عناصر الخطبة
1/تفضيل الله تعالى لبعض الأماكن وبعض الأزمنة 2/وصايا وبُشرى لحُجَّاج بيت الله الحرام 3/المكانة السامية لمكة المكرمة والمدينة المنورة 4/بعض فضائل ومميزات عشر ذي الحجة 5/من أحكام وفقه أيام عشر ذي الحجةاقتباس
إنَّ من نِعَم الله وفضله ومِنَحِه وعطائه أن شرَع لعباده مواسم للخير والطاعات، وضاعَف لهم فيها الثواب والأجر على العبادات، وحثَّهم على اغتنام الفُرَص وإعمار الأوقات، والتعرض للنفحات، والمسارَعة إلى الطاعات، فاستبِقوا الخيرات؛ وسارِعُوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها الأرض والسموات...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله الله رحمةً للعالَمينَ، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتَح به أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص كلام الله، وأفضل الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.
عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بالتقوى؛ فهي المناص، وباتباع السُّنَّة فهي الخلاص؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].
معاشرَ المسلمينَ: إن الله -تعالى- يختار للفضل محلًّا ومكانًا، كما يختار له وقتًا وزمانًا، وأهلًا وأعوانًا، وقد فضَّل في الأرض بعض البقاع، فكانت أشرف البلدان والأصقاع، فجعل مكة مهبط الوحي وقبلة المسلمين، وأُمّ القرى والبلد الأمين، والمسجد الحرام ومنسك الحج ومهوى أفئدة المؤمنين، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 96-97].
أيها الناسُ: قد جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والهَدْي والقلائد، فشرَع الحجَّ إليها، وأمَر نبيَّه إبراهيم -عليه السلام- بالنداء فقال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)[الْحَجِّ: 27-29].
مَعاشِرَ الحُجَّاج، ضيوفَ الرحمنِ: لقد أنفقتُم المالَ وصرفتُم الأوقاتِ، وبذلتُم الجُهْدَ والطاقاتِ، وخضتُم غمارَ التعب والمشقَّة، وجُدْتُم بالغالي والنفيس، تركتُم الأهل والأوطان، وجئتُم إلى أفضل وأشرف مكان، فأَرُوا اللهَ من أنفسكم خيرًا، اغتنِمُوا الفرصةَ لتجديد العهد مع الله، وأخلِصُوا النيَّةَ، واجتهِدُوا في طاعة الله، وأبشِروا فالله أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، ولا يُضيع أجرَ مَنْ أحسَن عملًا، فمن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فاحرصوا على صحة العبادة وقبولها، وجرِّدُوا أعمالَكم من كل ما يخالف الشرع، وأخلِصوا النيَّةَ لله، واصدُقُوا مع الله؛ (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)[الْمُزَّمِّلِ: 20].
معاشرَ الحُجَّاج، ضيوفَ الرحمن، أيها الوافدون إلى الله: هنيئًا لكم، قد وُفِّقتُم للإقبال والتوجه إلى الله، وقَصْده وحدَه لا شريكَ له، هنيئًا لكم، قد اختاركم الله لتلبية النداء، وإجابة الدعاء، وأداء مناسك الحج، فأخلِصوا النيَّةَ وأحسِنوا الأداءَ، هنيئًا لكم، قد جئتُم إلى أفضل البقاع، وحللتُم بأطهر البلاد، ونزلتُم بأرض الحرمين الشريفين، فالمدينة مأرِز الإيمان، وهي مُهاجَرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد حرَّم ما بين لابتيها من عَيرٍ إلى ثورٍ، فمَن أحدَث فيها حدثًا، أو آوى محدِثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعينَ، لا يقبل اللهُ منه يوم القيامة صَرفًا ولا عدلًا.
المدينة درع منيع، وحصن رفيع، وهي كالكير تنفي خبثَها، وينصع طيبُها، وليس من بلد إلا سيطؤه الدجالُ، إلا مكةَ والمدينةَ، ليس من نقابها نقبٌ إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفاتٍ، فيُخرج اللهُ كلَّ كافر ومنافق، ولا يَكِيد أهلَ المدينة أحدٌ إلا انماع كما ينماع الملح في الماء.
وأمَّا مكة فهي أُمّ القرى، ومهبطُ الوحي، وقِبلةُ المسلمينَ، وقد حرَّمَها اللهُ يومَ خلَق السماواتِ والأرضَ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الْحَجِّ: 25]، فاقدروا حجاج بيت الله للمكان قدره، واعرفوا حرمته، واستشعروا فضله؛ (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)[الْحَجِّ: 30]، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الْحَجِّ: 32].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي شرَع لنا دينَ الإسلام، وجعل قِبلة المسلمين بيتَه الحرام، وسنَّ للحج موسمًا في كل عام.
أيها الناسُ: إنَّ من نِعَم الله وفضله ومِنَحِه وعطائه أن شرَع لعباده مواسم للخير والطاعات، وضاعَف لهم فيها الثواب والأجر على العبادات، وحثَّهم على اغتنام الفُرَص وإعمار الأوقات، والتعرض للنفحات، والمسارَعة إلى الطاعات، فاستبِقوا الخيرات؛ وسارِعُوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها الأرض والسموات.
عبادَ اللهِ: أنتم اليوم في الأشهر الحرم، وفي موسم الحج، وبين أيديكم عشر ذي الحجة، التي أقسم الله بها فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1-2]، وهي أفضل الأيام، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفضل أيام الدنيا أيام العشر، عشر ذي الحجة"(رواه البزَّارُ)، وما من أيام أحب إلى الله أن يُتعبَّد له فيها من عشر ذي الحجة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما مِنْ أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرَج بنفسِه ومالِه فلم يَرجِع من ذلك بشيء"(رواه البخاري).
وقد جمَع اللهُ فيها من أنواع العبادة ما لم يجتمع في غيرها من الأيام؛ ففيها الصلاة والحج والصدقة والصيام، وغير ذلك من خصال المعروف، فعن حفصة -رضي الله عنها- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسعَ ذي الحجة ويومَ عاشوراء، وثلاثةَ أيام من كل شهر"(رواه أبو داود).
فاغتنِمُوا -عبادَ اللهِ- مواسمَ الطاعات، وبادِرُوا بالأعمال الصالحات، واستبِقُوا الخيراتِ.
عبادَ اللهِ: وقد نهى الشارع عن إزالة الشعر والأظفار بعد دخول عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من رأى هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي"، وفي رواية: "إذا دخلتِ العشرُ وأراد أحدُكم أن يضحيَ فلا يمسَّ من شَعره وبشره شيئًا"(رواه مسلم).
والنهي عن إزالة الظفر بقَلْمٍ أو كسرٍ أو غيرِه، والمنع من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق، أو أخذه بِنَوْرَةٍ أو غيرِ ذلك من جميع بدنه لغير ضرورة.
وبعد عبادَ اللهِ: فعشر ذي الحجة أعمال عبادة وذِكْر لله -عز وجل-، قال تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الْحَجِّ: 28]، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مِنْ أيامٍ أعظمَ عندَ اللهِ ولا أحبَّ إليه من العمل فيهنَّ من هذه الأيام العشر؛ فأكثِرُوا فيهنَّ من التسبيح، والتهليل، والتكبير، والتحميد"(رواه أحمد)؛ فاذكروا الله -عبادَ اللهِ- يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.
ثم صلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على مَنْ أمرَكم اللهُ بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم انصُرْ دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وَقِنَا عذابَ النار، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ بتوفيقِكَ، وأيِّده بتأييدِكَ، اللهم وفِّقه ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضى، يا سميعَ الدعاءِ، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم احفظ حدودَنا، وانصر جنودَنا المرابطينَ، يا قويُّ يا عزيزُ، اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها. عبادَ اللهِ: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم؛ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم