اقتباس
فلا يكفي فهمُ الأدلة وحفظها، بل يهمنا الفقهُ المناسب لتطبيقها ومواضعها، وإلا لم نُحسن الفقه الحقيقي، وألممنا بأجزاء منه..! وهذا الفقه قد يفوت، حتى بعض الفضلاء إذا اندفعوا بالحماس وفاتهم التأمل وحسن التدبير، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لزياد بن لَبيد لما استنكر رفع القرآن في آخر الزمان: " ثَكلتكَ أمُّك يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ..".
- الفقهُ هو الفهمُ وإصابة الحق والحكمة، وسعة العقل قولا وسلوكا. وكما نحتاج إليه لصحة النسك، نحتاج اليه في التطبيقات وحسن فهم الأدلة ومآخذها، ويرى بعضهم أن الفقه أخص من الفهم.
- فلا يكفي فهمُ الأدلة وحفظها، بل يهمنا الفقهُ المناسب لتطبيقها ومواضعها، وإلا لم نُحسن الفقه الحقيقي، وألممنا بأجزاء منه..! وهذا الفقه قد يفوت، حتى بعض الفضلاء إذا اندفعوا بالحماس وفاتهم التأمل وحسن التدبير، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لزياد بن لَبيد لما استنكر رفع القرآن في آخر الزمان: " ثَكلتكَ أمُّك يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ..".
قالوا فقهنا فقلت الفقهُ أفهامُ *** ويرفعُ الله من دانوا ومن ساموا
إن استقاموا ففهمٌ دون غائلةٍ *** وإن أغضّوا فلا نأيٌ وأوهامُ...!
- والفقهُ إذا أُصيبَ هانت المشكلات، وخفّ الجدال، وائتلفَ القوم، وطابت العبادات، وحصلَ السرور، وتسومح مع المخالف، وعُرفت المصالحُ والمفاسد، وبلغنا مقصد الشريعة الغراء.
- وشريعتنا الغراء جاءت بمقصد رفع الحرج عن العباد، ودفع المشاق (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). ورفع الآصار والأغلال التي كانت على من سبقهم، وقد قال تعالى: ( رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا). وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتا ولكن بعثني معلماً ميسرا".
- وعلينا أن نكونَ معتدلين في الفقه الشرعي، ومتوسطين في الفهم والتطبيق، فليس حسنا أخذ الشرع جملة دون فقه للواقع، ولا يصح تركه والتجاسر عليه، بحجة الترخص والتيسير، ولكن القصدَ القصدَ تبلغوا، والفقهَ الفقه تَنجَوا وتفلحوا. (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
- والنَاسُ اليوم بين طرفي نقيض: نصّيٌ متشدد متمسك، ومنطقي متفتح مصلحي، وعليهم الاصطلاح والتوافق على مسار شرعي يحمي النص، ولا يتجاهل الواقع، ويراعي المقاصد والبيئات . ومما قيل: إذا فقهتَ لدين الله فالتمسِ...لحُسن فعلٍ له في الخلق مقتبَسِ..!
- ومن قواعد الفقه الإسلامي المحمودة المشكورة: إذا ضاق الأمر اتسع)، و(المشقة تجلب التيسير). ونصوصها ظاهرة معروفة. ولذلك جاءت شريعة الإسلام بما يناسب الناس وينفعهم، لا ما يضرهم أو يشق عليهم.
- فمن الفقه أولا: اعتقادُ أنه ركن عظيم اجتمعت فيه العبادة المالية مع البدنية والروحية، فليس هو مجرد مشاق، أو تكاليف متعبة تورث الرياضة، واندفاع الأسقام، بل فيه توحيد وإقامة للذكر، وليس أيضا هو روح ورهبانية تحول دون الحركة والجهاد السلوكي، بل يجمع روح العبادتين، وذلك من نعمة الله على عباده.
- ثانيًا: وأن فيه تشريعات عجيبة، وأسراراً غاصة بالحِكم والفوائد النوادر، ولا زال الناسك المتأمل يتعلم منه كلَّ سنة، فاعتبروا يا أولي الألباب..!
- ثالثًا: مع شدة الزحام، المطلوبُ توخي الهدوء والسكينة، كما قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر: "أيها الناس: السكينةَ السكينة... " والبحث عن منافذ السلامة، فلا تتحرك وقت زحمة الناس واندفاعهم، وابتعد عن ساعات الذروة القاتلة، فكم ضاقت من نفوس، وكم عُطلت من سنن، وكم هلكت من أرواح، ولا يكلفُ الله نفسا إلا وسعها .
- رابعا: ومن الفقه: اتباع السنة بلا غلو، والمتابعة بلا مبالغة، مع اعتبار الرخص الشرعية التي رخّصها المصطفى الكريم -عليه الصلاة والسلام-.
- خامسا: وقد يكونُ من الفقه الشرعي ترك بعض السنن وعدم التشدد من جراء التزاحم الصادم، والأعداد الضخمة، فتُترك سننٌ لصون مقاصد كبرى من حفظ النفس، وتحقيق التآلف والتمتع بالطاعة .
- سادسًا: ومن الفقه: اصطحابُ الرفقة الصالحة الواعية، والانضمامُ لحملات جيدة رائعة، تراعي الحدود، وتحفظ القيم، وتعين على مرضاة الله.
- سابعًا: ومن الفقه تركُ التنطع مثلا: في رمي الجمار والتقاطها من مزدلفة خصوصا، وادعاء أنه السنة، أو غسلها، أو التهمم بها، واعتقاد إصابة الشاخص وهو العمود المنصوب للناظرين.
- ثامنًا: وفِي المطاف الحرص على الطواف في الصحن بكلفة، وترك الرواق أو السطح، والدخول في مَقاتل شديدة، أو الطمع في أداء ركعتي الطواف عند المقام، وهناك الاختناق القاتل، مع أنه يجزئ صلاتها في أي مكان من الحرم...!
- تاسعًا: كذلك ترتيب الأعمال يوم العيد إذا تسنى ذلك، وفيه إشقاق على الحملة والرفقة، والأحسن فعلُ الأيسر والأرفق لقوله: "افعل ولا حرج"..!
- قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناسَ على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة..".
- عاشرًا: وهنالك باب علمي يُدعى (رُخص الحج) لا يكاد يذكره بعض المتشددة الذين يلحقون الأذى بالناس، ويتسببون في إحراجهم وإنهاكهم، وقد قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "إنَّما العلم عندنا الرخصةُ من ثقة، فأما التشديد فيُحسنه كل أحد".
وهذه الرخص تؤخذ من العلماء الثقات، وليس كل أحد، قال الفقيه سَحنون المالكي رحمه الله: "يؤخَذُ هذا العلمُ عن الموثوقِ بهم في دينِهم، المَحسوسِ بخَيرِهم، فإنْ أَخَذوا بالتشديدِ؛ فعن علمٍ، وإنْ أَخذوا بالرُّخَصِ؛ فعن علمٍ".
- ومراعاة المفتين لذلك، وما يحف الحج من مستجدات وتطورات مؤثرة فقهيا على النسك والناسك هو الفقه الحقيقي للإسلام، فيراعون بلا تمييع، ويتوسطون بلا تشديد، قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: "إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها ومعرفة الحِكَم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم". وقال العلامة ابن القيّم -رحمه الله-: "الرخص في العبادات أفضل من الشدائد".
- الحادي عشر: ومن رخص الحج: يجوز الإحرام بالمحاذاة لمن قدم برا أو بحرا أو جوا، ولا يُلزم بالذهاب إلى الميقات. ولا يجب النطق بالنسك وتكفي النية القلبية.
- ومن كان كبيرا أو عاحزا، يُضنيه السفرُ والتنقل، أناب من يحج عنه بأجرة.
- وفِي ارتكاب المحظورات للمعذور، جاز فعله، وفدَى لحديث كعب بن عُجره -رضي الله عنه- "لعله يؤذيكَ هوامّ رأسك". أخرجاه.
- الثاني عشر: وجاز للحاج الذهابُ لعرفة مباشرة، ويصح حجه لا سيما إذا كان قارنا ص مفردا، ومبيت منى يوم التروية من السنن .
- الثالث عشر: ويجزئة الوقوفُ بعرفة في أي ساعات النهار، ولا يشترط وقت محدد، ويستمر وقتها إلى صلاة الفجر، لمن تأخر عنها لحديث عروة بن مُضرِّس الطائي -رضي الله عنه-، وصح وقوفه لو نائما مارا، مغمى عليه، جاهلا، قليلا....قال: "منْ أدرَكَ معنا هذه الصَّلاةَ -الفجر- وأتى قبل ذلك عرفاتٍ، ليلًا أو نهارًا؛ فقد تمَّ حَجُّه وقضَى تَفَثَه".
- الرابع عشر: وصح دفعُه منها قبل الغروب، خلافا لمن ألزمه الدم، لحديث عروة السابق، وهو من دُرر المناسك وهباتها، التي امتن الله بها على عباده.
- الخامس عشر: وفِي الرمي يجوز ليلا، وجاز قبل الزوال يوم النفر الأول، وأن يجمع رمي يومين في يوم واحد، لأن أيام منى كلها وقت للرمي، وصوب ذاك ابن قدامة في المغني، وهو أفضلُ من التوكيل المتسع هذه الأيام...
- السادس عشر: وجاز لأصحاب المهن والخدمات في الحج أن يبيتوا في مكة، ولا عليهم شيء إذا كانوا حجاجا، كما رخص صلى الله عليه وسلم للعباس في سقايته. قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص للعباس أن يبيت في مكة من أجل سقاية الحاج، وهذا عمل عام، وكذلك رخص للرعاة أن يتركوا المبيت بمنى؛ لأنهم يرعون رواحل الحجيج، ويشبه هؤلاء من يترك المبيت لرعاية مصالح الناس كالأطباء وجنود الإطفاء، وما أشبه ذلك، فهؤلاء ليس عليهم مبيت، لأن الناس في حاجة إليهم...".
- السابع عشر: وصح تأخيرُ طواف الإفاضة مع الوداع بنية الأكبر أو بنيتين معا، وتأخير الإفاضة إلى آخر شهر ذي الحجة . ومن أحدث في الطواف وقت الزحام صح له إكماله ولا عليه شيء...! وكذلك الحائض المرتبطة برفقة خارج المملكة ولَم تستطع الانتظار جاز لها التحفظ والطواف كما أجاز ذلك بعضهم ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- للضرر اللاحق بتأخرها، ويفتي بذلك الشيخان الجليلان ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله- وغيرهما، قال شيخ الإسلام في هذه المسألة وقد أطال في تحليلها" فَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ "الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى. فَهَذِهِ إذَا طَافَتْ وَهِيَ حَائِضٌ وَجَبَرَتْ بِدَمِ أَوْ بَدَنَةٍ أَجْزَأَهَا ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ وَأَوْلَى...".
- الثامن عشر: والمبيت بمزدلفة لا يُترك.. ولكنه يجوز للضعفة وأرباب النساء والأطفال أن يدفعوا بعد منتصف الليل كما رخص صلى الله عليه وسلم بذلك، ويجوز رميهم جمرة العقبة قبل الناس .
- التاسع عشر: ومن عجِز عن مبيت (مِنى) ولَم يجد موضعا يصلح للآدميين فإنه لا ينام في الطرقات، ويسقط عنه بعد الاجتهاد ولا يلزمه دم، لأنه لم يتعمد ذلك، كم أفتى بذلك الفقهاء الوعاة.
- العشرون: وليس على الحائض والنفساء وداع، وفِي حكمهما المريض، إذا كانوا قد أفاضوا لحديث البخاري -رحمه الله-: "أنه خُفف عن الحائض".
- الحادي والعشرون: ومن الفقه: عدم تكرار الحج إلا لذوي الهيئات علما ودعوة وإدارة، ومن يكن نفعهم متعديا، وأما سواهم فالأفضلُ التصدقُ به على آخرين، أو تحجيج فقراء ومُعوزين، سئل الإمام أحمد -رحمه الله-: عن رجل قد حج حججا وله قرابات فقراء ويريد الحج، أترى له أن يتصدق بما يريد أن يحج به على أقربائه، وهم محاويج؟ قال: يضعها في أكباد جائعة أحب إلي. وفي مواهب الجليل للحطاب: سئل مالك عن الحج والصدقة أيهما أحب إليك؟ فقال: الحج، إلا أن تكون سنة مجاعة. انتهى..! وفِي زماننا هذا اتسعت المجاعات، واشتدت الحروب على كثير من الأقطار، والواجب الوقوف معهم في محنتهم.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الاختيارات: "وأما إذا كان له أقارب محاويج، فالصدقة عليهم أفضل، وكذا إذا كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته، فأما إذا كان كلاهما تطوعاً، فالحج أفضل، لأنه عبادة بدنية مالية، وكذا الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك".
- وليس معنى الرخصة في الحج هجر السنن، والتساهل في الشرعيات المحبوبات، كلا، بل هي عارضة بسبب الزحام والمشقة، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:" ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط".
- وفِي ظل "جائحة كورونا " كان الفقهُ هو تقليل أعداد الحجاج، ومراعاة الأسباب الاحترازية للوقاية من هذا الوباء، ولذلك كان قرار المملكة موفقا في ذلك، وباركه الموقف الشرعي والطبي، وجاء في البيان:".
ومن القواعد المتفرعة عنها: أن الضرر يدفع قدر الإمكان، واطلعت على ما قرره أهل الاختصاص من أن التجمعات تعتبر السبب الرئيس في انتقال العدوى في ظل ما يشهده العالم من جائحة كورونا، وأن منعها أو التقليل منها هو الحل الأمثل حتى يأذن الله -تعالى- بارتفاع هذا الوباء.... فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، لذلك كله من النصوص الشرعية والمقاصد والقواعد الكلية فإن هيئة كبار العلماء تؤيد ما قررته حكومة المملكة العربية السعودية بأن يكون الحج هذا العام 1441هـ بعدد محدود جداً من داخل المملكة حفاظاً على صحة الحجاج وسلامتهم....!
- وقالت وزارة الحج: "وفي ظل استمرار هذه الجائحة، وخطورة تفشي العدوى في التجمعات والحشود البشرية، والتنقلات بين دول العالم، وازدياد معدلات الإصابات عالميًا، فقد تقرر إقامة حج هذا العام 1441هـ بأعداد محدودة جدًا للراغبين في أداء مناسك الحج لمختلف الجنسيات من الموجودين داخل المملكة، وذلك حرصًا على إقامة الشعيرة بشكل آمن صحيًا، وبما يحقق متطلبات الوقاية والتباعد الاجتماعي اللازم لضمان سلامة الإنسان وحمايته من مهددات هذه الجائحة، وتحقيقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس البشرية بإذن الله.
- وبارك ذلك وأيده أكثر الهيئات العلمية كالأزهر الشريف، ومجلس علماء باكستان وغيرهم . وأحسبُ أن هذا موضوع في غاية الأهمية، ولا يزال يحتاج إلى دراسات متينة، وبحوث علمية مستفيضة، أفاضَ الله علينا وعليكم من فضله، وبلّغنا فقه شرعه وأسراره، والحمد لله رب العالمين ..
١٤٤١/١٢/٦هـ
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم