عناصر الخطبة
1/ التحذير من الظلم 2/غياب العدل بين الأولاد من الظلم 3/أضرار هذه الظاهرة 4/ومن صور المفاضلة بين الأولاد 5/العدل بين الأولاد واجب.اقتباس
فهل ترضى -أيها الأب- ذلك، وأن يتهمك أبناؤك بأنك ظالم، ويتسلل إلى أنفسهم شيء من الكراهية لك، ويزرع الشيطان بذور الشحناء بين أبنائك بسببك، لأنك أعطيت هذا أكثر من هذا أو فضلته عليه، وقد جاءت الشّريعة بسدّ كلّ طريق يوصل إلى الحقد والشَّحْنَاءُ والعداوة والبغضاء بين المسلمين عموما فكيف بالأخ تجاه أخيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك الحق الجليل، الحكم العدل الذي يقول الحق ويهدي السبيل، أحمده –سبحانه- على سوابق فضله الجزيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير ولا مثيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أرسله بالهدى ودينه الحق بقواطع الدليل، أمر بالعدل بين الأولاد ونهى عن التفضيل، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: نريد اليوم أن نتحدث عن ظاهرة خطيرة منتشرة في مجتمعنا، وتكتوي بلهيب نارها كثير من البيوت في واقعنا، ويشتكي منها كثير من أبنائنا وبناتنا، إنها ظاهرة فقدان العدل بين الأبناء.
إنها والله مصيبة كبيرة وآفة عظيمة يقع فيها بعض الآباء والأمهات، فتجده يقرب هذا الابن ويبعد ذاك، ويعطي هذا ويمنع ذاك، ويشعر هذا بأن له من القدر والرتبة ما ليس لذاك، ومن هنا يأتي الظلم، وتتولد الفتن، وينتشر الحسد، وتستفحل المشاكل.
لو تأمل الواحد منا في كتاب الله -سبحانه وتعالى- لوجد أن الله -جل وعلا- حذر من الظلم أشد التحذير، وأكثر من ذكر كلمة الظلم والظالمين عشرات المرات، وما ذاك إلا بسبب العاقبة الوخيمة للظلم وشناعته، وعظم جرمه، فكيف إذا كان هذا الظلم واقعاً على الأبناء والمقربين؟.
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً *** عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ
لقد قص الله -سبحانه وتعالى- علينا قصة يوسف -عليه السلام- وحسد إخوانه له، وتآمرهم عليه، ورميهم به في البئر، وغيرها من الجرائم الشنيعة والأفعال القبيحة التي قاموا بها ضده، والسبب الذي بدا لهم في ذلك فجعلهم يتصرفون هذه التصرفات الحمقاء هو كما قال الله عنهم: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [يوسف 8: 9].
لقد مال قلب يعقوب -عليه السلام- لابنه يوسف دون إخوانه، فأحسوا بذلك دون أن يشعر يعقوب بهذا، أما هم فقد صرح بعضهم لبعض بذلك وعرفوه، فتأجج الحقد في نفوسهم حتى تآمروا على قتل يوسف والتخلص منه طمعاً في كسب ود أبيهم وحبه، فقالوا: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) [يوسف:9-10]؛ فتآمروا عليه حتى ألقوه في غيابة الجب حسداً عليه وتآمراً ضده، بسبب هذا الإحساس في نفوسهم على أبيهم تجاه يوسف -عليه السلام-.
إن غياب العدل بين الأولاد وفقدانه ذنب كبير وخطير، بل إنه كبيرة من أكبر الكبائر، ومن أعظم صور ذلك، عدم العدل بين الأولاد في الهدية أو العطية أو الهبة والصدقة ، فالتمييز بين الأولاد والتفريق بينهم في مثل هذه الأمور يسبب الحقد والكراهية بين بعضهم البعض، ويدفع بهم نحو العداوة، ويشعرهم بالنقص والقصور.
وكم هي المآسي والأحزان التي تعج بها بعض البيوت نتيجة للظلم والتمييز العنصري، والتفريق بين الأبناء، وعدم العدل بينهم حيث ترتب على ذلك انتشار العداوات والشحناء، والانطواء والبكاء، وتوارث الإخوان حب الاعتداء على بعضهم البعض لتعويض النقص الحاصل بسبب التفريق بين الأولاد، وقد يؤدي ذلك إلى المخاوف الليلية، والإصابات العصبية والأمراض النفسية، وغير ذلك من الأمراض الغير عضوية ، مما يضطر الكثير من الأولاد إلى مراجعة العيادات النفسية والمستشفيات العصبية.
أيها الناس: إن ظاهرة التفريق بين الأولاد من أخطر الظواهر النفسية في تعقيد الولد وانحرافه، وتحوله إلى حياة الرذيلة والشقاء والإجرام، وما انحرف كثير من الأولاد وشذوا عن القيم والأخلاق وارتكبوا الجرائم الكبيرة والأخطار الفظيعة إلا بسبب إحساسهم بالظلم، وشعورهم بالنقص وغياب العدل، ويكفينا شاهداً على ذلك ما ارتكبه إخوة يوسف في يوسف -عليه السلام-.
روى مسلم في صحيحه عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: "تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ" [ مسلم (1623) ].
ومن صور المفاضلة المنهي عنها إضافة إلى ما ذكرناه من المفاضلة بينهم في العطاء: المفاضلة بينهم في المعاملة، وتقديم هذا على هذا، والإحسان إلى هذا والإساءة إلى ذاك، وكل هذا لا يجوز ولا ينبغي لأنه يشعل بينهم نيران الحقد والعداوات.
فعلى الوالد والوالدة أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يعدلوا بين أولادهم في كل أمور حياتهم، ولا يفرقوا بين أحد منهم، فهم أبناء بطن واحد ورجل واحد، وليعلموا علم اليقين أن العدل بين الأولاد من أعظم أسباب الإعانة على البر، وعلى النقيض من ذلك، فالتفريق بين الأولاد من أعظم أسباب العقوق والهجر والكراهية والعداوة.
روى البزار في مسنده عَن أَنَس -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَجُلا كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَقْعَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَجَاءَتْهُ بُنَيَّةٌ لَهُ فَأَجْلَسَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَهُمَا" [ البزار (6361)].
يقول الله –تبارك وتعالى- في كتابه العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : 90].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل العدل الميزان بين الخلق، والحمد لله الذي قامت السماوات والأرض بالعدل بحكمته عز وجل، والعدل أساس مصالح البشر، والشريعة مبنية على العدل، وهو من أحكم الحاكمين، وهو العدل اللطيف الخبير العليم الحكيم، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها المسلمون: بعض الآباء يعلم أن التمييز بين الأولاد وعدم العدل بينهم أمر منهي عنه، ومخالف لشريعة الله -سبحانه وتعالى-, ولكنه يتعلل لذلك بعلل واهية ومن هذه العلل:
يقول بعضهم أن هذا هو الولد الوحيد معي، أو هذا هو الذكر والبقية إناث، أو هذا الذكي والبقية أغبياء، وكل هذه مبررات واهية، لأن هذه الأشياء ليست من كسب الإنسان، وإنما هي مواهب وأرزاق وتقسيمات قسمها الله بين العباد، وليس للعبد فيها حول ولا قوة، فكيف يلام عليها أو يمدح بها؟.
هل يلام الإنسان أو يمدح لأنه ذكر، أو لأنه أنثى، أو لأنه غير ذكي, مع أنه مجتهد ويحاول أن يكون ناجحاً ومتفوقاً ولكن الله لم يكتب له في ذلك شيء؟. (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف : 32]. ويقول -سبحانه وتعالى- (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء : 21].
إن هذه ليست أعذار كافية ولا حجج صحيحة للاحتجاج على التفضيل بين الأبناء، لأن الأصل هو العدل بينهم، ونحن أمرنا بعدم التفريق بينهم أو التمايز بين بعضهم، لأن لذلك آثاراً مدمرة على الأسرة وخاصة الوالدين والأولاد أنفسهم.
إنّ عدم العدل يُفضي إلى العقوق, فيقول من حُرم العدل: أبي ظلمني وفضّل أخي عليّ ونحو ذلك، فهل ترضى -أيها الأب- ذلك، وأن يتهمك أبناؤك بأنك ظالم، ويتسلل إلى أنفسهم شيء من الكراهية لك، ويزرع الشيطان بذور الشحناء بين أبنائك بسببك، لأنك أعطيت هذا أكثر من هذا أو فضلته عليه، وقد جاءت الشّريعة بسدّ كلّ طريق يوصل إلى الحقد والشَّحْنَاءُ والعداوة والبغضاء بين المسلمين عموما فكيف بالأخ تجاه أخيه وشقيقه؟.
فاحرصوا -ياعباد الله- على العدل بين أولادكم، وعدم التمييز بينهم، وإياكم من تفضيل بعضهم على بعض في العطاء، أو في المعاملة، أو في التودد، أو في غيرها من الأمور التي تشعرهم بالتحسس، وتولد بينهم المشاكل والإثارات.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا" [ مسلم (1827)]، فتأملوا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا".
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارزقنا العدل بين أبنائنا، والصبر على آبائنا، اللهم ارحمنا وارحم آباءنا وأجدادنا، اللهم واغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم