عناصر الخطبة
1/اختلاط كثير من الأمور في زماننا 2/حاجتنا إلى تدبر آيات الله -تعالى- 3/مظاهر نسيان الإنسان نفسهاقتباس
نسيَ نفسَه من أصبحَ لسانُه يابساً عن ذكرِ اللهِ -تعالى-، فيتحدثُ في جميعِ الأمورِ، ويفتحُ جميعَ المواضيعِ، ويُناقشُ جميعَ القضايا، في المجالسِ بالحديثِ، وفي وسائل التواصلِ بالمراسلة، وأما لسانُه ففاترٌ عن ذكرِّ ربِّه -تعالى-؛ إنَّها -واللهِ- غفلةُ القلبِ وليستْ غفلةُ اللِّسانِ...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
أَمَّا بَعْدُ: عندما نعيشُ في زمانٍ، تتسارعُ فيه الأحداثُ، وتختلطُ فيه الأمورُ، وتتغيَّرُ فيه الثَّوابتُ، وتمسي الأخبارُ غريبةً، وتُصبحُ حقائقُنا عجيبةً، ونتأسفُ على ما فاتَ، ونخافُ مما هو آتٍ، وهمومُ الحياةِ تطحنُنا طَحناً، ومشاغلُ الدُّنيا تَعجُنُنا عَجناً؛ فيذهلُ الإنسانُ بهذا الكَّمِّ الغزيرِ المُتسارعِ من المُتغيِّراتِ، فلا يشعرُ بطعمِ حياةٍ ولا راحةِ أمواتٍ.
هنا ينبغي لنا أن نقفَ وقفةَ صِدقٍ، مع قولِه -تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر: 19]، لا إلهَ إلا اللهُ, هل هناكَ من ينسى نفسَه؟!، وكيفَ ينسى نفسَه التي بينَ جنبيهِ؟؛ إنَّها -واللهِ- حقيقةٌ قرآنيةٌ صادقةٌ، فمن نسيَ اللهَ -تعالى- بنسيانِ ذكرِه وعبادتِه؛ أنساهُ اللهُ -تعالى- نفسَه، فلا يعملُ ما ينفعُها في الدُّنيا والآخرةِ، وتراهُ في الدُّنيا يُتعبُ جِسمَه وعقلَه، ولكن ليسَ إلى عملٍ جليلٍ، ولا إلى هَدفٍ نَبيلٍ.
نسيَ نفسَه من نسيَ الغايةَ العُظمى من خلقِه؛ فها هو يسعى، ويذهب، ويروح، وتراه مشغولاً، لا يستطيعُ أن يَحُكَّ رأسَه، ولكن إذا تأملتَ في عملِه وكلامِه، في يومِه وليلتِه، لا تكادُ ترى فيها شيئاً للهِ -تعالى-، فأينَ ما أوصانا به -سبُحانَه-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162، 163]؟، فلنسألْ أنفسَنا: هل جعلنا محيانا، لمن خلقنا ورزقنا وأحيانا؟.
نسيَ نفسَه من أصبحتْ صلاتُه ميِّتةً، سجودٌ وركوعٌ لا روحَ فيها ولا خشوعٌ، إنما حركاتٌ وكلماتٌ، لم يستشعرْ أنَّه الموعدُ مع ربِّ العالمينَ، ولم يتلذَّذْ باللِّقاءِ مع خالقِ الأولينَ والآخرينَ؛ ففي الصَّلاةِ مُناجاةُ المُحبينَ، وفيها تُطفأُ نارُ المُشتاقينَ، فينبغي إذا وقفنا في الصفِّ وقبلَ أن نرفعَ أيديَنا بالتَّكبيرِ، أن نتذكَّرَ قولَ نبيِّنا -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، "وجُعلتْ قرَّةُ عيني في الصَّلاةِ"، ولنقلْ كما قالَ: "أرِحْنا بها يا بلال".
نسيَ نفسَه من أصبحَ لسانُه يابساً عن ذكرِ اللهِ -تعالى-، فيتحدثُ في جميعِ الأمورِ، ويفتحُ جميعَ المواضيعِ، ويُناقشُ جميعَ القضايا، في المجالسِ بالحديثِ، وفي وسائل التواصلِ بالمراسلة، وأما لسانُه ففاترٌ عن ذكرِّ ربِّه -تعالى-؛ إنَّها -واللهِ- غفلةُ القلبِ وليستْ غفلةُ اللِّسانِ؛ كما قالَ -تعالى-: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)[الكهف: 28]، ولو ذكرَ قلبُه لتحرَّكَ لسانُه، ولتغيرَ زمانُه، ومُلئتْ بالأشجارِ جِنانُه.
نسيَ نفسَه من أطلقَ لنفسِه هَواها، وسَحرتهُ الدُّنيا بسِحرها، وأسقته الشَّهواتُ من سُكراها، وحُشر يومَ القيامةِ يسألُ عن عَماها؛ (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 124، 126].
نسيَ نفسَه من خَسِرَ الشهورَ والسِّنينَ؛ في إضاعةِ وقتِه الثَّمينِ، في متابعةِ سفاهةِ الآخرينَ، فلا استفادَ دُنيا ولا دينَ؛ (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 99، 100].
نسي نفسَه من أرهقَ نفسَه بكثرةِ الخصوماتِ، وحملَ في قلبِه الغِلَّ والكَراهاتِ، وأصبحَ أسيراً للأمراضِ والآهاتِ، حتى أمسى وحيداً من كثرةِ العداواتِ، فدَعوا الخصوماتِ؛ فإنها في الدُّنيا ملامةٌ، وفي الآخرةِ ندامةٌ؛ (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88، 89].
أقولُ ما تَسمعونَ, وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله, والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آلهِ وصحبهِ ومن والاه, وبعد:
الحمدُ للهِ الملكِ المجيدِ، الذي يُبدئُ ويُعيدُ، ويفعلُ في خلقِه ما يريدُ، وصلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه، واستنَّ بسنتِه، وسارَ على نهجِه، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ.
أمّا بعدُ: نسيَ نفسَه من لم يُبالِ في مكسبِه ومعاملاتِه أحلالٌ أم حرامٌ؟! فالمُهمُّ هو زيادةُ الرَّصيدِ؛ فيموتُ قلبُه ولا ينتبُه إلى آثارِ ذلكَ من نشوزِ زوجتِه، وعقوقِ أبنائه، وأمراضِ نفسِه وأهلِه، وخرابِ سيارتِه، وفسادِ علاقاتِه، ومحقِ بركةِ مالِه وأوقاتِه، فيكثرُ مالُه ولكنَّه لا يزالُ المسكينُ يرى الفقرَ بينَ عينيهِ؛ مِصداقاً لقولِ الحبيبِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ؛ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ".
نسيَ نفسَه من نسيَ أنَّه قادمٌ إلى يومٍ عظيمٍ، يومَ يقومُ النَّاسُ لربِّ العالمينَ؛ (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49]، وكَانَ الفُضيلُ بنُ عِياضٍ -رَحمَه اللهُ- إذا قَرأَ هذه الآيةَ يَقولُ: "يا وَيلتاهُ! ضَجُّوا إلى اللهِ -تعالى- من الصَّغائرِ قَبلَ الكبائرِ".
نسي نفسَه من نسيَ نفسَه؛ فلا ينتبهُ إلى انصرام الأعمارِ، ولا تفيدُ فيه موعظةُ واعظٍ، ولا يتذكرُ من نصيحةِ ناصحٍ، ولا ينتبه إلى تحذيرِ النَّذيرِ، حتى يسمعَ ذلكَ النِّداءَ الأخيرَ؛ (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 37].
اللهم أعنَّا على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عبادتِك، اللهم يا مقلَّبَ القلوبِ صرِّف قلوبَنا على طاعتك، اللهم اجعلنا لك ذاكرينَ، لك شاكرينَ، لك موحِّدينَ، لك مُصلِّين، لك تَائبينَ مُنيبينَ، اللهم بيِّض وجوهَنا يومَ نَلقاك، وأجِرنا مِن خِزي الدنيا، وعذابِ الآخرةِ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وسائرِ أهلينا، اللهم مَن كان مِن آبائنا وأمهاتِنا وأهلينا ميْتًا فامنُن عليه بعفوِّك ومغفرتِك ورضوانِك، واجعله في قبرِه مُنعَّمًا، ومِن كانَ مِنهم حيَّا فأعنه على طاعتِك، وارزقنا بِرَّه وإسعادَه، واختم لنا وله هذه الحياةِ بخيرٍ، اللهم أصلحْ نساءَنا ونساءَ المسلمينَ، وأبناءَنا وأبناءَ المسلمينَ، وسلِّمهم مِن الفتنِ والشُّرورِ، وخُذ بأيديهم إلى الخيرِ والرُّشدِ، والسِّترِ والعِفَّةِ والفَضيلةِ، اللهم ارفع الضُّرَ عن المتضررين مِن المسلمينَ في كلِ بلادٍ، اللهم وفِّق ولاةَ أمورِ المسلمينَ إلى نَصرِ التوحيدِ والسُّنةِ، وقمْعِ الفسادِ والرذيلةِ، وخُذ بنواصيهم إلى ما يُرضيك، ويُعلى أمْرَ الإسلامِ والمسلمينَ؛ إنَّك سميعُ الدعاءِ.
فصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم