غلاء الأسعار وضرورة المبادرة

سامي بن عبد العزيز الماجد

2011-03-07 - 1432/04/02
عناصر الخطبة
1/ ضرورة المبادرات الشعبية لمواجهة الغلاء 2/ الثقافات الاستهلاكية السالبة 3/ ضرورة الترشيد 4/ أسلوب المقاطعة

اقتباس

ضرورة المبادرات الشعبية في مواجهة غلاء الأسعار، وهذه المبادرات حق لا يجوز منع الناسِ منه، وواجب كفائي لا يغني عنه شيء، ولا يقوم به إلا الشعب. هذه المبادرات ينبغي ألا يُفهم منها أنها دعوة للفوضى، أو للخروج عن النظام، أو دعوةٌ للتمرد على الطاعة؛ ولكنها أعمال حضارية مشروعة، فيها أخذٌ بالأسباب، وتحرُّرٌ من التواكل، ومساهمة في الإصلاح، وإعانةٌ لولي الأمر على مشكلات المجتمع..

 

 

 

 

أيها الأحبة في الله: لا يزال الحديث موصولاً عن ضرورة المبادرات الشعبية في مواجهة غلاء الأسعار، وهذه المبادرات حق لا يجوز منع الناسِ منه، وواجب كفائي لا يغني عنه شيء، ولا يقوم به إلا الشعب. هذه المبادرات ينبغي ألا يُفهم منها أنها دعوة للفوضى، أو للخروج عن النظام، أو دعوةٌ للتمرد على الطاعة؛ ولكنها أعمال حضارية مشروعة، فيها أخذٌ بالأسباب، وتحرُّرٌ من التواكل، ومساهمة في الإصلاح، وإعانةٌ لولي الأمر على مشكلات المجتمع. 

وإن مصادرة هذا الحق من أهله لهو إعانة للمجرم على إجرامه، وللباغي على ظلمه وعدوانه، ومن يحاول مصادرة هذا الحق يوشك أن يكون متواطئاً مع الظلَمة المحتكرين.

لو كانت قضية الغلاء قضيةً سياسية صرفة، مما يجهل أكثرُ الناس ملابساتِها، لقلنا يجب أن ترد إلى أولي الأمر من العلماء والحكام، عملاً بقوله سبحانه (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83]؛ ولكن القضية قضية مجتمع، قضية شعب، قضية كل بيت، فالناس فيها أصل، والدولة فيها تبع، ولا تخص الدولة في بعض علاقاتها وشؤونها.

ولذا يجب على الشعب -الذي يعي تماماً أن القضية قضيتُه- أن يعي كذلك أن ثقافة الاستهلاك، ومعها ثقافةُ الاتِّكال والانتظار بلا عمل هي من روافد المشكلات التي توالتْ عليه، وأن هذه الثقافة التي اعتادها وألِفَها؛ حتى أصبحت من طبعه وسجيته، هي من أهم الأسباب التي سلّطت عليه كثيراً من المشكلات.

إلى الشعب المتخم بهذه الثقافة: أنت مَن اجترأ عليك التجار المتلاعبون، فاحتكَروا السلع المهمة، ثم استغلوا موجةَ غلاء الأسعار، واستغلوا معها هذه الثقافة الغالبة: ثقافة الاستهلاك، والاتكالية، وانتظار الحلول بلا مقاومة.

اعتاد أولئك المستغلون على أن الشعب مهما توالت عليه المشكلات والأزمات فهو شعب وديع للغاية، يتوجع؛ لكنه يصبر ولا يقاوم، وينتظر، ولا يبادر، ينتظر أن تقوم الجهات الحكومية المختصة بما يجب عليها تُجاه مشكلاته، فإنْ هي قصَّرَت ولم تقم، فسيظل منتظراً لعلها يوماً من الدهر أن يحيا فيها الضمير؛ فتقوم بواجبها.

فهِم هذا الشعب المغلوب على أمره أن معنى الصبر هو أن تنتظر أن يأتيك الفرج بلا عمل ولا أخذٍ بالأسباب، فهم من الصبر تواكلاً على غيره ممن قد لا يعنيه أمره كثيراً، ولكن نسي أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وهذه قاعدة عامة في كل شيء.

ونتساءل ونحن نقرأ هذه الآية العظيمة: ماذا غيّرنا من أنفسنا؛ حتى يغير الله ما بنا؟ إسرافُنا وتبذيرُنا هو هو لم يتغير، غلت الأطعمة ولا زلنا نرمي الأطعمة في القمامات، وغلت الأسعار ولا زلنا نسمِّي الإسراف حفاوةً وكرماً، وغلت الأسعار ولا زلنا نسرف على أنفسنا بالكماليات والمظاهر الجوفاء؛ ربما أسهمت ثقافة الاستهلاك لدينا في إغلاء كل شيء إلا الكتب، ظل غلاؤها -إن كان فيها غلاءٌ- مرتبطاً بنسبة الغلاء العالمي لموادها الأولية!.

وها هو استهلاكنا هو هو لم يتغير! لم تقتصر المشكلة في هذه الثقافة على شرائنا أكثرَ مما نحتاج، ولكنها طغت حتى أصبحنا نشتري ما لا نحتاج إليه أصلاً.

التسوُّق والتبضُّع داخلٌ عندنا في مفهوم التنـزُّه والتفسُّح، وصرنا نسخو على التاجر أكثر مما نسخو على الفقير المحتاج.

كثير من نسائنا الموظفات أصبح شغلها الشاغل ملاحقة عروض التخفيضات، حتى وجدت نفسها قد اشترت بعروض التخفيضات ما لا حاجة لها فيه في الحقيقة، وكانت تظن أنها استغلت التخفيضات خير استغلال! وليست المشكلة في عروض التخفيضات المغرية، ولكن المشكلة في العقول غيرِ الواعية، في العقول المتخمة بثقافة الاستهلاك السائدة. حين نتظر إلى الشعوب الواعية التي لم تطغ فيها هذه الثقافة المسرفة المبذرة تجدها تنتظر عروض التخفيضات لتشتري ما تحتاجه، وبالقدر الذي تحتاجه.

ومطلوب من عقلاء الشعب ونُخبِه أن يكون لهم عمل مشهود في محاربة هذه الثقافة، وفي توعية عقول العامة، والإلحاح عليها بضرورة الترشيد والادخار.

مطلوب من الرجال العقلاء أن يرشّدوا من نفقات نسائهم بأساليب تناسب عقولهن، وبطريقة لا تشعرهن بممارسة وصايةٍ غيرِ مشروعة.

وهذا الدور لا يمكن أن يُنتظر من وزارة التجارة أو العمل، هذا الدور يقوم به الشعب نفسه، وإن كان لبعض الجهات الحكومية من عمل فهو أن تكون وسيلة تُنشر من خلالها هذه الثقافة الواعية؛ كوزارة الثقافة والإعلام.

من الأعمال الضرورية لمواجهة غلاء الأسعار أعمالٌ لا يناسب أن يقوم بها إلا الشعب نفسه، ولا يناسب أن تُقحم المؤسسات الحكومية فيها نفسَها، ومنها أسلوب المقاطعة، وهو عمل مجدٍ لو تواطأ عليه أغلب الشعب.

ومن حق الإنسان الرشيد -بما بقي له من حريةٍ صودر منه أكثرها- أن يشتري ما شاء، متى شاء، كيف شاء، مادام مباحاً؛ وليس لأحد -مهما أوتي من سلطة دينيةٍ، أو سياسية، أو غيرها- أن يصادر منه هذا الحق، ومن حق الناس أن يتمالؤوا على مقاطعة سلعة من السلع.

ولا يقال: إن المقاطعة قد تستغل فيُكْوَى بها تاجر مظلوم بأسلوب كيدي، ذلك أن الناس لا يتواطؤون على مقاطعة شيء إلا وقد طالهم منه إهانةٌ في دينهم، أو ضررٌ في معاشهم بغشٍ، أو غلاءٍ. والناس لا يتتابعون على شيء إلا بعد أن تظهر لهم مسوِّغاتُه؛ ولذلك حكم العلماء على استحالة الكذب في الأخبار المتواترة.

ولا ينبغي التخوُّف من المقاطعات الشعبية بدعوى أنه يترتب عليها خسائر وإضرارٌ بتجَّار هم من جملة المسلمين ومن المساهمين في النشاط الاقتصادي للبلد، والمضارة بالمسلم لا تجوز؛ ولكن، هل تجوز كذلك المضارَّة بالمسلم المستهلك الضعيف المغلوب على أمره؟ لماذا لا يوجَّه هذا الخطاب نفسه إلى التاجر الذي استغل موجة الغلاء فافتعل غلاءً من تلقاء نفسه؟.

إن من الممارسة القبيحة أن يُستغَل الدين ليستقوي به القوي على الضعيف، وليزيد به من ظلمه وإجرامه، ومن الممارسة القبيحة أن يجعل الدين غطاءً لتسويغ جرائم التاجر الغشوم، وأن يجعل الدين شرنقة يحتمي بها التاجر الغشوم ليمارس ظلمه وغشه واستغلال حاجة الناس.

لن يخسر التاجر بسبب المقاطعة إلا إذا قاومها بالعناد والإصرار على مغالاته لأسعار بضاعته، وإذا كان حراً في تقييم بضاعته بالسعر الذي يراه، فالشعب المغلوب على أمره حرٌ كذلك في أن يتواطأ على مقاطعة بضاعته.

لن يخسر التاجر لو عالج أسباب المقاطعة وتفهَّمَهَا، ورضخ لمطالبها المعقولة. ولنا أن نتساءل: لماذا يصر التاجر الغشوم أن يتحمل المستهلك كل زيادة في فاتورة تكلفة الانتاج؟ ولماذا لا يُطالَب التاجر أن يتنازل عن بعض ربحه ليتقاسم هو والمستهلك حمى غلاء الأسعار؟! إن المطلَّع على أرباح هؤلاء التجارِ المستغِلين لموجة الغلاء يجدها أرباحاً مضاعفة بنسبة ملفتة، ولكن من حق المقاطعين ألا يرضوا للتاجر أن يتمسك بنسبة أرباحه نفسها مهما اختلفت الظروف، ومن حقهم ألا يرضوا للتاجر أن يحيل كل غلاءٍ عليه إلى المستهلكين ، بحيث كلما غلا عليه شيء كلما رفع أسعار منتجاته؛ ليبقى له ربحه ثابتاً على نسبته.

ومهما يكن، فإن وجود حملات المقاطعة دليل على نهضة الوعي في المجتمع، وأن روح الحياة الواعية بدأت تدب في جسده المنهك.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

أما بعد: يسوِّغ بعضُهم لغلاء الأسعار بأن المسألة خاضعة لمعادلة العرض والطلب، وأنه ينبغي ألا تتدخل أي جهة في التأثير على هذه المعادلة؛ لئلا تترتب عليها نتائج عكسية؛ ولئن سلَّمنا بهذا فإننا من هذا المنطِق نسوِّغُ حمَلاتِ المقاطعة الشعبية، لنقول: دعوا أنتم التدخل في أمر المقاطعات الشعبية؛ لأنها كذلك منطلقة من منطلق معادلة العرض والطلب، واتركوا أنتم للمستهلكين -بعد تخاذلكم عن حمايتهم- أن يضربوا على وتر هذه المعادلة؛ لأنهم أحد طرفيها، فلماذا تتدخلون أنتم في أمر لستم طرفاً فيه؟.

ومما يدل على مشروعية هذه المقاطعات أن اللحم غلا في عهد عمر -رضي الله عنه- فجاء الناس إليه يشتكونه، فقالوا: غلا اللحم؛ فسَعِّرْهُ لنا. فقال: أرخِصوه أنتم. فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزَّارين، ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخِصوه أنتم؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ قال: اتركوه لهم.

وعلى كلٍّ، فإن الدعوة إلى المبادرات الشعبية لمواجهة الغلاء لا ينبغي أن يفهم منه الاعتذار عن الجهات الحكومية المسؤولة عن هذا الشأن، ولكن إذا قصَّرَتْ، فهل نترك الظالم يأكل المظلوم؟.

 

 

 

 

 

المرفقات

الأسعار وضرورة المبادرة1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات