عناصر الخطبة
1/سبب غزوة مؤتة 2/إعداد الصحابة وخروجهم لغزوة مؤتة 3/تشاور الصحابة في غزة مؤتة 4/عدد جيش المسلمين في غزوة مؤتة وعدد جيش الكفار 5/وصف استشهاد قادة غزوة مؤتة 6/انسحاب خالد بن الوليد بجيشه الصغير7/بعض دروس غزوة مؤتة ونتائجهااقتباس
إنها معركة عجيبة تشهدها دنيا النزال بالدهشة والحمية، في مقياس الماديات، ماذا يصنع ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف مدججين بالسلاح والعتاد؟ وهل تقف النظرة عند هذا؟ كلا -وربي- ولكن إذا هبت نسائم الإيمان جاءت بالعجائب. أخذ الراية زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجعل...
الخطبة الأولى:
في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة المباركة، حدث حدث عظيم، وقامت حرب دامية هي أعظم حرب يخوضها المسلمون في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت مؤشر البدء لفتح بلدان النصارى، إنها أكبر لقاء مثخن يدخله عسكر المسلمين مذ قام الجهاد في سبيل الله.
بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- الحارث بن عمير الأزدي -رضي الله عنه- بكتابه إلى عظيم بُصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل القيصر، فأوثقه رباطًا، ثم قدمه، فضرب عنقه، وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، بل هو يزيد على إعلان العداء والحرب، فاشتد ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم--صلى الله عليه وسلم- حين نقلت إليه الأخبار، فجهز جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، كأكبر جيش إسلامي لم يجتمع من ذي قبل إلا ما كان من غزوة الأحزاب.
إنها معركة مؤتة، وهي قرية من قرى الشام بينها وبين بيت المقدس مرحلتان.
أمرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم--صلى الله عليه وسلم- على هذا الجيش زيد بن حارثة، وقال: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة".
وعقد لهم لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم وقاتلوهم، وقال لهم: "اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناءً".
ولما تهيأ الجيش للخروج حضر الناس، وودعوا أمراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى عبد الله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)[مريم: 71].
فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟
فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين.
قال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة *** بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي *** يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ثم خرج القوم، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشيعًا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم.
وتحرك الجيش في اتجاه الشام حتى نزل بمعان من أرض الشام مما يلي الحجاز، عندها نقلت إليهم الأخبار بأن هرقل نازل بماب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف.
حينها وقف المسلمون دهشين، لم يكن في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم الذي لقوه بغتة في أرض غريبة بعيدة، وهل يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، على جيش كبير كالبحر الخضم قوامه مائتا ألف مقاتل، بعددهم وعتادهم، حار المسلمون وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنخبره بعدد العدو، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وقال قولة حق ستبقى على مدى التأريخ درسًا بليغًا لأهل الحق الذين يحملون رايته، ويدافعون عن حياضه، وستبقى ما بقي الدهر حجرًا في أفواه الجبناء أهل الخور والضعف والدعة من أحفاد أبي بن خلف، وأذنابه، قال ابن رواحة: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة.
إلى المرابطين في الثغور، والمجاهدين في ساحات الوغى، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين.
إلى أهل الإسلام والحق الداعين إليه، المرابطين على ثغور الكلمة، ونشر المبدأ، الساعين لإعادة الأمة إلى مجدها وعزها، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين.
إلى الجبناء، المنكسرين، المنهزمين، الذين يخترقون صف الأمة الواحد، يعيثون في الأرض فسادًا وينشرون الباطل والزيغ، يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين.
إنها كلمة عظيمة لابد أن تبقى شعارًا تتعاقبه أجيال الأمة جيل بعد جيل ينقله الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد، يرضعه الوليد مع لبن أمه، ويلقنه الصغير، ويحيا عليه الكبير، لابد أن تبقى هذه الكلمات نبراسًا يضيء للأمة طريقها في نشر دين الله، في جهادها ودعوتها وعلمها وعملها.
وأخيرًا: استقر الرأي على ما دعا إليه البطل ابن رواحة -رضي الله عنه وأرضاه-، وبعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية مشارف من قرى البلقاء، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأ للقتال فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة الغدري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري -رضي الله عنهم أجمعين-.
وفي مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل.
إنها معركة عجيبة تشهدها دنيا النزال بالدهشة والحمية، في مقياس الماديات، ماذا يصنع ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف مدججين بالسلاح والعتاد؟ وهل تقف النظرة عند هذا؟
كلا -وربي- ولكن إذا هبت نسائم الإيمان جاءت بالعجائب.
أخذ الراية زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا تحق إلا لمثل زيد، فلم يزل يقاتل ويقاتل ويخترق الصفوف صفًا صفًا، والقوم أمامه بين صريع وقتيل، إذ شاط في رماح العدو، حتى خرَّ صريعًا.
وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال نزل عن فرسه الشقراء وعقرها، ثم قاتل فقطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه رافعًا إياها حتى قتل بضربة روميّ قطعته نصفين، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة، فكان يسمى بعد ذلك جعفر الطيار.
روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعًا وتسعين من طعنة ورمية كلها فيما أقبل من جسده".
ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة، وقال:
أقسمت يا نفـس لتنزلنــه *** كارهـة أو لتطـاوعنـه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة *** مالي أراك تكرهين الجنة
ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق لحم، فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده وأخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
عندها تقدم رجل من بني عجلان، يقال له: "ثابت بن أرقم" فأخذ الراية، وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت؟ قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريرًا.
فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفحة يمانية".
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم مؤتة؛ كما أخرج البخاري في صحيحه، مخبرًا بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم".
الله أكبر: "وعيناه تذرفان" عاش لأمته تفاعل مع قضاياها همًا وغمًا، ألمًا وأملاً، فرحًا وحزنًا فيا من تحمل في قلبك لا إله إلا الله، أنت يا من حملت على عاتقك هم دينك وأمتك سعيًا في إصلاحها وصلاحها، أين أنت من قضاياها في مشارق الأرض ومغاربها؟
كم نفرح للدنيا وملذاتها وشهواتها، ونحزن لفواتها وانقطاعها أو انتقالها، ولا نحرك ساكنًا، بل ونبخل بالألم والدمعة، فإلى الله المشتكى.
ونجح خالدٌ -رضي الله عنه- في الصمود بجيشه أمام جيش الرومان طوال النهار، وكان لابدَّ من مكيدة حربية، تُلْقِى الرعب في قلوب الرومان، حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين، وينجو من مطاردة الرومان لجيشه، وقبل أن ينكشف المسلمون.
ولما أصبح في اليوم الثاني، غيَّر أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمة الجيش ساقته وميمنته ميسرة، والعكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالدٌ بعد أن ترآى الجيشان، وتناوشا ساعة يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، محافظًا على نظام الجيش فلم يتبعهم الرومان خوفًا من مكيدة يدبرها المسلمون فحافظ على جيشه وعاد الرومان إلى بلادهم خائبين.
الخطبة الثانية:
وهكذا عاد المسلمون لم يلقوا ضررًا، واستشهد منهم اثنا عشر رجلاً، ولا يعلم عدد قتلى الرومان لكثرتهم ونستطيع أن نخرج من هذه الغزوة بنتائج مهمة؛ منها:
أولاً: أن النظرة المادية المجردة عند قياس معيار القوة والضعف بعيد كل البعد عن الواقعية، والفهم العميق للحياة، وسبر أغوار بواطن الأمور، إذ الوقائع تشهد، والأحداث على مر العصور تبرهن بأنه: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ)[البقرة: 249].
فالأمر لله من قبل ومن بعد.
ثانيًا: أن الإيمان في قلوب أهله، أقوى من قوى العالم وإن اجتمعت، فكم من مجاهد أعزل من السلاح يرفع إصبع السبابه يناجي ربه؟ وكم من دعوة في جنح الظلام تفتح لها أبواب السماء، تفعل الأفاعيل في الأعداء، بل هي أشد عليهم من آلاف المقاتلين وقد قالوها، والحق ما شهدت به الأعداء.
ثالثًا: أن على الأمة أن تربي أبناءها على حب دينهم واعتزازهم به، والشعور بالنصر والعلو والفخر ألا فلينقش على القلوب والصدور ولتردده الأفواه والسطور: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139].
رابعًا: على الآباء والأمهات والمربين أيًّا كانوا وعلى الأمة جمعاء: أن تعاود النظر في عرض القدوات للأجيال، فلابد من نشر سير أولئك الأفذاذ من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتباعهم، ليرتسم الأبناء سير الأجداد منهجًا للحياة، ودستورًا للواقع.
والسؤال المهم الذي نعلم إجابته ولكن واقعنا يخالفه: أي شيء يقدمه لدينه وأمته مغنيٍ أو ممثل هابط أو هابطة، ماذا عساه أن يقدم للإسلام والمسلمين ذاك اللاعب وهو يدحرج كرته، أو يجري خلفها؟
وقديمًا قيل:
يكفي اللبيب إشارة مرموزة *** وسواه يدعى بالنداء العالي
خامسًا: وبعد هذه الغزوة، دهش العرب كلهم، فقد كانت الروم أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، لا يستطيع أحدٌ الصمود أمامها، كيف وقد عاد جيش صغير بدون خسائر تذكر، فأحدث هذا سمعة للمسلمين بلغت المشرق والمغرب.
وأضحت تلك الغزوة الخطوات الأولى لفتح بلاد الروم واحتلال المسلمين أقاصي الأرض.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم