ففروا إلى الله

ناصر بن محمد الأحمد

2014-11-17 - 1436/01/24
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/صدأ القلوب وغفلتها 2/بعض عوامل النجاة من الغفلة 3/أهمية وفضل الفرار إلى الله 4/حقيقة الفرار إلى الله وماهيته 5/حاجة الإنسان إلى الفرار إلى الله في آخر الزمان 6/بعض فوائد وثمرات الفرار إلى الله 7/ضعف الإنسان وفراره إلى القوي 8/أصناف فرار الناس في الدنيا والآخرة

اقتباس

الأمر لا يحتمل الإبطاء -عباد الله- في الرجوع إلى الله -تعالى-. فالفرارَ الفرارَ إليه، فإنه لا مهرب منه إلا إليه. والإنسان في غالب شأنه لا يفر إلا مما يخاف منه أشد الخوف، ولا قدرة له على دفع ضره وأذاه، ولا...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن قلوب العباد أوعية لما أُودِع فيها من العلوم، وظروف لما جُعل فيها من المعارف بالأمور، وهي مع ذلك تصدأ إذا أُهملت كما يصدأ الحديد، وتضطرب وتفور كما يفور المرجل، إذا فتحت أبوابها للوساوس والشكوك والشهوات والشبهات، ويعلوها الران إذا تُرِكت نهباً لإبليس وجنوده، حتى إنها لتصير من أثر ذلك معتمة لا تتمكن من الإبصار ومعرفة الحقائق، حتى لو كانت في غاية الوضوح، ويزداد الإعتام كلما بَعُدَ الناس عن ربهم حتى تصل إلى درجة الإغلاق التام، قال الله -تعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].

 

وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سُقِل قلبه، وإن عاد ِزيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].

 

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختمُ من قِبَل الله -عز وجل- والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص، وعن حذيفة -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشْرِبَها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادّاً كالكوز مجخيّاً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشْرِبَ من هواه".

 

أيها المسلمون: ولا يتمكن العبد من النجاة من ذلك إلا بالفرار إلى الله -تعالى-، والرجوع إلى ربه، والإنابة إليه، والذل والخضوع والانكسار بين يديه، والاستغفار والتوبة، والاعتماد عليه -تعالى- في الأمور كلها، فهو ربه ومليكه، وخالقه ورازقه، يعطي ويمنع، وهو على كل شيء قدير.

 

قلبه بين يديه يقلِّبه كيف يشاء، وهذا هو الفرار إليه الذي طلبه الله منّا بقوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)[الذاريات: 50].

 

فهو سبحانه الملاذ والملجأ وهو المغيث، ولا ملجأ منه تعالى إلاَّ إليه، يقول ابن جرير -رحمه الله-: "فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتِّباع أمره، والعمل بطاعته".

 

والفرار -عباد الله- لا يكون إلا إلى الله -تعالى-، ولا يكون إلى أحد من خلقه، فإن الله -تعالى- هو رب العالمين، وهو الفعال لما يريد، والخلق بأجمعهم لا يقدرون على شيء، إلا ما شاءه الله -تعالى-: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[التكوير: 29].

 

ومن فرَّ إلى غيره لم يمتنع منه حتى يفر الإنسان من نفسه التي بين جنبيه إلى ربه وخالقه ومولاه، فراحة الإنسان وأنسه وسعادته وأمنه واطمئنانه إنما يكون بالفرار مما سوى الله إلى الله -تعالى-.

 

وقد عبر القرآن عن الرجوع إلى الله -تعالى- بلفظ الفرار، لبيان الحزم والجديّة والفورية التي ينبغي أن يتعامل بها في مثل هذا الأمر، فهو ليس أمراً على التراخي، فشأن المخالفة والمشاققة لله ولرسوله أمر جلل مخيف حقه أن يُفَرَّ منه، ويُقلَع عنه، بأقصى ما يمكن.

 

والتعبير بلفظ الفرار يدل على شدة القيود التي تكبل الإنسان، أو على شدة المغريات التي تأسره حتى يحتاج إلى الفرار، وإلا فلا يستطيع أن يخرج من دائرة تأثيرها.

 

كما أن التعبير بالفرار يفصح عن سرعة الإهلاك والعذاب التي تنتظر المتواني أو المتباطئ.

 

فالأمر لا يحتمل الإبطاء -عباد الله- في الرجوع إلى الله -تعالى-.

 

فالفرارَ الفرارَ إليه -يا عباد الله- فإنه لا مهرب منه إلا إليه.

 

والإنسان في غالب شأنه لا يفر إلا مما يخاف منه أشد الخوف، ولا قدرة له على دفع ضره وأذاه، ولا يفر إلى شيء إلا إذا كان يجد عنده الأمن والطمأنينة، فكان في هذا التعبير القرآني الموجز: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)[الذاريات: 50].

 

أصرح الدلالة على أن الشقاء والبؤس والتعاسة والخسارة الكاملة التي لا ربح بعدها، في البعد عن الله والفرار منه إلى غيره.

 

كما أن الخير والفلاح والربح المضمون الذي لا تعقبه خسارة، في القرب إلى الله والفرارُ إليه.

 

أيها المسلمون: والفرار إلى الله كما يكون بالعمل بطاعته والتوبة إليه، يكون أيضاً بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دار البدعة أو المعصية إلى دار السنة أو الطاعة، ومن أعدائه إلى أوليائه، فهو متضمن للولاء والبراء والثبات على الدين، فالأول: فرار بالقلب، والثاني: فرار بالجسد، والثالث: فرار بالقلب والجسد معاً، وكل نوع من الفرار مطلوب من المرء كلٌّ على حسب حاله.

 

والمسلم في حاجة دائمة إلى الفرار إلى الله -تعالى-، والاستغفار والتوبة إليه في كل آن وحين.

 

فبالفرار إلى الله -سبحانه وتعالى- والاستغفار والتوبة يُستَنـزَل الغيث، ويُستجلَب المال والولد، ويشتد الساعد، وتزيد القوة التي يتمكن بها المرء من فعل ما يريد، قال الله -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 8-10].

 

وقال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)[هود: 3].

 

وقال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود: 52].

 

والفرار إلى الله -تعالى- ليس عملاً قلبياً أو وجدانياً فحسب، ثم ينغلق المرء بعدها على نفسه فلا يكون لذلك الفرار أثر في الواقع، ولكنَّ الفرار مبتداه من القلب ثم ينساح على الجوارح كلها، فيغمرها فيه، حتى تكون تابعة له تعمل ما يأمرها به، ولا تمتنع منه، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

 

وكما قال الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: "القلب ملك وله جنود، فإذا صَلَحَ الملك صَلَحَت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده".

 

وجنود القلب هي أعضاء البدن، فإذا كان الفرار انغلاقاً بالنفس عما حولها بحيث لا يؤثر فيها، فهو انسحاب من الحياة وهروب غير محمود، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما فروا إلى الله غيَّروا وجه الأرض حتى عمَّها التوحيد والعدل بعد أن غلب عليها الشرك والظلم.

 

ولا يكون الفرار انسحاباً محموداً من الحياة إلا في آخر الزمان، عند غلبة الجهل وفساد الناس، حين لا يجدي العمل والدعوة، فيكون الفرار حينئذ حفاظاً على الدين ورعاية له، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".

 

وقد يقع في ذهن البعض أو الكثيرين أن الفرار إلى الله -تعالى- والاستغفار والتوبة لا تكون إلا من العاصي، أو عند الوقوع في المعصية.

 

وهذا وَهْمٌ غير صحيح، بل العبد محتاج إلى ذلك، ولو كان على غير معصية، بل يحتاج إليها مع الطاعة في كل تقلباتها قبل الطاعة وفي أثناء الطاعة، وبعد الانتهاء منها، قال الله -تعالى- لعباده وهم في أثناء طاعة من أجلِّ الطاعات، وهي فريضة الحج: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[البقرة: 199].

 

فأمرهم بالاستغفار وهم يؤدون النُّسُك كما أمرهم تعالى بالاستغفار بعدما أمرهم بكثير من الأعمال الصالحة والواجبات، فقال تعالى: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المزمل: 20].

 

وقد نادى الله -تعالى- المؤمنين باسم الإيمان وأمرهم بالتوبة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم: 8].

 

وقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النــور: 31].

 

وهذا رسولنا الكريم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول لأصحابه: "يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة".

 

ويقول: "واللهِ إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".

 

أيها المسلمون: لقد كان الفرار إلى الله -تعالى- هو مصدر القوة والعزة والمنعة التي كان يعيشها المسلمون الأولون، وهو الذي كان سبباً في انتصارهم وظهورهم على من ناوأهم ممن خالفهم وعاداهم، حتى إن أحدهم ليسرع الفرار إلى الله، ولو كان في ذلك موته، فعندما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر للمسلمين محرضاً لهم على القتال: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" قال عُمير بن الحُمام الأنصاري -رضي الله عنه-: "يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟" قال: "نعم" قال: "بَخٍ بَخٍ" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ؟" قال: "لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها" قال: "فإنك من أهلها" فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة" قال: "فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتِل".

 

إنها صورة واحدة من صور الفرار إلى الله -تعالى-.

 

ثم تغيَّر الحال وضعف المسلمون، وصار كثير منهم يفرون إلى عدو الله وعدو المسلمين، مسارعةً فيهم، والتماساً للقوة والعزة منهم، حتى إن منهم من ينصر الكفار على المسلمين من أجل ذلك، وقد نهى الله -تعالى- المؤمنين عن هذا المسلك، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ)[الممتحنة: 1].

 

وبيَّن حقيقة من يسلك هذا السبيل، فقال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)[المائدة: 52].

 

وقال تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا)[النساء: 138-139].

 

فلا عزَّ لنا ولا نصر ولا كرامة إلا أن يكون الفرار إلى الله -تعالى- وحده لا شريك له دون ما سواه من خلقه أجمعين.

 

اللهم اجعلنا ممن يفرون إليك في جميع شؤونهم ...

 

نفعني الله وإياكم بهدي...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: فالإنسان بطبيعة خلقه ضعيف، وقد شهد عليه خالقه بهذا بقول سبحانه: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 28].

 

والإنسان لا يملك لنفسه في أمر الدنيا والآخرة شيئاً، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولقد اعترف بهذا رسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم-، يقول سبحانه لنبيه: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)[الأعراف: 188].

 

فإذا كان رسل الله على هذه الحال من الافتقار إلى الله إذا كانوا متبرئين من حولهم وقوتهم أمام الله فكيف سيكون حال غيرهم من الناس؟

 

وهذا الإنسان الضعيف -عباد الله- لا بد أن يلجأ فيما يعرض له من أمور إلى جهة يراها قوية وقادرة على أن تحميه أو توفر له الأمن والاطمئنان، فإلى من يتجه؟ وعلى من يعتمد؟

 

هنا يأتينا قول الله -سبحانه-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)[الذاريات: 50].

 

وهذه دعوة من الله للفرار إليه، والرجوع والإنابة إلى رحابه.

 

والناس في فرارهم أنواع وأصناف؛ فمنهم من يفر إلى الناس، ومنهم من يفر إلى نفسه، ومنهم من يفر إلى الشيطان، ومنهم من يفر إلى الذنوب والمعاصي، ظاناً أنها تخلصه مما يعاني من ضنك أو ضيق مادي أو معنوي.

 

أما السعيد والموفق، فهو من يفر إلى الله، وينيب إليه، في كل ما يعترضه من أمور.

 

يفر إلى الله إذا خاف من أي شيء؛ لأنه القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، المتعالي فوق كل شيء، فلا شيء يخيفك، ولا أمر يقلقك -يا عبد الله- إلا والله -سبحانه - أقوى منه.

 

بل إن الإنسان حتى إذا خاف من الله يفر إليه، وهذا الأمر لا يكون إلا مع الله -سبحانه-، فكل شيء إذا خفت منه فررت منه، أما الله -سبحانه- فإذا خفت منه فررت إليه، فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه سبحانه، لهذا كان من دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند نومه، وهو ما أمر به أحد أصحابه أن يقوله ويجعله آخر ما يقول قبل نومه: "اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت".

 

وقال بعد ذلك: "فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة"[متفق عليه، من حديث البراء].

 

فإذا خفت من عذابه فررت إلى رحمته، وإذا خفت من سخطه فررت إلى رضاه.

 

هذه معان تغيب على الإنسان في غمرة الحياة، فيجد نفسه في كثير من الأحيان فاراً من الله لأدنى معضلة أو همّ، ولكنها لا تغيب عن الصالحين الخلّص من عباد الله، وعلى رأسهم أنبياؤه -صلوات الله وسلامه عليهم-، فقد كان رسول الله يستعيذ في دعواته من كل صفة عذاب من صفات الله بصفة رحمة من صفاته، ثم يستعيذ به منه خوفاً وفرقاً، يقول في الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".

 

ويقول تعالى على لسان إبراهيم -عليه السلام-: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الصافات: 99].

 

وهذا نوع من الفرار إلى الله، أي ذاهب بعملي وعبادتي وقلبي ونيتي، هذا هو فرار الأنبياء إلى الله -سبحانه وتعالى-، وكثير من الناس لا يفكرون في الفرار الحقيقي إلى الله في هذه الحياة، ويؤخرون وقت الفرار إلى الله حتى إذا قُضي الأمر وفات الأوان أدركوا أنه لا ملجأ إلا الله، ولا ملاذ إلا الله، يقول تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرّ)[القيامة: 7 - 10].

 

ها قد بدأ الإنسان الآن يسأل عن المفر بينما كان في غفلة عنه في غمرة الحياة، فهل ينفعه سؤاله عن المفر في هذه الظروف إن لم يكن فاراً إلى الله في دنياه، يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)[القيامة: 10].

 

أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول: (أَيْنَ الْمَفَرّ)؟ أي هل من ملجأ أو موئل؟

 

قال الله -تعالى-: (كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة(12) ].

 

أي لا نجاة.

 

وهذه الآية كقوله تعالى: (مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ)[الشورى: 47].

 

هذا -يا عباد الله- فرار من الإنسان، يفر فيه من كل شيء، ولكنه فرار متأخر عن وقته.

 

ثم هناك فرار آخر يفره الإنسان حتى من أقرب الناس إليه، لهول ما يرى من أمور عظيمة، هذا الفرار يكون يوم الحساب، يوم يجمع الله الخلائق في صعيد واحد لفصل الحساب، في ذلك اليوم العظيم، وذلك الموقف الرهيب، إذا عاينه الإنسان، ووقف عليه، وعاشه بكل حواسه، عند ذلك لا يصبح حتى لصلة القرابة والدم عنده مكان، ما يهمه في ذلك الموقف إلا نفسه وحسب، يفر الإنسان في ذلك الموقف من كل من يمتّون له بصلة في هذه الحياة، يفر حتى من أبنائه وفلذات كبده، ولكن هل ينفع هذا الفرار إن لم يكن الإنسان من الفارين إلى الله في هذه الحياة الدنيا؟

 

قال الله -تعالى-: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 34-37].

 

فلماذا -عباد الله- نؤخر الفرار إلى العزيز الجبار؟ لماذا نؤخر الفرار إلى الواحد القهار؟ هل نحن مغترون بصحتنا وقوتنا التي هي إلى ضعف وزوال؟ أم نحن مغترون بأموالنا التي لن يلحقنا منها شيء إذا متنا؟ أم نحن عالمون بموعد موتنا وانتقالنا عن هذه الحياة؟.

 

اللهم رحمة أهد بها قلوبنا ...

 

 

 

المرفقات

إلى الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات