عناصر الخطبة
1/ مفاضلة الله بين الخلق وبين الأمم 2/ فضل الأمة الإسلامية على بقية الأمم 3/ أفضلية الأمة متعلقة باتباعها لشريعتهااقتباس
وقد فاقَت الأُمَمَ في خيريَّتها لقِيامِها بأُسُس الدين: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]. قال القرطبيُّ -رحمه الله-: "هذا مدحٌ لهذه الأمة ما أقامُوا ذلك واتَّصَفُوا به، فإذا ترَكوا التغييرَ وتواطَؤُوا على المُنكَر زالَ عنهم اسمُ المَدحِ ولحِقَهم اسمُ الذَّمِّ، وكان... قال -عليه الصلاة والسلام-: "لكمُ الأجرُ مرتين. فغضِبَت اليهودُ والنصارى، فقالوا: نحن أكثرُ عملاً وأقلُّ عطاءً! قال الله: هل ظلمتُكم من حقِّكم شيئًا؟! قالوا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى؛ فعند الله للأتقياء المَزيد، ولهم النجاةُ يوم الوعيد.
أيها المسلمون: خلقَ الله الخلقَ وفاضَلَ بينهم؛ فخلقَ آدم بيده وأسجدَ له الملائكةَ تكريمًا له، ثم أهبطَه وزوجَه إلى الأرض، وتفرَّقَت ذريتُه في الأمصار وطالَت بهم الأزمان، وجعلَهم في الأرض أُممًا مُتفاضِلين، قال -سبحانه-: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) [الأنعام: 165].
وخصَّ هذه الأمةَ بالفضلِ والتكريم على سائر الأُمَم، قال -سبحانه-: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) [الحج: 78].
قال -عليه الصلاة والسلام-: "أنتم تُتِمُّون سبعين أمَّةً أنتم خيرُها وأكرمُها على الله". رواه الترمذي.
وجاء القُرآنُ بمدحِها والثناءِ عليها، قال -جل وعلا-: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10].
قال ابنُ عباس: "أي: شرفُكم".
وقد فاقَت الأُمَمَ في خيريَّتها لقِيامِها بأُسُس الدين: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].
قال القرطبيُّ -رحمه الله-: "هذا مدحٌ لهذه الأمة ما أقامُوا ذلك واتَّصَفُوا به، فإذا ترَكوا التغييرَ وتواطَؤُوا على المُنكَر زالَ عنهم اسمُ المَدحِ ولحِقَهم اسمُ الذَّمِّ، وكان ذلك سببًا لهلاكِهم".
ولكمال دينِها وأفضليَّتِها نسَخَ الله جميعَ الأديان بها، قال -سبحانه-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران: 19].
ولا يقبَلُ الله من أحدٍ دينًا سِواه، قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85].
وأمَرَ جميعَ الخلق باتِّباعه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "والذي نفسُ محمدٍ بيده؛ لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثم يموتُ ولم يُؤمنْ بالذي أُرسِلتُ به إلا كان من أصحابِ النار". رواه مسلم.
وأخذَ الله المِيثاقَ على الأنبياءِ ليتَّبِعوه إن بُعِثَ فيهم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لو أن موسَى كان حيًّا ما وسِعَه إلا أن يتَّبِعَني". رواه أحمد.
وأخبَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الإسلامَ سيبلُغُ الآفاق، فقال: "إن اللهَ زوَى ليَ الأرضَ فرأيتُ مشارِقَها ومغارِبَها، وإن أمَّتي سيبلُغُ مُلكُها ما زُوِيَ لي منها". رواه مسلم.
ووعَدَ الله بنشرِه في جميع الأرض، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ليبلُغنَّ هذا الأمرُ -أي: الدين- ما بلَغَ الليلُ والنهارُ، ولا يترُكُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وبَرٍ إلا أدخلَه الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ". رواه أحمد.
وحفِظَ الله لهذه الأمة دينَها ووعَدَ بإظهاره، فقال -جلَّ شأنُه-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33].
وكتابُها نورٌ وهُدًى وموعظةٌ، هيمَنَ على جميع الكُتب السابِقة حافِظًا لها وأمينًا عليها، قال -عز وجل-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة: 48].
وقد حفِظَه الله تعالى من التبديل والتحريف والزيادة والنُّقصان: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
ومن حفظِ القرآن حفظُ السُّنَّة بالإسناد والرواية، فهي أحدُ الوحيَيْن، قال أبو حاتم الرازي -رحمه الله-: "لم يكن في أمةٍ من الأُمم منذ خلقَ الله آدمَ أمَّةً يحفَظون آثارَ نبيِّهم وأنسابَ سلَفهم مثلُ هذه الأمة".
ونبيُّها خيرُ الأنبياء، قال عن نفسِه: "أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة". رواه مسلم.
وصلَّى الأنبياءُ خلفَه في بيتِ المقدسِ في الإسراء، وأُعطِيَ جوامِع الكلِمِ وبعثَه الله إلى الناس كافَّةً، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سبأ: 28].
وخُتِم به النبيون، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "وإنما حازَت هذه الأمةُ قَصب السَّبق إلى الخيراتِ بنبيِّها محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه أشرفُ خلق الله، أكرمُ الرُّسُل على الله، وبعثَه الله بشرعٍ كاملٍ عظيمٍ لم يُعطِه نبيًّا قبلَه ولا رسولاً من الرُّسُل، فالعملُ على منهاجِه وسبيلِه يقومُ القليلُ منه ما لا يقومُ العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامَه".
وصحابتُه -رضي الله عنهم- هم خيرُ رجالٍ بعد الأنبياء، قال -عليه الصلاة والسلام-: "خيرُ الناس قَرْني". رواه البخاري.
وكما حفِظَ الله دينَه حفِظَ رجالاً يقومون به في الأمصار وعلى مرِّ العُصور، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا تَزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهِرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذَلَهم حتى يأتي أمرُ الله وهم كذلكِ". رواه مسلم.
وعلماؤُها ورثَةُ الأنبياء ولا يجتمِعون على ضلالةٍ، وعلى رأس كلِّ قرنٍ يبعثُ الله من يُجدِّدُ لها أمرَ دينِها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يُجدِّدُ لها دينَها". رواه أبو داود.
وهي شاهِدةٌ على جميع الأُمَم بأن رُسُلَهم قد أنذرَتهم، قال -جل وعلا-: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143]. وهي عدلٌ خِيارٌ في الأُمم، قال -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143].
وتشريعاتُها كذلك تامَّةً كاملةً مُوافِقةً للفِطرة، وأحكامُها على التيسير، قال -جلَّ شأنُه-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة: 185].
وقد ضُيِّق على الأُمم في شرائِعِهم ووسَّع اللهُ على هذه الأمةِ أمورَها، وسهَّلَها لهم؛ فمن يُسرِها: أن الأرضَ مسجدٌ وطهورٌ لها، "فأيُّما رجلٍ أدركَتْه الصلاةُ فعنده مسجدُه وطَهورُه".
وشُرِع التيمُّمُ والمسحُ على الخُفَّين تخفيفًا لها، وعباداتُها مُفضَّلةٌ على عبادات الأُمَم السابِقة؛ فصلواتُها خمسٌ في العدد ولكنَّها خمسون في الأجر، وصُفوفُها كصُفُوف الملائِكة عند ربِّها يُتِمُّون الصُّفُوفَ الأُوَل ويتراصُّون في الصَّفِّ، قال -عليه الصلاة والسلام-: "فُضِّلنا على الناسِ بثلاثٍ: جُعِلَت صُفُوفُنا كصُفُوف الملائِكة، وجُعِلَت لنا الأرضُ كلُّها مسجِدًا، وجُعِلَت تُربتُها لنا طهورًا إذا لم نجِد الماء". رواه مسلم.
وفي المآكِل والمشارِبِ أباحَ اللهُ لها طيباتٍ كثيرةً ليستعينوا بها على طاعته، ومن قبلنا وقَعوا في الظلمِ فحرمَهم طيباتٍ مُباحةً عقوبةً لهم، قال -سبحانه-: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء: 160].
ووضعَ عنها آصارًا وأغلالاً كانت على من قبلَها، قال -سبحانه-: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157]، فتوبةُ سابِقِينا بقتلِ نفوسِها، قال -عز وجل-: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة: 54]، وتوبةُ هذه الأمة: تركُ الذنبِ، والندمُ على فعلِه، والعزمُ على أن لا يعود.
والقِصاصُ في النفس والجِراح كان حتمًا في التوراة على اليهود ولم يكن لهم أخذُ الدِّيَة، وكان في شرع النصارى الدِّيَةُ ولم يكن لهم فيها القِصاص، فخيَّرَ الله هذه الأمةَ بين القِصاصِ والعفوِ والدِّيَةِ، وقال: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة: 178].
وأُحِلَّت لها المغانِمُ وكانت مُحرَّمةً على من سبقَها: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) [الأنفال: 69].
ورُفِع عنها إثمُ الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه، والوسوسةُ في الصدور لا تُؤاخَذُ به ما لم تعمَل أو تتكلَّم.
وأمراضٌ أنزلَها الله بلاءً وعذابًا على الأُمم السابقة، وهذه الأمة من أُصيبَ بها فمات منهم بها وهو مؤمنٌ كان شهيدًا، قال -عليه الصلاة والسلام-: "الطاعونُ شهادةٌ لكل مُسلمٍ". متفق عليه.
أمةٌ مُهابةٌ في القلوبِ بين الأُمم إن تمسَّكَت بدينها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "نُصِرتُ بالرُّعبِ مسيرة شهرٍ".
ولعِزَّتها وكمال دينِها نُهِيَت عن مُشابَهة الكافرين في المُعتقَد؛ فنُهِيَت عن البناء على القبور أو اتِّخاذها مساجِد: "ألا وإن من كان قبلَكم كانوا يتَّخِذون قبورَ أنبيائهم وصالحِيهم مساجد، ألا فلا تتَّخِذوا القبورَ مساجد، إني أنهاكُم عن ذلك". رواه مسلم.
ونُهِيَت عن الصور، قال -عليه الصلاة والسلام- لأم سلمة -رضي الله عنها- لما رأَت كنيسةً فيها تصاوير، قال: "أولئكِ إذا ماتَ فيهم العبدُ الصالحُ -أو الرجلُ الصالحُ- بنَوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئكِ شِرار الخلقِ عند الله". رواه البخاري.
ونُهِيَت عن مُشابَهة الأُمم في الظاهِر؛ فأُمِرَت بإرخاء اللِّحَى وحلق الشاربِ، وعن مُشابَهتها في عبادتها؛ فأكلةُ السّحور مُخالفةٌ لأهل الكتاب، ونُهِيَت عن التشبُّه بالأعرابِ والبهائِم، وخُصَّت بعيدَيْن لا ثالث لهما.
وبقاءُ أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا قليلٌ، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما بقاؤُكم فيما سَلَفَ قبلَكم من الأُمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس". رواه البخاري.
وأعمارُ أفرادِها بين الستِّين والسبعين، ولكنها أمةٌ مُبارَكة شبَّهَها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغيثِ، فقال: "مثَلُ أمتي مثَلُ المطَر". رواه الترمذي.
فبُورِك لها في بُكُورِها، وباركَ تعالى في ليلِها ونهارِها، فأعمالٌ صالحةٌ في أيامٍ وليالٍ عن شهورٍ وأعوامٍ؛ فليلةُ القدر عن ألفِ شهرٍ، وصوم عرفة يُكفِّرُ السنةَ الماضيةَ والباقيةَ، وصيامُ عاشُوراء يُكفِّرُ السنةَ الماضيةَ، وصيامُ ثلاثة أيامٍ من كلِّ شهر كصيامِ سنةٍ.
وتكرَّم عليها بأمكِنةٍ فاضِلةٍ مُبارَكة؛ فصلاةٌ في المسجد الحرام عن مائة ألف صلاةٍ، وصلاةٌ في المسجد النبوي عن ألف صلاةٍ فيما سِواه، وصلاةٌ في المسجد الأقصى عن خمسمائة صلاةٍ.
وأعمالٌ يسيرةٌ شرعَها الله لها وثوابُها عند الله عظيمٌ؛ فمن صلَّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنَّما قامَ نصفَ الليل، ومن صلَّى الفجرَ في جماعةٍ فكأنَّما قامَ الليلَ كلَّه، ومن قرأَ حرفًا من القُرآن فله بكلِّ حرفٍ حسنةٌ.
و"من قال: سبحان الله وبحمده مائةَ مرَّة؛ حُطَّت عنه خطاياه وإن كانت مثلَ زبَد البحر"، و"من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرِسَت له نخلةٌ في الجنة"، ومن قال:" سبحان الله مائةَ مرَّة، كُتِبَت له ألفُ حسنةٍ، أو حُطَّت عنه ألفُ خطيئةٍ"، و"من صلَّى اثنتَي عشرة ركعة في يومٍ وليلةٍ بنَى الله له بهنَّ بيتًا في الجنة".
أمةٌ مُوفَّقةٌ للخير؛ وُفِّقَت لخير يومٍ طلَعَت عليه الشمسُ، قال -عليه الصلاة والسلام-: "هُدِينا إلى الجُمعة وأضلَّ الله عنها من كان قبلَنا". رواه مسلم.
والسلامُ هُدِيَت له هذه الأمة بصِيغتِه وكثرةِ ثوابِه وحُرِم غيرُنا منه، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما حسَدَتكم اليهودُ على شيءٍ ما حسَدَتكم على السلام والتأمين".
وأُجورُها مُضاعفةٌ مرتين، قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد: 28].
قال -عليه الصلاة والسلام-: "لكمُ الأجرُ مرتين. فغضِبَت اليهودُ والنصارى، فقالوا: نحن أكثرُ عملاً وأقلُّ عطاءً! قال الله: هل ظلمتُكم من حقِّكم شيئًا؟! قالوا: لا، قال: فإنه فضلِي، أُعطِيه من شِئتُ". رواه البخاري.
والقابِضُ على دينِه في آخر الزمان له أجرُ خمسين من الصحابة، وللصحابة أكثرُ من ذلك الأجر، والعبادةُ في الهَرْج -أي: الفتن- كهِجرةٍ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفضائلُها تُظهِرُها هذه الأمةُ من الأُمم لتلحَقَ بخير رِكابِها وتدعُو غيرَها للإسلام، قال -عليه الصلاة والسلام-: "فمن آمنَ كان له أجرُه مرتين"، قال -جلَّ شأنُه-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) [القصص: 52- 54].
وكما أكرمَها الله بالدين فتَحَ لها من أرزاق الدنيا ما لم يُفتَح لغيرها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "وأُعطِيتُ الكَنزَيْن: الأحمر والأبيض". أي: الذهب والفِضة. رواه مسلم.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "فبينما أنا نائمٌ أُوتِيتُ بمفاتيح خزائن الأرض فوُضِعَت في يدي". رواه البخاري.
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "وقد ذهبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأنتم تمتثِلُونَها". أي: تستخرِجون ما فيها من الخيرات والكُنوز.
ومنَعَ الله بفضله عن هذه الأمة أن تهلَكَ جميعًا بالجُوع أو الغَرَق كما هلَكَت أممٌ من قبلِنا بالرِّيح والخَسفِ والصَّيحة والغَرَق، قال -عليه الصلاة والسلام-: "سألتُ ربي ثلاثًا فأعطاني ثِنتَيْن ومنَعَني واحدةً؛ سألتُ ربي ألا يُهلِكَ أمتي بالسَّنَة -أي: بالجُوع- فأعطانِيها، وسألتُه أن لا يُهلِكَ أمتي بالغرَق فأعطانِيها، وسألتُه أن لا يجعلَ بأسَهم بينهم، فمنَعنيها". رواه مسلم.
وأعطاه الله أن لا يُسلِّط عليهم عدوًّا من سِوَى أنفُسهم ولو اجتمعَ عليه من بأقطارِها، وأعطَى الله لأمة أمانَيْن يمنعُها من العذاب؛ فحياةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمانٌ، وقد زالَ ذلك الأمانُ بوفاتِه، والأمانُ الآخرُ استِغفارُ الله تعالى، قال -عز وجل-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].
وكما أُكرِمَت هذه الأمةُ في حياتِها أُكرِمَت بعد مماتها؛ فاللَّحدُ في القبرِ لنا والشقُّ لغيرِنا، وأولُ من ينشقُّ عنه القبرُ في المحشَر نبيُّ هذه الأمة، وهو أولُ شافِعٍ وأولُ مُشفَّعٍ.
وتُعرَفُ هذه الأمةُ في عرصات القيامة من بين سائرِ الأُمم ببياضٍ في أعضاء وُضوئِها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن أمتي يُدعَون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء". رواه البخاري.
ولكل نبيٍّ دعوةٌ مُستجابةٌ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- اختبَأَ دعوتَه لأمته يوم القيامة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "لكل نبيٍّ دعوةٌ مُستجابةٌ، فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأُمَّتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ -إن شاء الله- من مات لا يُشرِكُ بالله شيئًا". متفق عليه.
وأولُ من يُجيزُ الصِّراطَ هذه الأمة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ويُضربُ الصِّراطُ بين ظهرَي جهنَّم، فأكونُ أنا وأمتي أولَ من يُجيزُ". رواه مسلم.
ونحن الآخرُون السَّابِقون يوم القيامة؛ فنبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أولُ من يستفتِحُ بابَ الجنة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "آتِي بابَ الجنة يوم القيامة فأستفتِحُ -أي: أطلبُ فتحَه-، فيقول الخازِنُ: من أنت؟! فأقول: محمد. فيقول: بك أُمِرتُ، لا أفتحُ لأحدٍ قبلَكَ". رواه مسلم.
وأولُ الأُمم دخولاً لها أمَّتُه، وهم أكثرُ أهل الجنة، صُفُوفُهم فيها ثمانُون صفًّا، وسائرُ الأُمم أربعون صفًّا، قال -عليه الصلاة والسلام-: "أهلُ الجنة عشرُون ومائةُ صفٍّ، وهذه الأمةُ من ذلك ثمانُون صفًّا". رواه أحمد.
وفيهم "سَبعون ألفًا يدخُلون الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ". متفق عليه. قال -عليه الصلاة والسلام-: "فاستزَدتُّ ربي -عز وجل- فزادَني مع كلِّ واحدٍ سبعين ألفًا". رواه أحمد.
وبعد:
أيها المسلمون: فالمُؤمنُ من هذه الأمةِ مُفضَّلٌ مُكرَّمٌ مُشرَّفٌ منصورٌ، حقيقٌ به أن يعتزَّ بدينِه، وأن يتمسَّك به، وأن يدعُو غيرَه إليه، وأن لا يتشبَّه بأهل الباطِل، وأن يحمدَ الله على كونِه من هذه الأمة ويتزوَّد من الصالِحات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 161].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون: لا يعظُمُ فردٌ من أفراد هذه الأمة إلا بالعمل بأُصول دينِها وشرائِعِها؛ من توحيد الله وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، وإتقان العبادة والإحسانِ للخلق، ومن فاتَه الخيرُ الذي فيها لم ينفَعه كونُه منها، قال -سبحانه-: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبأ: 37].
وقد رأى أقوامٌ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ولم يُؤمِنوا به، فلم ينتفِعوا بذلك، ومن أهانَه الله لم يُكرِمه أحد، والفضلُ والتكريمُ في الإيمان والاتِّباع والمُسابَقة إلى الخيرات، واغتِنام الفضائل.
ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم