عناصر الخطبة
1/ غفلة الناس عن شعبان 2/ عبادة النبي في شعبان 3/ الحكمة من وصاية النبي بشعبان 4/ ذكر الله في أوقات الغفلة 5/ العبادة في زمن الفتن والملاحم 6/ ليلة النصف من شعبان 7/ التحذير من الخصومة والشحناء 8/ صيام يوم الشكاقتباس
وذكر أهل العلم حكمًا في تفضيل التطوع بالصيام في شعبان على غيره من الشهور: منها: أن أفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان، لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض ...
أما بعد:
إن المؤمن ليتقلب في هذا الزمان، ويمد الله له في الأجل، وكل يوم يبقاه في هذه الدنيا هو غنيمة له ليتزود منه لآخرته، ويحرث فيه ما استطاع ويبذر فيه من الأعمال ما استطاعته نفسه وتحملته.
وها قد مضى -أيها الأحبة- شهر رجب، ودخل شعبان، وفاز من فاز بالتقرب والاستعداد في رجب لرمضان، ودخل شعبان والناس عنه غافلة.
ولنا مع هذا الشهر المبارك وقفات ننظر فيها حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحال سلف الأمة، الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، مع ذكر بعض فضائله وأحكامه.
عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قلت: يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان!! قال: "ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". [رواه النسائي]. وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يصوم ولا يفطر حتى نقول: ما في نفس رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يفطر العام، ثم يفطر فلا يصوم حتى نقول: ما في نفسه أن يصوم العام، وكان أحب الصوم إليه في شعبان. [رواه الإمام أحمد].
ومن شدّة محافظته -صلى الله عليه وسلم- على الصوم في شعبان أن أزواجه -رضي الله عنهن- كن يقلن: إنه يصوم شعبان كله، مع أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يستكمل صيام شهر غير رمضان؛ فهذه عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها تقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان. [رواه البخاري ومسلم]. وفي رواية عن النسائي والترمذي قالت: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلاً، بل كان يصومه كله، وفي رواية لأبى داود قالت: كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان.
وهذه أم سلمة -رضي الله عنها- تقول: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان. ولشدة معاهدته -صلى الله عليه وسلم- للصيام في شعبان، قال بعض أهل العلم: إن صيام شعبان أفضل من سائر الشهور، وإن كان قد ورد النص أن شهر الله المحرم هو أفضل الصيام بعد رمضان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". [رواه مسلم].
وعند النسائي بسند صحيح عن جندب بن سفيان -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم". وذكر أهل العلم حكمًا في تفضيل التطوع بالصيام في شعبان على غيره من الشهور: منها: أن أفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان، لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالنسبة للصلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ولذلك فإنك تجد رمضان يُسبق بالصيام من شعبان والاستكثار منه، ثم بعد انقضاء رمضان يسن صيام ست من شوال، فهي كالسنن الرواتب التي قبل وبعد الصلاة المفروضة.
ومن الحكم كذلك في الإكثار من صيام شعبان: ما تضمنه حديث أسامة بن زيد المتقدم ذكره وفيه: قلت: يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان!! فبين له -صلى الله عليه وسلم- سبب ذلك فقال له: "ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان"، وماذا أيضًا؟! قال: "وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
إن هذا الحديث تضمن معنيين مهمين:
أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان.
وثانيهما: أن الأعمال ترفع وتعرض على رب العالمين، فأما كون شعبان تغفل الناس فيه عنه، فإن ذلك بسبب أنه بين شهرين عظيمين، وهما الشهر الحرام رجب، وشهر الصيام رمضان، فاشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان؛ لأن رجب شهر محرم، وهذا ليس بصحيح، فإن صيام شعبان أفضل من صيام رجب للأحاديث المتقدمة.
وفي قوله: "يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان"، إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو حتى الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقًا أو لخصوصية فيه، لا يتفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عندهم عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم، ولما كان الناس يشتغلون بغير شعبان عن شعبان فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعمره بالطاعة وبالصيام، ويقول لأسامة لما رآه مستفهمًا عن سبب الإكثار من الصيام في شعبان: "ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه بين رجب ورمضان"، ولذلك قال أهل العلم: وهذه لفتة فتنبه لها -يا عبد الله- قالوا: هذا فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله -عز وجل-، ولذا كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، وكذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- فضل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر كما قال: "إن أفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل"، ولهذا المعنى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يؤخر العشاء لنصف الليل، وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهل، أو غير ذلك؟! فقال حين خرج: "إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة". [رواه مسلم]. وفي رواية: "ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم".
وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بالذكر في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر ولاستيلاء الغفلة على الناس، ولهذا لو نظرت إلى الفضائل والدرجات التي منحت للذاكرين في وقت غفلة الناس تجد شيئًا عجبًا، فهذا الرجل الذي يدخل السوق فيذكر الله، له أجر عظيم؛ لأنه ذكر الله في مكان غفلة الناس، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبني له بيت في الجنة".
ومما يؤكد هذا المعنى ما دار بين طارق بن شهاب وسلمان الفارسي -رضي الله عنه- عندما بات طارق عند سلمان لينظر اجتهاده، قال: فقام يصلي من آخر الليل، فكأنه لم ير الذي كان يظن، فذكر ذلك له، فقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تصب المقتلة، فإذا صلى الناس العشاء صدروا عن ثلاث منازل، منهم من عليه ولا له، ومنهم من له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس، فركب فرسه في المعاصي، فذلك عليه ولا له، هؤلاء الذي يغتنمون غفلات الناس عنهم فيعبون من الفواحش عبًا، ومن له ولا عليه: فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلي، فذلك له ولا عليه، ومن لا له ولا عليه: فرجل صلى ثم نام، فذلك لا له ولا عليه، إياك والحقحقة، وعليك بالقصد وداوم. والحقحقة: هو أن يجتهد في السير ويلح فيه حتى تعطب راحلته أو تقف.
والأجور المترتبة على الاشتغال بالطاعات وقت غفلة الناس كثيرة ومتنوعة، فتعرضوا لنفحات الله -أيها الأحبة- وتلمسوا مرضاته.
ثم اعلم -يا عبد الله- أن إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فيه فوائد:
الفائدة الأولى: إن فعلك لهذه الطاعة يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لاسيما الصيام؛ فإنه سر بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان، فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما في سوقه، ويظن أهل سوقه أنه أكلها في بيته.
الفائدة الثانية في إحياء وقت غفلة الناس بالطاعات أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس إن كان على السنة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الأجر على قدر النصب".
والسبب في أن الطاعات في وقت غفلة الناس شاقة وشديدة على النفوس، هو أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين لهم، فسهلت الطاعات، وتأمل كيف أن كثيرًا من الناس يشق عليهم الصيام في غير رمضان: فإذا جاء رمضان سهل عليهم الصيام، ولم يجدوا مشقة في صيامه؛ وذلك لأن الناس من حولهم يؤدون هذه العبارة الجليلة، والناس كأسراب القطا يتبع بعضهم بعضًا، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: الناس أشبه بأهل زمانهم منهم بآبائهم.
وأما إذا كثرت غفلة الناس تأسَّى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المتيقظين والطالبين لمهر الجنة، وتشق عليهم طاعاتهم، لقلة من يقتدون بهم في هذه الأوقات المغفول عنها، ولهذا المعنى قال -صلى الله عليه وسلم- في حال الغرباء في آخر الزمان: "للعامل منهم أجر خمسين منكم –أي من الصحابة– إنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون". [وفي مسلم]. "فطوبى للغرباء". ولهذا جاء في صحيح مسلم أيضًا من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العبادة في الهرج كالهجرة إلي"، وعند الإمام أحمد بلفظ: "العبادة في الفتنة كالهجرة إليّ"، وسبب ذلك أن الناس في وقت الفتن تستولي عليهم الغفلة، ويتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين، وينشغلون عن عبادة ربهم بهذه المحدثات والمضلات من الفتن، ويكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، متبعًا لأوامره مجتنبًا لنواهيه، محافظًا على سنته وهديه وطريقته -صلى الله عليه وسلم-، في كل زمان ومكان. والفوائد في هذا الباب كثيرة لمن تأملها ووقف معها واستزاد منها.
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن، ولهذه المعاني المتقدمة وغيرها كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الصيام في هذا الشهر المبارك، ويغتنم وقت غفلة الناس وهو من؟! هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولذلك فإن السلف كان يجدّون في شعبان، ويتهيأون فيه لرمضان؛ قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء. وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القران. قال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع. وقال أيضًا: مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان، وها قد مضى رجب فما أنت فاعل في شعبان إن كنت تريد رمضان؟!
هذا حال نبيك وحال سلف الأمة في هذا الشهر المبارك، فما هو موقعك من هذه الأعمال والدرجات:
مضى رجب وما أحسنت فيـه *** وهذا شهر شـعبان المبـارك
فيـا من ضيع الأوقـات جهلاً *** بحرمتها أفق واحـذر بوارك
فسـوف تفـارق اللذات قهـرًا *** ويخلى الموت قهرًا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا *** بتوبة مخلص واجعل مـدارك
على طلب السـلامة من جحيم *** فخير ذوي الجرائم من تدارك
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد: وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن". [رواه الطبراني وابن حبان وهو حديث صحيح].
ولنا مع هذا الحديث الذي يتعلق بالنصف من شعبان أربع وقفات مهمة:
الأولى: أن الله يغفر فيها لكل عباده إلا المشرك، فتفقد نفسك يا عبد الله، وفتش باطنها، فلعلك أن تكون مبتلى بشيء من هذه الشركيات المنتشرة في الأمة، ولا تظنن بنفسك خيرًا، بل فاتهمها في جانب الله وفي تقصيرها، ولا تقل: إني بريء من الشركيات، ولا يمكن أن أقع فيها، ويكفى أنني أعيش في بلد التوحيد، فإن هذا غرور وجهل منك، إذا كان أبو الأنبياء وإمام الحنفاء خليل الرحمن يخشى على نفسه الشرك، بل يخشى على نفسه وعلى بنيه عبادة الأصنام، قال الله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35]، وقد بين إبراهيم ما يوجب الخوف من ذلك فقال: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ).
قال إبراهيم التيمي: من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟! فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به، وبما يخلصه منه، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه؟! فقال: الرياء". ومن عظيم فقه الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد أن جعل بابًا بعنوان: باب الخوف من الشرك ثم ساق الآيات والأحاديث في هذا المعنى، والله -عز وجل- قد حذر نبيه وكل الأنبياء من الشرك، وأوصى إليهم بأن أعمالهم تحبط إن أشركوا، وهم الصفوة من الخلق فقال تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الزمر: 65]، ثم يقول له: (بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ).
الوقفة الثانية: خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس، وأن الله لا يغفر للمتشاحنين، والشحناء هي: حقد المسلم على أخيه المسلم بغضًا له لهوى في نفسه، لا لغرض شرعي ومندوحة دينية، فهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، كما في صحيح مسلم عن أبى هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا". وقد وصف الله المؤمنين عمومًا بأنهم يقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]. قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة، وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، فأقِل -يا عبد الله- حتى تُقال.
الوقفة الثالثة: إحياء بعض الناس لليلة النصف من شعبان، وبعضهم يصليها في جماعة ويحتفلون بأشياء وربما زينوا بيوتهم، وكل هذا من البدع المحدثة التي لم يفعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا صحبه ولا تابعوهم، وهم الحجة لمن أراد سواء السبيل، وما ثبت في هذه الليلة من فضل هو ما قدمناه من أنك يجب عليك أن تحقق التوحيد الواجب، وتنأى بنفسك عن الشرك، وأن تصفح وتعفو عمن بينك وبينه عداوة وشحناء، أما إحداث البدع في هذه الليلة فإن أهلها هم أولى الناس بالبعد عن رحمة الله، وأن ينظروا هم حتى يتوبوا من بدعتهم.
الوقف الرابعة: أن لا يصوم الإنسان بعد منتصف شعبان بنية استقبال رمضان وحتى يحتاط لشهر رمضان بزعمه، فإن هذا من التنطع والغلو في الدين؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان"، فهذا الحديث وما في معناه للمتنطعين والمتشددين الذين يستقبلون رمضان بالصيام بنية الاحتياط لرمضان، فهذا منهي عنه، ولا يدخل في هذا أن يصوم الإنسان ما كان معتادًا له من صيام الاثنين والخميس مثلاً، أو ثلاثة أيام من كل شهر، أو القضاء، أو النذر.
وما له تعلق بهذا أيضًا، حرمة صيام يوم الشك قال عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم. ويوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه: هل هو من رمضان أو من شعبان وهو يوم الثلاثين، فيحرم صومه بنية الاحتياط؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صومًا فليصمه"، فهذا في الرجل الذي له عادة ويصومه بنية التطوع لا بنية الفرض، وأنه من رمضان أو بنية الاحتياط، فالنية هي الفيصل هنا: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
اللهم إننا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم