عناصر الخطبة
1/أهمية دراسة السيرة النبوية 2/عرض موجز لأحداث غزوة الأحزاب 3/أهم الدروس والعبر المستفادة من غزوة الأحزاباقتباس
لم يكن الأعداء ليركنوا إلى هدوء أو سكون، ولم يكونوا ليصرفوا أنظارهم عن دولة محمد -صلى الله عليه وسلم- طرفة عين، لقد أجمعوا أمرهم وشركاءهم، وأعملوا مكرهم ودسائسهم لحربها والقضاء عليها، ففي السنة الرابعة من الهجرة النبوية المباركة، ولما رأى اليهود...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: الحديث عن سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حديث تحبّه النفوس المؤمنة، وتأنس به القلوب المطمئنة، وإن حقًّا على أمة الإسلام وقد تشابكت عليها حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواج من الفتن، وتداعى عليهم الأَكَلَة من كل مكان، إن حقًّا عليهم أن يعودوا إلى سيرة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-؛ ليأخذوا منها الدروس، ويستلهموا العبر في جميع الأحوال في السلم والحرب والأمن والخوف والرخاء والشدة.
أيها الإخوة: لم يكن الأعداء ليركنوا إلى هدوء أو سكون، ولم يكونوا ليصرفوا أنظارهم عن دولة محمد -صلى الله عليه وسلم- طرفة عين، لقد أجمعوا أمرهم وشركاءهم، وأعملوا مكرهم ودسائسهم لحربها والقضاء عليها، ففي السنة الرابعة من الهجرة النبوية المباركة، ولما رأى اليهود انتصار المشركين على المسلمين في غزوة أُحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، وخروجه ثم رجوعه في العام المقبل، خرج أشرافهم إلى قريش بمكة، يحرّضونهم على غزو رسول الله ويؤلّبونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش إلى ما أرادوا، ثم خرجوا إلى غَطَفَان فدعوهم فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك، فاستجاب لهم من استجاب، واجتمع من الكفار عشرة آلاف مقاتل.
وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا جبل سَلْع خلف ظهورهم، والخندق الذي أشار بحفره سلمان الفارسي أمامهم، وخرج عدو الله حُيَيّ بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القُرَظِي زعيم بني قُرَيظة، وكان قد وادع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاهده، فما زال به حتى نقض عهده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا صار المسلمون بين فكَّين، وأصبحوا في قبضة عدوّين، جيوش المشركين أمامهم، وبنو قُرَيظة خلفهم.
واشتدت الأزمة على المسلمين، وصاروا كما قال الله تعالى: (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا)[الأحزاب:10-11]، وجعل المنافقون يسخرون ويستهزئون، ويجهرون بالحقد ويقولون: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!
هكذا أصبح الأمر شديدًا وحرجًا على المسلمين، ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتخطيط لمجابهة هذا الظرف الراهن، فاستشار سعد بن عبادة وسعد بن معاذ -رضي الله عنهما- في أن يصالح غَطَفَان على ثلث ثمار المدينة مقابل أن ينصرفوا ويعودوا، ويبقى المسلمون وقريش فيلحقوا بها الهزيمة ويجابهوها، فأجاباه قائلَين: يا رسول الله: إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا وطاعة، وإن كان شيئًا تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًى أو بيعًا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟! والله لا نعطيهم إلا السيف، وصوَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الرأي، وقال: "إنما هو شيء أصنعه لكم؛ لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة".
أيها المسلمون: ويريد الله بالمسلمين خيرًا، ويقدّر لهم ظهورًا ونصرًا، فيهيئ لهم رجلاً من غَطَفَان يقال له: نُعَيم بن مسعود، إذ أتى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله: إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني ما شئت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنت رجل واحد، فخَذِّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خُدْعة"، فذهب هذا الصحابي وجعل يتنقل ما بين اليهود والأحزاب حتى أفسد ما بينهم بذكائه وسرعة بديهته، فتخاذلوا ودبّت الفرقة في صفوفهم، وخارت عزائمهم، وضعفت قواهم، ثم بعث الله عليهم ريحًا هَوْجَاء مخيفة في ليلة مظلمة باردة، بعد حصار دام ثلاثة أسابيع، فقلبت القدور، وطارت بالخيام، وقطعت الأطناب، واقتلعت الأوتاد، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش: إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُرَاع والخُفّ، وأخلفتنا بنو قُرَيظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل.
وفي صباح اليوم الثاني كان المشركون قد ولوا الأدبار، وعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه إلى المدينة، وانتهت هذه الغزوة دون قتال ولا عِرَاك، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدها قولة الواثق بنصر ربه: "الآن نغزوهم ولا يغزونا".
عباد الله: ولقد أعطى الله المسلمين بهذه الغزوة دروسًا وألهمهم عبرًا، إذ كشفت لهم أن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- هم من أشد الناس عداوة للمؤمنين، وقد أكّد الرب سبحانه ذلك في كتابه حيث قال: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)[المائدة:82]، وأصبحت تلك الحقيقة واضحة لعباد الله المؤمنين، لا يجادل فيها إلا من طمس الله على قلبه، وأعمى عن الحق بصيرته.
ذكر ابن هشام في السيرة عن صفية بنت حُيَيّ -رضي الله عنها- قالت: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمّي مُغَلِّسَين، ولم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، وسمعت عمي وهو يقول لأبي: أهو هو؟! قال: نعم والله، قال: أتعرفه ولا تنكره؟! قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟! قال: عداوته ما بقيت.
بهذا المنطق -إخوة الإسلام- نطق حبر اليهود حُيَيّ بن أخطب -قاتله الله-، وبهذا المنطق ينطق اليهود، وبه يفكرون، وله يعتقدون، فمع أنهم يعرفون الحق إلا أنهم لا يتبعونه، بل يحاربونه حربًا لا هوادة فيها.
إن اليهود -معشر المسلمين- قوم غَدَرَة فَجَرَة، يعاهدون ويعقدون، ثم ينقضون العهود والمواثيق ولا يبالون، يمدون يدًا للسلام ليطعنوا بالأخرى، ويظهرون الضعف وهم يخططون للشر والفساد ما استطاعوا، قلوبهم تغلي حسدًا على المسلمين وحقدًا، وصدورهم تمتلئ كراهية للمؤمنين وبغضًا، حاولوا قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرارًا، ونقضوا عهده، وأشعلوا الحروب على مدى التاريخ وأوقدوها، وأسسوا الفرق الضالة منذ عهد الصحابة، وأجّجوا الخلافات، إن ماضيهم مظلم أسود معتم، وحاضرهم لا يقل عن ماضيهم إظلامًا وسوادًا، فها هم ما زالوا منذ عشرات السنين في فلسطين يذيقون المسلمين أشد أنواع التنكيل والتعذيب، بعد أن استولوا على أولى القبلتين ومسرى سيد الثقلين، ولا يزالون يعيثون في أرض المسلمين فسادًا، نسأل الله أن يكف شرهم.
أيها المؤمنون: ومن دروس غزوة الأحزاب: أن العدو مهما جمع عدّته وعتاده ومهما ازداد عدده وكثر سواده ومهما قلَّ عدد المسلمين وضعفت قوتهم وأحيط بهم، إلا أن الأمر كله لله القوي العزيز وبيده سبحانه، وهو القادر في أية لحظة على إهلاك العدو وإضعافه بجنوده الكثيرة التي لا يعلمها إلا هو سبحانه، منها الريح التي تلقي الرعب في قلوب الأعداء: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ)[المدثر:31]، (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[الفتح:4]، (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[الفتح:7].
ولهذا -أيها المسلمون- فإن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ العدد والعدة الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم، فيكفي المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى، وأن يتقوا الله، وأن يثقوا بنصره، ويثبتوا ويصبروا، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)[آلعمران:120].
يقول عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- لأصحابه في غزوة مؤتة: "والله، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين: إما ظهور وإما شهادة".
لكن أول عُدد النصر والاستعداد هو الرجوع إلى الله والالتصاق بركنه الركين، والانتصار على النفس وشهواتها، ودحر الشيطان وأعوانه. والأعداء ما كانوا أعداءً إلا لمخالفتهم لأمر الله، وإذا اشترك الفريقان في المعصية والمخالفة فليس هناك مزية.
إن المؤمن حين يعادي ويعارك وحينما يقاتل ويجاهد فهو إنما يعادي لله ويعارك لله، ويجاهد في سبيل الله، ويقاتل بقوة الله.
نسأل الله أن يعز الإسلام وينصر المسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المسلمون: وفي غزوة الأحزاب أتى المشركون بجميع ما لديهم للقضاء على المسلمين، في هذا الظرف الصعب الدقيق الذي بلغت القلوب فيه الحناجر يبشّر الرسول الواثق بنصر ربه وتمكينه لدينه، يبشّر -صلى الله عليه وسلم- بانتصار الإسلام وانتشاره وهيمنته على الدين كله، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: لما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحفر الخندق عرض لنا فيه حجر لا يأخذ فيه المِعْوَل، فاشتكينا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فألقى ثوبه، وأخذ المِعْوَل وقال: "بسم الله"، فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة، قال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الآن من مكاني هذا"، قال: ثم ضرب أخرى، وقال: "بسم الله"، وكسر ثلثًا آخر، وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن"، ثم ضرب ثالثة، وقال: "بسم الله"، فقطع الحجر، وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء".
إنه الاعتزاز بالله سبحانه والاعتماد عليه، إنه التوكل على الله الذي افتقده المسلمون أيامنا هذه، وصار اعتمادهم وتوكلهم على الأسباب المادية والمحسوسة، إنها الثقة بالله وبنصره، والتي صارت عند المسلمين اليوم متعلقة بالدرهم والدينار والقوى المادية البحتة أكثر من تعلقها بالمولى الكريم الذي عنده خزائن كل شيء وبيده مفاتيح كل شيء.
عباد الله: ومن دروس هذه الغزوة أن الأزمات والشدائد تقابل بعد الأخذ بالأسباب بالتضرع إلى الله تعالى ودعائه ومناجاته والرجوع إليه بالتوبة، والأمل في الفَرَج من عنده، وأنه لا يُرجَى في الشدائد إلا الله، ولا يُقصَد في المُلِمّات سواه، ولا يُلاذ إلا بجنابه وحماه، ولا تُطلَب الحوائج إلا من بابه، فلا سند إلا سنده، ولا حول ولا قوة إلا به، لا ملجأ منه إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هو المتصرف في الملك ولا معقب لحكمه.
نسأل الله أن ينصر دينه وكتابه وعباده الصالحين.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم