عناصر الخطبة
1/قصة وعبرة 2/خطورة إطلاق البصر في الحرام 3/أهمية غض البصر 4/ضعف الإنسان عند الفتن 5/التحذير من فتنة النساء 6/سبيل النجاة من الفتنة 7/أحكام غض البصر.اقتباس
فِي هَذَا الزَّمَانِ انْتَشَرَ التَّبَرُّجُ، وَتَفَشَّى التَّعَرِّي، وَأَطْبَقَتِ الْفِتَنُ عَلَى النَّاسِ، فَصَارَتْ تَسْكُنُ فِي كُلِّ جَيْبٍ، وَتَهْجُمُ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ. اتَّخَذَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ طُعْمًا يَصْطَادُ بِهِنَّ قُلُوبَ الرِّجَالِ وَعُقُولَهُمْ، فَكَمْ أَسْقَطْنَ مِنْ عِبَادٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي رِيَاضِ الطَّاعَاتِ مُنَعَّمِينَ؟! وَكَمْ غَرَّرْنَ بِشَبَابٍ كَانُوا عَلَى الطُّهْرِ وَالْعَفَافِ نَاشِئِينَ؟!
الخُطْبَة الأُولَى:
أَمَّا بَعْدُ: فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِيِّ، خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَكَانَ مَعَهُمْ شَابٌّ آيَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِقْبَالِ وَالطَّاعَةِ، قَالَ عَنْهُ مَنْ شَهِدَهُ فِي تِلْكَ السَّرِيَّةِ: "لَمْ يَكُنْ فِينَا أَقْرَأُ لِلْقُرْآنِ مِنْهُ وَلَا أَفْقَهُ، صَائِمٌ بِالنَّهَارِ قَائِمٌ بِاللَّيْلِ".
مَرَّ الْمُسْلِمُونَ بِحِصْنٍ مِنْ حُصُونِ النَّصَارَى، ثُمَّ مَالُوا عَنْهُ وَتَجَاوَزُوهُ، وَذَهَبَ ذَلِكَ الشَّابُّ فَنَزَلَ بِقُرْبِ الْحِصْنِ لِحَاجَةٍ لَهُ. وَخِلَالَ تِلْكَ الْأَثْنَاءِ نَظَرَ ذَلِكَ الشَّابُّ الْعَالِمُ الْعَابِدُ إِلَى الْحِصْنِ، فَوَجَدَ مِنْ وَرَائِهِ امْرَأَةً مِنَ النَّصَارَى تَنْظُرُ إِلَيْهِ.
حَدَّقَ الشَّابُّ النَّظَرَ إِلَيْهَا، وَكَرَّرَ النَّظْرَةَ تِلْوَ النَّظْرَةِ، فَنَفَذَ سَهْمُهَا إِلَى الْقَلْبِ، ثُمَّ أَوْقَعَتْهُ فِي الْأَسْرِ. لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ تَمَادَى بَعْدَ النَّظَرِ بِأَنْ كَلَّمَهَا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهَا. وَقَالَ لَهَا: مَا السَّبِيلُ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْكِ؟ فَقَالَتْ لَهُ: أَنْ تَتَنَصَّرَ، وَيُفْتَحَ لَكَ الْبَابُ، ثُمَّ أَنَا لَكَ.
تَهَاوَى الشَّابُّ فِي لَحْظَةٍ، وَانْتَكَسَ إِيمَانُهُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَاتَّخَذَ الْقَرَارَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَيَتَنَصَّرَ لِيُفْتَحَ لَهُ الْبَابُ وَيَلْتَقِيَ بِالْمَرْأَةِ. فَمَا رَاعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهَا، فَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً عَظِيمَةً.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ مَرُّوا عَلَيْهِ وَهُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَقَالُوا: يَا فُلَانُ! مَا فَعَلَ قُرْآنُكَ؟ مَا فَعَلَ عِلْمُكَ؟ مَا فَعَلَ صِيَامُكَ؟ مَا فَعَلَ جِهَادُكَ؟ مَا فَعَلَتْ صَلَاتُكَ؟ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنِّي أُنْسِيتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَّا قَوْلَهُ: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الْحِجْر:2-3].(الْقِصَّة مِنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ لِابْنِ كَثِيرٍ، وَتَارِيخِ الْأُمَمِ وَالْمُلُوكِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ).
مُسَلْسَلُ الْفُجُورِ بَدَأَ مِنْ نَظْرَةِ شَهْوَةٍ اشْتَعَلَتْ، ثُمَّ لَمْ تُطْفَأْ جَذْوَتُهَا، بَلْ زَادَ وَقُودُهَا، فَانْقَلَبَتْ نَارًا أَحْرَقَتْ صَاحِبَهَا.
كَانَ هَذَا الشَّابُّ أَحَدَ ضَحَايَا النَّظَرِ، وَمَا أَكْثَرَ ضَحَايَا سِهَامِهِ الْمَسْمُومَةِ!
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَأُهَا مِنَ النَّظَرِ *** وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةً فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا *** فَتْكَ السِّهَامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرِ
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمْرنَا اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- بِإِغْلَاقِ بَابِ الْفِتْنَةِ، وَأَرْشَدَنَا إِلَى غَضِّ الْبَصَرِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَغُضُّ بَصَرَهُ سَيَبْقَى فِي حِصْنٍ حَصِينٍ -بِإِذْنِ اللَّهِ- مِنْ سِهَامِ إِبْلِيس، وَهَجَمَاتِهِ الْمُبَاغِتَةِ.
قَالَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النور:30]؛ قَالَ الْغَزَالِيُّ: "وَاعْلَمْ أَنِّي تَأَمَّلْتُ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِذَا فِيهَا -مَعَ قِصَرِهَا- ثَلَاثَةُ مَعَانٍ عَزِيزَة: تَأْدِيبٌ وَتَنْبِيهٌ وَتَهْدِيدٌ؛ فَأَمَّا التَّأْدِيبُ فَقَوْلُهُ: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، وَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْ امْتِثَالِ أَمْرِ سَيِّدِهِ وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ، وَإِلَّا كَانَ سَيِّئَ الْأَدَبِ.
وَأَمَّا التَّنْبِيهُ فَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)؛ وَيُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ، وَالثَّانِي: ذَلِكَ أَغْنَى بِخَيْرِهِمْ وَأَكْثَرَ.
وَأَمَّا التَّهْدِيدُ: فَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ خَبِير بِمَا يَصْنَعُونَ).
عِبَادَ اللَّهِ: لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَمَامَ الشَّهْوَةِ حِينَ تَتَزَيَّنُ أَمَامَهُ، يُجَاهِدُ أَعْظَمَ الْجِهَادِ لِيَصْرِفَ أَثَرَهَا وَخَطَرَهَا، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء:28].
وَمِنْ أَعْظَمِ مَظَاهِرِ ضَعْفِهِ: ضَعْفُهُ أَمَامَ الشَّهْوَةِ، وَلِذَا فَسَّرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: "الْمَرْأَةُ تَمُرُّ بِالرَّجُلِ فَلَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا، فَأَيُّ شَيْءٍ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا؟"، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "ضَعِيفٌ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، يَذْهَبُ عَقْلُهُ عِنْدَهُنَّ".
وَمَا دَامَ هَذَا الضَّعْفُ جِبِلَّةً فِيهِ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ حِينَ يُطْلِقُ الْإِنْسَانُ بَصَرَهُ إِلَى الْحَرَامِ؛ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِمَا قَدْ لَا يَتَحَمَّلُهُ مِنْ أَدْوَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَأَمْرَاضِ الْقَلْبِ، وَتَخَطُّفِ الشَّيَاطِين. فَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ أَدْرَكَ أَنَّ بَقَاءَهُ فِي حِصْنِ غَضِّ الْبَصَرِ أَسْلَمُ لَهُ، وَأَحْفَظُ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.
فَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ الْفِتْنَةُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ -وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ-؛ فَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْحَلِّ السَّرِيعِ لِلْوِقَايَةِ مِنْ تَعَاظُمِ الْفِتْنَةِ، فَقَالَ لِصِهْرِهِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "يَا عَلِيُّ! لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ". وَسَأَلَ جَرِيرٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ؛ فَقَالَ لَهُ: "اصْرِفْ بَصَرَكَ".
"اصْرِفْ بَصَرَكَ" تَوْجِيهٌ نَبَوِيٌّ فِيهِ حِمَايَةٌ لِلْقَلْبِ مِنَ اللُّصُوصِ الْمُتَرَبِّصَةِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ بَيْتٌ وَالْعَيْنَ بَابُهُ، وَلَا يَدْخُلُ لِصٌّ الْبَيْتَ إِلَّا وَالْبَابُ مَفْتُوحٌ، وَالشَّيْطَانُ مُتَرَصِّدٌ لِقَلْبِكَ يَنْتَظِرُ أَيَّ لَحْظَةٍ لِيَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ، فَيَسْرِقُ مِنْهُ حِلْيَةَ الْإِيمَانِ وَزِينَةَ التَّقْوَى. فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ فَقَدْ فَتَحَ مَنْفَذًا لِلشَّيْطَانِ إِلَى قَلْبِهِ، فَأَحْكَمَ إِغْلَاقَ الْبَابِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَشَدَّدَ الْحِرَاسَةَ عَلَيْهِ بِالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ -سُبْحَانَهُ-.
مَعَاشِرَ الرِّجَالِ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَرِيصًا عَلَى أُمَّتِهِ، يَدُلُّهُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ مَزَالِقِ الشَّرِّ، وَفِي تَعْبِيرٍ يُنْبِئُ بِعِظَمِ خَوْفِهِ عَلَيْكُمْ مَعَاشِرَ الرِّجَالِ قَالَ فِيهِ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ".
الْمَرْأَةُ إِذَا صَلَحَتْ كَانَتْ أَعْظَمَ أَسْبَابِ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعِ، وَإِذَا فَسَدَتْ كَانَتْ أَعْظَمَ أَسْبَابِ فَسَادِهِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ ضَرَرٌ عَلَى الرِّجَالِ أَشَدّ مِنْ ضَرَرِ إِغْوَاءِ النِّسَاءِ لَهُمْ، وَلِذَا اسْتَكْثَرَ إِبْلِيسُ مِنْ سِلَاحِ النِّسَاءِ لِإِغْوَاءِ الرِّجَالِ. وَبِمُجَرَّدِ أَنْ تَخْرُجَ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَشْرِفُهَا، وَيَتَطَلَّعُ إِلَيْهَا، وَيَلْفِتُ الرِّجَالَ إِلَيْهَا، لِيُوقِعَهُمْ فِي الْفِتْنَةِ، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ".
وَقَدْ نَجَحَ سِلَاحُ إِبْلِيسَ فِي إِفْسَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ تِلْكَ الْأُمَّةِ الْمُسْتَخْلَفَةِ الَّتِي فَضَّلَهَا اللَّهُ عَلَى الْعَالَمِينَ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَزْلَقٍ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجُرَّهُمْ إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ النِّسَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحَذِّرًا أُمَّتَهُ مِنْ ذَاتِ الْمَزْلَقِ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ; فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ".
عِبَادَ اللَّهِ: فِي هَذَا الزَّمَانِ انْتَشَرَ التَّبَرُّجُ، وَتَفَشَّى التَّعَرِّي، وَأَطْبَقَتِ الْفِتَنُ عَلَى النَّاسِ، فَصَارَتْ تَسْكُنُ فِي كُلِّ جَيْبٍ، وَتَهْجُمُ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ.
اتَّخَذَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ طُعْمًا يَصْطَادُ بِهِنَّ قُلُوبَ الرِّجَالِ وَعُقُولَهُمْ، فَكَمْ أَسْقَطْنَ مِنْ عِبَادٍ صَالِحِينَ كَانُوا فِي رِيَاضِ الطَّاعَاتِ مُنَعَّمِينَ؟! وَكَمْ غَرَّرْنَ بِشَبَابٍ كَانُوا عَلَى الطُّهْرِ وَالْعَفَافِ نَاشِئِينَ؟!
وَالطَّرِيقُ الْقَوِيمُ هُوَ بِالِالْتِزَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النور:30]. الْوِقَايَةُ خَيْرٌ مِنَ الْعِلَاجِ، وَالْبَقَاءُ عَلَى الطَّهَارَةِ خَيْرٌ مِنَ التَّلَطُّخِ بِالْأَوْسَاخِ ثُمَّ الشِّكَايَةِ مِنْهَا (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ). الْحَلُّ الْأَمْثَلُ هُوَ الْبُعْدُ عَنْ مَوَاطِنِ الْفِتَنِ، وَاسْتِحْضَارُ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ، وَأَلَّا تَجْعَلَهُ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْك؛ (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النور:30].
فَمَنْ أَصَابَتْهُ سِهَامُ إِبْلِيسَ وَوَقَعَ فِي النَّظَرِ الْحَرَامِ؛ فَلْيُسْرِعِ الْأَوْبَةَ، وَلْيُدَاوِ جِرَاحَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ وَلَوْ عَظُمَ الذَّنْبُ، وَاللَّهُ غَفَّارٌ وَلَوْ تَكَرَّرَ الذَّنْبُ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزِّتِكَ يَا رَبِّ، لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي".
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ..
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ: فَسَنُخَصِّصُ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ لِلتَّعْرِيفِ بِبَعْضِ أَحْكَامِ غَضِّ الْبَصَرِ الثَّابِتَةِ مِنَ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ، وَالَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً.
أَوَّلاً: يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ أَوْ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ. فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ أَوْ فِي الْأَخْبَارِ أَوْ الْأَفْلَامِ وَالْمُسَلْسَلَاتِ أَوْ مَقَاطِعِ الْجَوَّالِ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مُنْتَشِرٌ يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَيَتَهَاوَنُونَ فِيهِ، وَأَثَرُ هَذَا التَّهَاوُنِ أَنْ صَارَ النَّاسُ يُمَارِسُونَهُ بِكَثْرَةٍ، وَلَا يُبَالُونَ بِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْتَقِرَ شَيْئًا مِنَ الذُّنُوبِ، وَعَلَيْهِ أَلَّا يَنْظُرَ إِلَى صِغَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنْ يَنْظُرَ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ عَصَى، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ الَّتِي يَحْتَقِرُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ".
ثَانِيًا: يَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إِطْلَاقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِعَوْرَةٍ أَوْ لِغَيْرِ عَوْرَةٍ، فَمَنْ نَظَرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ فَوْقِ ثِيَابِهَا، أَوْ نَظَرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ مَحَارِمِهِ -عِياذًا بِاللَّهِ-؛ فَإِنَّ هَذَا النَّظَرَ نَظَرٌ مُحَرَّمٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ بِشَهْوَةٍ وَتَلَذُّذٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّم أَيْضًا، قَالَ ابْنُ تَيْمِيةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِشَهْوَةٍ". وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: "أَمَّا النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ فَحَرَامٌ قَطْعًا لِكُلِّ مَنْظُورٍ إِلَيْهِ مِنْ مَحْرَمِ وَغَيْرِهِ غَيْر زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ".
ثَالِثًا: تَنْطَبِقُ الْأَحْكَامُ السَّابِقَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَمَا تَنْطَبِقُ عَلَى الرَّجُلِ؛ فَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِغَضِّ الْبَصَرِ مِثْلَ الرَّجُلِ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)[النور:31]؛ فَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ أَوْ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ. كَمَا لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إِلَى غَيْرِ الْعَوْرَةِ بِشَهْوَةٍ، فَإِذَا نَظَرَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى وَجْهِ الرَّجُلِ أَوْ جَسَدِهِ أَوْ نَظَرَتْ إِلَى امْرَأَةٍ أُخْرَى وَكَانَ ذَلِكَ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ فَهِيَ آثِمَةٌ.
هَذِهِ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّظَرِ الثَّابِتَةُ الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم