عناصر الخطبة
1/معنى قوله: (فقدره تقديرا) 2/تقدير الله لكل ما في الوجود 3/تقدير الله للإنسان منذ ولادته 4/تقدير الله في خلق المخلوقات 5/تقديرات الله المتعلقة بالليل والنهار 6/تقدير الله للغيث والرزق 7/تقدير الله للمؤمن والكافر \"قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون\" 8/فوائد معرفة تقدير الله 9/حاجة الإنسان إلى التقدير في نظرته للدنيا ولآخرةاقتباس
سبحان الله! إن النطفة التي يضعها الزوج في رحم زوجته، هل هي ذكر أو أنثى، لا يعلم ذلك إلا الله، هل تخرج الأم الجنين من بطنها في تسعة أشهر، أو قبل ذلك، أو بعده لا يعلم ذلك إلا الله، الذي يعلم كل ذلك قبل الأجل، بل منذ الأزل، وهو مسجل عنده في الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بـ...
الخطبة الثانية:
لقد شاء الله أن يخلق الخلائق، وقضى أن يكون ذلك بأقدار، وأوصاف محددة، قال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)[الفرقان: 2].
(فَقَدَّرَهُ) أي هيأه لما يصلح ويليق به بإحكام وإتقان بديع، والله -سبحانه- هو العليم بما سيكون في مخلوقاته، لذلك أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ، ما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد"[صحيح الترمذي 2/228].
إذن، كلُ ما في الوجود من حركات وسكنات، إنما هو كائن بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الروم: 54].
بل جعل سبحانه لكل أمر من الأمور مقدارا معلوما، ووقتا محدودا، كما قال: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)[الطلاق: 3].
ومع ذلك، فالله -سبحانه وتعالى- أعطى كل شيء ما فيه مصلحة، ووجه كل مخلوق إلى ما ينبغي له، فهداه لما فيه خلاصه أما بالتسخير وإما بالتعليم، فقال سبحانه عن نفسه في ذلك: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)[الأعلى: 3].
وقال: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50].
أي أبدع كل شيء خلقه، ثم هداه لمصالحه ولمنافعه.
وتقدير الله -سبحانه وتعالى- للإنسان منذ ولادته، بل وحتى قبل ولادته، بل وحتى قبل أن يكون نطفة في رحم أمه، فالله يعلم كل شيء ولا يخرج عن تقديره أي شيء: (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ)[الرعد: 8].
سبحان الله! إن النطفة التي يضعها الزوج في رحم زوجته، هل هي ذكر أو أنثى، لا يعلم ذلك إلا الله، هل تخرج الأم الجنين من بطنها في تسعة أشهر، أو قبل ذلك، أو بعده لا يعلم ذلك إلا الله، الذي يعلم كل ذلك قبل الأجل، بل منذ الأزل، وهو مسجل عنده في الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وأكد سبحانه على ذلك بقوله عن خلق الإنسان: (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)[عبس: 19].
قدره في بطن أمه أطوارا من نطفة، ثم من علقة إلى أن تم خلقه، وقدر رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وكل هذا يحصل بتقدير الله، وأنعم به من تقدير حكيم صادر عن رب عظيم صدق في وصف نفسه، فقال: (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ)[المرسلات: 21 - 23].
وهذا القدر المعلوم كما هو معروف لدينا ينتهي بالموت، والذي قدره الله أيضا في الوقت الذي أراده سبحانه وتعالى: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)[الواقعة: 60].
مضينا وحكمنا عليكم بالموت، وما كان ذلك بمعجز لنا أبدا.
وتقدير الله -سبحانه وتعالى- يشمل حتى في خلق المخلوقات من حولنا على أنواعها وأشكالها، فيقول سبحانه مثلا: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)[المزّمِّل: 20].
أي هو العالم سبحانه بمقادير الليل والنهار وأجزائهما وساعاتهما، ومتى يطول النهار ويقصر الليل، ومتى يقصر النهار ويطول الليل.
وقال عن السماء وخلقها: (وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[فصلت: 12].
أي زينا السماء الدنيا القريبة منكم بالكواكب المنيرة على وجه الأرض، وحرساً من الشياطين أن تسمع إلى الملأ الأعلى، وهذا الخلق والإبداع هو من صنع الله، العزيز في ملكه العليم بمصالح خلقه.
وقال سبحانه عن نفسه أيضا: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[الأنعام: 96].
(فَالِقُ الإِصْبَاحِ) قال الإمام الطبري: شق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي يسكن فيه الناس عن الحركات ويستريحون: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً) أي بحساب دقيق يتعلق به مصالح العباد، ويعرف بها حساب الأزمان، والليل والنهار: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[الأنعام: 96].
وكل هذا النظام البديع يسير بترتيب، وتنظيم أحكمه، ربنا القادر على كل شيء: (والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[يس: 38 - 40].
سبحانه جعل القمر لمعرفة الشهور، وجعل الشمس لمعرفة الليل والنهار، وفاوت بين سير القمر، وسير الشمس، ولا يمكن للشمس أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، ولا الليل يدرك النهار، فيذهب ضياؤه، فالشمس لها مدار، والقمر له مدار، وكل كوكب من الكواكب له مدار، لا يتعداه ولا يتجاوزه في جريانه، أو دورانه.
أيها الإخوة المؤمنون: إن تقدير الله -سبحانه وتعالى- لما يحدث من حولنا يفوق ما نتخيله أو نتصوره، إن الإنسان منا يرى الغيث، وقد نزل على بقعة من الأرض، ولم يتعداها إلى بقعة أخرى مع أن الفرق بينهما قد يكون أمتارا قليلة.
وإن الإنسان منا يرى أرضا غنية بالمعادن، وأخرى فقيرة، ويرى أرضا مليئة بالأنهار والخيرات وأخرى صحراء قاحلة، يرى الإنسان منا ذ لك ويسمع فهل حدث هذا مصادفة؟
لا، إنه أمر مرسوم ومرتب ومنظم ومقدر من ربنا القادر القدير القائل: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)[الحجر: 21].
وهذا يشمل أيضاً أرزاق العباد ومنافعهم بشكل عام، فالله -سبحانه وتعالى- يعلم أين ينزل رزقه، ومتى وكيف ولمن، ومن الذي يستحق ومن الذي لا يستحق، ومن الذي يصلحه الفقر، ومن الذي يفسده الغنى، كل ذلك يعلمه الله ويقدره بتقديره، لهذا يقول سبحانه: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى: 27].
وتقدير الله -سبحانه وتعالى- أيضا يشمل المؤمن والكافر، فهو بعلمه سبحانه يعلم ما سيحدث من الكفرة والعصاة، وتكذيبهم للرسل، وبطشهم بهم، لذا فهو يعاملهم بما يستحقونه من تقدير وتدبير، كما حصل مع قوم نوح، فقد لبث فيهم نوح -عليه السلام- ألف سنة إلا خمسين عاماً.
فلما كفروا وصدوا واستكبروا، صدر الأمر الإلهي المقدر لهم بعقابهم؛ كما قال تعالى: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ)[القمر: 11].
صدر الأمر إلى السماء بأن تنهمر منها الأمطار كالأنهار ليلا ونهارا بلا انقطاع: (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)[القمر: 12].
وتفجرت الأرض عيوناً تتدفق وتفور بالماء ليلا ونهارا بلا انقطاع: (فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) التقى ماء السماء، وماء الأرض على أمر قد قدر، وأغرقت الأرض بمن فيها، ولما انتهى الأمر قيل لها: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[هود: 44].
وسمعت الأرض نداء ربها وأطاعت، وجعلت تبلع ماءها الذي فوق سطحها، وأقلعت السماء، وأغلقت أبوابها عن الإمطار، فلم تسقط قطرة مطر واحدة، وكانت النتيجة: (وغيض الماء) نقص الماء شيئاً فشيئاً، حتى يبست الأرض، وعادت كما كانت: (وَقُضِيَ الأَمْرُ) وتم تنفيذ أمر الله كما قدره: (فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)[القمر: 12].
وبالمقابل، فتقديره سبحانه وتعالى للمؤمنين، وحفظه لهم، ورعايته لهم، شيء لا يوصف، ولا يتخيله أحد، فهذا موسى -عليه السلام-، في قصته مع فرعون العجب العجاب، ففرعون هو الذي قال: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[النازعات: 24].
وقال: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص: 38].
وهو الذي قال لقومه: (فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)[غافر: 25].
فنفذ الأمر وقتل الآلاف من الأبرياء خوفاً من ظهور موسى.
ولما ولد موسى كان من المفروض أن يقتل هو أيضا، أو هكذا قدر فرعون، لكن الله قدر أن لا يقتل موسى، وإذا قدر الله شيئاً وأراده، فمن المغفل الذي سيقف أمامه، وولد موسى كما تعلمون وتربى وعاش في قصر فرعون حتى كبر، وقد حدث أن عليه السلام قتل قبطياً تشاجر مع إسرائيلي، فأراد فرعون أن يبطش به، فخرج من مصر إلى مدين، وظل بها عشر سنوات، ثم رجع إلى مصر، وفي الطريق حدثت المنة الكبرى من الله -سبحانه-، والذي كلم موسى بالواد المقدس طوى وبين له أنه قد اختاره رسولاً، وتعلمون المحاورة الجميلة التي حدثت بين الله -جل وعلا-، وبين موسى -عليه والسلام- في سورة طه عندما دعا موسى ربه: (قائلا قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)[طه: 25 - 32].
فاستجاب له ربه، وقال له: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)[طه: 36].
أي كل طلباتك قد أجيبت بالكامل، ثم قال له ربه: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى)[طه: 37].
أوحينا إلى أمك وحي إلهام وإرشاد: (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39].
إرميه في الصندوق، وارمِ الصندوق بالبحر: (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ).
إذا كان فرعون يبحث عن موسى ليقتله، فليذهب موسى إليه في قصره، ولنرى هل يستطيع أن يقتله، أنه لن يستطيع: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي).
والمحبة جندي من جنود الله، محبة مني فكل من يراك يحبك يا موسى، وينجذب إليك، ويتعلق بك: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).
لتبقى تحت نظري وعيني: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى)[طه: 40].
جعلت أختك تذهب إلى آل فرعون، وتقترح عليهم في أن تدلهم على أمك كي ترضعك، وسيتولى فرعون الإنفاق عليك في المأكل والملبس والمشرب، وحتى في أجرة الرضاعة التي سيعطيها لأمك: (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ).
رددناك إلى أمك كي لا تتألم، ولا تحزن لفراقك: (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ).
قتلت نفسا بالخطأ، فأنجيناك منها: (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً).
اختبرناك وابتليناك، لنرى صبرك وتحملك، ومن ذلك سفرك إلى مدين، وبقاءك هناك عشر سنوات: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى).
أنت جئت إلى الواد المقدس طوى، لأكلمك، ولأبلغك اختياري لك نبياً، جئت إلى هنا بترتيب وتقدير مني أنا، ولقد حدثت لك كل تلك الحوادث، بتقدير مقدر مني لا يتقدم ولا يتأخر، وكل هذا كان معروفا لدي، وكان معلوما لدي، ومسجلا عندي، من قبل أن أخلقك، بل من قبل أن أخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، بل ومنذ الأزل، وما دمت قد قدرت ذلك، فلن يستطيع أحد أن يقف أمام أمري، أو أن يعطل تقديري؛ لأنني أنا القائل: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً)[الأحزاب: 38].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن من عرف أن الله -سبحانه وتعالى- عنده تقدير كل شيء، من عرف ذلك، فإنه سيشعر بالطمأنينة، وستفيض على نفسه السكينة، والتي تبعده عن القلق والهم والحزن، ويرحم الله إبراهيم بن أدهم، والذي مر على رجل ينطق وجهه بالهم والحزن، فقال له: أيها الرجل: إني سائلك عن ثلاث فأجبني عنها، فقال الرجل: نعم.
فقال إبراهيم: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟
فقال: لا.
قال: أفينقص من رزقك شيء قدره الله؟
قال: لا.
قال: أينقص من أجلك لحظة كتبها الله لك في الحياة؟
قال: لا.
فقال إبراهيم: فعلام الهم والحزن إذن؟ إذن لنثق -يا إخوة- بتقدير الله لنا سبحانه في كل شيء، فهو أعلم بنا منا، وبما يصلح لنا، وبما يصلحنا.
وإذا كان الله -جل جلاله- قد وصف ذاته بالتقدير المقرون بالعلم والحكمة، والرحمة والقدرة، فإنه من فضله يعلم عباده ويدعوهم إلى فضيلة التقدير في مواطنها المناسبة.
فنحن في حاجة إلى التقدير في نظرتنا للآخرة، فنعمل لها ونحسب حسابها، ونعد لأنفسنا، ولحياتنا منهج عمل صالح، نعرف فيه ما يرضي ربنا، وما يغضبه، ولنا بعد ذلك أن نهتم بأمور دنيانا، ولكن ليس على حساب آخرتنا؛ كما قال سبحانه وتعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 77].
ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يوجهنا أيضا إلى فضيلة التقدير، وهي القائمة على التبين والتمهل، وعلى الحكمة والروية، وعلى الإتقان والإحكام، وعلى المسير في الحياة باعتدال وتدبر، فيقول صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا".
ويقول صلى الله عليه وسلم: "الأناة من الله والعجلة من الشيطان".
والتقدير في المعيشة مطلوب أيضا، فلا تلجأ إلى الحرام بدعوى البحث عن الحياة السعيدة، أو الاكتفاء المالي.
انفق على نفسك وأهلك مما رزقك الله، ولو كان قليلا: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)[الطلاق: 7].
ولا تظن أن ضيق رزقك أو قلته، أن هذا بسبب هوانك مع الله، أبدا لا تكن كالذي قال الله فيه: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)[الفجر: 16].
كلا، فأنت لا تعلم أين المصلحة، وأين الخير، والتكريم ليس بالمال، فالله يعطى المال لمن أحب ولمن لم يحب، ولكنه لا يعط الإيمان إلا لمن أحب.
وهكذا، فالتقدير مطلوب في كل أمر، فأنت في حاجة إلى التقدير في تفكيرك، حتى لا تكون طائشاً أحمقاً، متصرفا في أمورك بدون تفكير، أو تشاور أو تمهل.
والتقدير مطلوب أيضا في الكلام في ضبط اللسان، ومطلوب في اللهو، ومطلوب في جميع المباحات، بل هو مطلوب حتى في أداء العبادات، وفي كل شيء، كل هذا مطلوب منا، ولو آمنا به حقيقة، وعملنا به، فستتغير حياتنا إلى الأفضل والأحسن؛ لأن ذلك سيجعل الإنسان يؤمن يقينا أن الكلمة الأولى والأخيرة في كل شأن من شئون هذه الحياة، إنما هي لله، الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو خالق كل شيء، ورب كل شيء، وعلى قدر نصيب الإنسان من هذه العقيدة المضيئة، يكون نجاحه في الحياة وتفوقه على العقبات، وارتفاعه فوق العوائق، فهل نفعل ذلك، نرجو ذلك ونتمناه، وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه.
اللهم صل وسلم على من بلغ البلاغ المبين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واقمع الكفار والملحدين والمنافقين، وكافة الأشرار يا قوي يا عزيز.
اللهم أصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، واجعلهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
اللهم إنا نسألك قلوبا سليمة، وألسنة ذاكرة، وقلوباً شاكرة، ونفوسا مطمئنة.
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
اللهم وفقنا للإيمان بلقائك، والرضا بقضائك، ومتعنا بعطائك، ولا تستدرجنا بنعمائك.
وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك، ربنا توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم