن إلا قربها منه -تبارك وتعالى-، وخلق -سبحانه- الكرسي وجعله محيطاً بالسموات والأرض: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255].
وخلق -سبحانه- العرش، وجعله أكبر المخلوقات وأوسعها وأعلاها، واختاره من بين المخلوقات فاستوى عليه كما قال -سبحانه-: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، وخلق -سبحانه- جنة الفردوس، وفضلها على سائر الجنان، وجعل عرشه سقفها، وغرسها بيده، واختارها لخيرته من خلقه.
عباد الله: واختيار الرب تعالى لعبده نوعان: أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا القسم غير ما اختار له سيده كما قال -سبحانه-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب: 36]، فاختيار العبد خلاف ما اختار الله له مناف لإيمانه وتسليمه، ورضاه بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً.
الثاني: اختيار كوني قدري كالمصائب التي يبتلي الله بها من شاء من عباده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه، ويدفعها ويكشفها، وليس في هذا منازعة للربوبية، وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر، فهذا القدر لا يسخطه الرب، بل يأمر به كما أمر بدفع قدر الجوع بالأكل، وقدر العطش بالشرب، وقدر المرض بالدواء, وهكذا.
وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه، فهو قدر المعائب والذنوب، فالعبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضا بها، ومطلوب منه التوبة منها.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الاختيار وأن يهدينا إلى ما ينفعنا في الدنيا والآخرة، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: لا شك أن الاختيار قدر، والاختيار موجود في هذه الدار، الاختيار له في الشريعة نظر وأحكام وآداب وسياسة، فالمسلم يختار من كل شيء أحسنه وأجوده.
قال ابن القيم -رحمه الله-: فإنَّ الطيبَ لا يناسبه إلا الطيب، ولا يرضى إلا به، ولا يسكن إلا إليه، ولا يطمئن قلبه إلا به, وكذلك لا يألفُ من الأعمال إلا أطيبَها, ومن الأخلاق إلا أزكاها, وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها وأحلها, وهو الحلالُ الهنيء المريء الذي يُغذي البدن والروح أحسن تغذية.
وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها، ومن الرائحة إلا أطيبها وأزكاها، ومن الأصحاب والعشراء إلا الطيبين؛ فروحه طيب، وبدنه طيب، وخُلُقه طيب، وعملُه طيب، وكلامه طيب، ومطعمه طيب، ومشربه طيب، وملبسه طيب، ومنكحه طيب، ومدخله طيب، ومخرجه طيب، ومنقلبه طيب، ومثواه كله طيب، فهذا ممن قال الله تعالى فيه: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) [النحل: 32]، ومن الذين تقول لهم: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73].
ولعلّ من أعظم طموحات المؤمن أن يَصْطَفِيَهُ الله -عز وجل- لِيَكون داعِيَةً إليه؛ هؤلاء الذين عكفوا على العِلْم وتَرَكوا مؤَلَّفاتٍ قيِّمة تجدها في كل بيْتٍ، هؤلاء الذين اصْطفاهم الله ومكَّنَهم من العِلم وجعَلَ لهم بَصَماتٍ واضِحَةٍ في الحياة فهؤلاء أيْضاً بِالمعنى المُوَسَّع ممن اصْطفاهم الله -عز وجل-.
فإذا كنت ممن اِصْطفاه الله -عز وجل- فلَقَد علِم فيك الإخلاص والصِّدق والحب والطاعة والوَرَع فكُنت ممن اِصْطفاهم الله -عز وجل-، ماذا ينتظِرك في الدنيا والآخرة قال تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل: 59].
وإذا كنت ممن اصْطفاه الله -عز وجل- فأنت في سلامٍ؛ في سلامٍ مع نفْسِك وفي سلامٍ مع من هم حوْلَك وفي سلامٍ مع ربك وحياتك سلامٌ وتنْتَقِل بعْدها إلى دار السلام وتَتَّصِل نِعَمُ الدنيا بِنِعَمِ الآخرة.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم