عودة المدارس

ناصر بن محمد الأحمد

2015-03-04 - 1436/05/13
عناصر الخطبة
1/أهمية التعليم وبعض سمات التعليم الصحيح 2/مقارنة سريعة بين مستوى التعليم في الدول المتقدمة والنامية 3/بعض معوقات ومشكلات التعليم في الدول النامية وبعض أسباب ذلك 4/دور التعليم في صلاح الإنسان ونجاحه وأهمية مناهج التعليم في ذلك 5/دور المعلم وأهميته في صلاح ونجاح العملية التعليمية 6/نصائح وتوجيهات للمعلمين

اقتباس

إن الجميع يشكون من انخفاض مستوى التعليم، لكن نوعية الشكوى تختلف، فالدول المتقدمة تشكو من عدم تحقيق التعليم للمستوى المطلوب لمزيد من السيطرة على موارد الطبيعة، والسيطرة على الأمم المنافسة، وإخضاع الدول الأخرى لها، على حين أن شكوى...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أظن بأنه من المناسب أن يكون حديثنا اليوم بمناسبة انتهاء الإجازة، وعودة المدارس مرة أخرى، أن يكون الحديث عن العلم والتعليم، والدرس والتدريس.

 

إذا كانت الوظيفة الأساسية للإنسان في هذه الحياة، هي: تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى-، فإن ما يتبع ذلك من مكملات وشروط يكون داخلاً في تحقيق العبادة، ومن ذلك: التعليم.

 

لذا، فإن كل علم يتعلمه الإنسان، وكل تقدم تقني يحرزه، ينبغي أن يساعده على القيام بواجبه، وتأدية رسالته على الوجه المطلوب.

 

هذه الرؤية الإسلامية، تكوّن إطاراً نظرياً لحركة التعليم، وأهدافه واهتماماته وغاياته، وكل المحاور الأخرى المتعلقة بقضية التعليم، يجب أن تفسر في ضوء هذا المفهوم.

 

إن أهم سمة للتعليم الصحيح: أنه يجعل صاحبه أكثر خشية لله، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)[فاطر: 28].

 

وأي تعليم لا يكسب طلابه هذه الخشية، فاعلم أن هناك خلل، وخلل كبير.

 

كما أنه يساعد على معرفة الحق، والاهتداء إلى الطريق الأقوم، قال الله -تعالى-: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[سبأ: 6].

 

وكل تعليم لا يهدى طلابه للتي هي أقوم، فهو تعليم فيه عوج، وعوج كبير.

 

أيها المسلمون: ليست الشكوى من سوء الأحوال شيئاً جديداً على المجتمعات البشرية، لكن من الواضح أن هناك نوعاً من الارتباط بين ما يحدث من تقدم حضاري، وبين ارتفاع وتيرة الشكاوى، وذلك بسبب اتساع طموحات الناس، وبسبب الأعراض الجانبية التي يفرزها الفراغ والرخاء، وبسبب التغير السريع في حياة الناس.

 

إن الدول التي تقود التقدم هي التي تنشر الوعي، وتقنن المعايير المساعدة على إدراك حجم المشكلات، وكان مما اعتمدته في ذلك اللجوء إلى التعليم على أنه المدخل الأساسي للخلاص من المشكلات، وللارتقاء في معارج التقدم، وهذا في الحقيقة أدى إلى زيادة الطلب على التعليم إلى حدود تعجز عنه الإمكانات المتاحة لمعظم الدول المتقدمة والنامية.

 

إن الجميع يشكون من انخفاض مستوى التعليم، لكن نوعية الشكوى تختلف، فالدول المتقدمة تشكو من عدم تحقيق التعليم للمستوى المطلوب لمزيد من السيطرة على موارد الطبيعة، والسيطرة على الأمم المنافسة، وإخضاع الدول الأخرى لها، على حين أن شكوى الدول النامية والمتخلفة يكمن في محاولة التقليل من مستوى الأمية الأبجدية، أو من تهيئة العدد من المدارس لطلابها، لكي تستوعب الزيادة التراكمية، إلى حد وضع أربعين إلى خمسين طالب في الصف الواحد، أو محاولة تهيئة مكان مناسب للطلاب لقضاء الحاجة، ولم تجد بعد الفرصة للبحث في كيفية الارتقاء بالنوعية، كما هو شأن الدول المتقدمة.

 

وكلما بعد أنظمة التعليم ومناهجه ومواده عن الدين الذي يدين به هذا المجتمع أو ذاك، كلما زادت المشكلة وتفاقم الخلل.

 

ففي فترة من فترات التاريخ، الولايات المتحدة الأمريكية التي يُنظر لها الآن أنها الدولة الوحيدة المتقدمة في كل شيء، شعرت في وقت من الأوقات أنها قد تخلفت في مسألة التعليم، فاهتزت الولايات الأمريكية كلها، وهب المسؤولون لمعالجة المشكلة، وإذا كان المؤمن يستفيد من كلمة صواب ولو من فم عدوه، فإن الرئيس الأمريكي في حينه رونالد ريجان، قال: "إن تدهور التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة بُعد الأساتذة والقائمين على التعليم والأبناء عن تعاليم الكتاب المقدس".

 

هكذا، قال عن سبب التعثر في التعليم هناك، مع علمنا نحن بأن كتابهم المقدس محرّف، فهل يعي هذه الحقيقة الذين كتابهم هو أصح كتاب على وجه الأرض الآن؟.

 

أيها المسلمون: إن هناك طبقية واضحة في المدارس، فعلى حين تزدحم المدارس في القرى والأحياء الفقيرة بالطلاب وبالمدرسين الأقل كفاءة، مع شح في وسائل التعليم، تجد المدارس في المدن وفي الأحياء الراقية تزخر بالإمكانات المختلفة.

 

ومع وجود هذه المشكلة أخذ التعليم الخاص يزيد من تفاقم المشكلة، حيث إن القادرين على الدفع من رجالات الأعمال وطبقة النخبة، يدفعون بأبنائهم إلى المدارس الخاصة التي توفر في العادة إمكانات أفضل من المدارس الحكومية.

 

وهذا يجعل من التعليم الذي هو وسيلة دمج اجتماعي في الأصل أداة لتمزيق أوصال المجتمع، والتهيئة لأوضاع الاستغلال والعبودية، وانعدام تكافؤ الفرص، وهذا بسبب أن التعليم لم تصحبه إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية بعيدة المدى.

 

إن كثيراً من المدارس الخاصة يتعامل مع قضية التعليم من منظور تجاري بحت، فرضى الطالب مقدم على رضى المدرس، والشكل مقدم على الجوهر، وهي من خلال تدليل الطالب المُبالَغ فيه تفسد من نفسه وخلقه أكثر مما تصلح.

 

وهذا كله يجري في بلاد المسلمين على حين تتجه دول كافرة إلى المزيد من فرض الرقابة على مؤسسات التعليم، حتى تنقذها من براثن نظام التجارة والشهية إلى الربح الفاحش، ولو على تخريج طلبة لم يستفيدوا من قطاع التعليم، سوى الشهادة التي يفرح بها الطالب، وقبل الطالب أباه فرحاً ظاهرياً.

 

أيها المسلمون: تشهد المرافق في العالم النامي ضغوطاً لا تقوى على حملها، ولا يستطيع التعليم أن يستثني نفسه منها.

 

إن الدول الإسلامية تنوء بالأعباء المالية، وتئن من وطأة تكاليف التعليم المحدودة الذي تقدمه، حيث إن بعضها ينفق عليه ما يقرب من 25% من ميزانياتها و6% من الناتج الوطني.

 

وهذا حد يصعب تجاوزه؛ لأن القطاعات الأخرى تطالب أيضاً بنصيبها من ذلك الناتج.

 

تشير بعض الدراسات إلى أن الدول العربية في مجموعها أنفقت عام 82م - 129 دولار - على كل فرد على حين كانت أمريكا الشمالية تنفق على الفرد في ذلك العام نحواً من - 918 دولاراً -.

 

وذكر أحد الباحثين: أن ما ينفق في مصر على الطالب في التعليم الإلزامي يعادل عُشر مما ينفق على الطالب في إسرائيل.

 

ولا ينبغي أن يغيب عن الذهن أن الأموال القليلة المتوفرة للتعليم لا يتم إنفاق سوى جزء قليل منها على المباني والتجهيزات والمختبرات والمكتبات، فقد أظهرت بعض الإحصاءات أن ما ينفق على رواتب المعلمين والإداريين يلتهم نحواً من 86% من ميزانيات التعليم في بعض الدول العربية، وهذه سمة مشتركة بين الدول النامية، وهذا يعني وجود بيئة تعليمية واهية وغير مواتية، فهناك أعداد هائلة من الطلاب ليس لهم أي مكان في مكتبة المدرسة.

 

والنسبة العظمى منهم لا يجري أية تجربة علمية، يدخل الطالب المرحلة الابتدائية، ويتخرج من الثانوية، ولم يمسك بيده دورقاً، ولو لإجراء تجربة بسيطة، بل إن هناك من يمر عليه بضعة أشهر ولا يجد الكتاب المدرسي.

 

أضف إلى هذا أن الفصول مزدحمة جداً بالطلاب مما أضعف حماس المعلم لإعطاء الواجبات، ومتابعة الطلاب، بل ومما ترتب على ضعف ميزانيات قطاع التعليم أن انعكس ذلك على ساعات مكوث الطلاب في المدرسة، فعلى حين يقضي الطالب في الدول المتقدمة أكثر من ثماني ساعات يومياً، فإنه لا يتاح للطالب في الدول الإسلامية أكثر من ست ساعات، وهذه المدة آخذة في التناقص، حيث إن المدارس صارت تعمل فترتين وثلاث فترات في كثير من البلدان، وقد كشفت دراسة في إحدى الدول العربية أن 50% من مدارس المرحلة الابتدائية ونحواً من 40% من المدارس المتوسطة تعمل فترتين و 38% من بعض المدارس تعمل ثلاث فترات و 7% من المدارس تعمل أربع فترات، وبهذا قصر اليوم المدرسي، وانعدمت ممارسات الهوايات، وتم فقد علاقة الوجه لوجه بين المعلم والطالب.

 

فنحن نؤمن أن مشكلات التعليم لا تنبع من ضعف الاقتصاد وحده، لكن مع هذا لا نختلف أن هناك الكثير من مشاكله التي لا يمكن تجاوزها من غير توفير الأموال الضرورية لتهيئة المناخ الملائم للتعليم، واكتساب الخبرات والمهارات.

 

فهل من حلول سريعة ومدروسة من ذوي الاختصاص لهذه المشاكل؟ وهل من ارتقاءٍ لوضع التعليم في بلاد المسلمين أجمع ونحن أمة علم وتعليم؟.

 

أيها المسلمون: إن الله -جل وعلا- أكرم هذه الأمة بالرسالة الخاتمة التي حوت من النصح والإرشاد، وتبيين الأمور ما يشكل كل الخطوط العريضة لصلاح الإنسان ونجاحه، لكن ذلك لا يغني الإنسان المسلم عن الاجتهاد في تحديد المناهج والأساليب التعليمية التي تحقق غاية الشريعة في حياة بني البشر وتساعد على تكوين الناشئة وإعدادهم للعيش في حياة كريمة آمنة ومنتجة.

 

لكن بكل صراحة، فإن الجذور لقضية المناهج قديمة، وذيولها ستظل ممتدة، وواجب على أهل كل مؤسسة تعليمية: أن يدخلوا من التحسينات والتطويرات بمقدار ما يستطيعون.

 

لا يخفى أن تفاقم مشكلة مناهجنا الحديثة قد بدأ يوم أن أرسلت أوربا جيوشاً من الإرساليات التعليمية والتبشيرية إلى بلاد المسلمين، وخصصت مؤسسات كثيرة لتقديم المعونات الفنية والمادية لبناء المدارس والكليات، ورسم المناهج والخطط الدراسية؛ وقد بعث الانبهار بالغرب على أن تقوم الدول الإسلامية بإرسال عشرات الألوف من أبنائها إلى البلدان الغربية ليتلقوا الفلسفة الغربية في التعليم، وليتدربوا على إدارة المدارس، وبناء المناهج، وتصميم الاختبارات عند عودتهم إلى بلادهم.

 

ومع أن ذلك لم يخل من بعض الفوائد، إلا أنه أحدث الكثير من الفوضى والتشويش والتشويه في رؤية الأمة للمناهج التربوية والتعليمية التي تحتاج إليها فعلاً.

 

كما أنه أوجد نوعاً من الصراع داخل كل المؤسسات التعليمية، وقد كان هذا ضريبة التقصير والقصور الذي أصاب جهودنا التعليمية عبر قرون سلفت.

 

إن المناهج الجيدة هي التي تصدر عن رؤية شاملة ومتكاملة لوظيفة الإنسان في الحياة مع الأخذ بعين الاعتبار ما يحتاجه بناؤه الشخصي، من مبادئ ومفاهيم، ومعلومات ومهارات، والانتباه كذلك إلى متطلبات الاندماج في الحياة العامة، وهذا كله لن يتم إلا إذا كان هناك نوع من التوحد في رؤية واضعي السياسات التعليمية لهذه القضايا، وهذا ما نفتقده في كثير من الأحيان.

 

لقد ابتلي العالم الإسلامي بالتبعية الثقافية التي أربكت رؤيته لذاته ومحيطه، وقبل ذلك لأهدافه وغاياته العليا، ولذا، فإنه يُرى أن المناهج في بعض البلدان الإسلامية لا ترتبط بأهداف تحقيق العبودية لله -تعالى-، والولاء لهذا الدين، ولأمة الإسلام، وإنما تُؤسِس لدى الطالب الانتماء إلى الإقليم، أو العنصر، أو القوم، وبعضها يؤسس لدى الطالب روحاً تجارية نفعية كتلك التي يتشبع بها موظفو العلاقات العامة، ومندوبو المبيعات، فنشأ لديها جيل أناني ضيق الأفق، خامد العاطفة، عاجز عن الانفتاح على الدوائر الأوسع.

 

هذا وقد تأثرت بعض الدول بالاتجاه الاشتراكي، ودول أخرى بالاتجاه الليبرالي الرأسمالي، وقد انعكس ذلك على مناهجها جميعاً، بل وعلى نوعية العلاقات الاجتماعية، والمؤسسات التعليمية.

 

وقد كان لذلك آثاراً سلبية عديدة على وحدة الأمة، وتجانس فكر شبابها.

 

الحصيلة التي يخرج بها الطالب في كثير من البلاد الإسلامية هي الشعور بأن بلده بلد الانتصارات العظيمة في كل مجالات الحياة، والشعور بأن تاريخه الوطني سلسلة من القفزات في مراقي التقدم والازدهار.

 

وحين تضطر كتب التاريخ إلى ذكر واقعة هزيمة أو نكسة، فإن من النادر تفسير ذلك بالقصور الذاتي، أو الاجتهاد الخاطئ.

 

وغالباً ما يعزى ذلك إلى تآمر الأعداء أو خيانة شخص من الداخل.

 

الدافع إلى هذا غالباً ما يكون خيّراً حيث يأمل واضعوا المناهج أن يغرسوا في نفوس الناشئة وعقولهم الانتماء لأوطانهم، والثقة بالنفس، والاعتزاز بالتاريخ.

 

لكن هذا يزود الناشئة بالسذاجة، ويجعلهم لقمة سائغة للإعلام الأجنبي المعادي.

 

كما يزعزع ثقتهم بكل ما تعلموه ولُقنوه حين يزداد وعيهم وتنمو خبراتهم.

 

أضف إلى هذا أن رؤيتهم للأشياء تصبح مشوهة، وغير واقعية، وربما أدت المبالغة في تمجيد الذات، إلى تكوين نزعة عنصرية لديهم على نحو ما صنعت النازية بالألمان.

 

إن مهمة المناهج في هذه القضية دقيقة جداً، وأعتقد أن من الخير لنا ولأبنائنا أن يروا الأشياء كما هي مع فهم ظروف الأحداث وملابساتها الموضوعية، فذاك يزودهم بالرؤية الصحيحة، كما يزودهم بالحصانة والمناعة ضد الإعلام المعادي، ويجعلُهم في مأمن من الزيف والنكوص على الأعقاب.

 

أما محاولة إخفاء الحقائق، فليُعلم بأنه لا شيء يمكن أن يخفي ومالا يعلم اليوم سيعلم غداً، وعندها تكون السلبيات أكبر وربما تنـزع الثقة بين الطالب وواضعي المناهج، وهذا ما لا يريده الجميع.

 

إن أكثر مناهج التعليم في البلاد الإسلامية تشكو انفصاماً واضحاً بين الدلائل الشرعية، والدلائل الكونية، فتجد أن المواد الشرعية شبه خالية من الاستدلال بآيات الله في الآفاق والأنفس، والتي تكشف عنها علوم الفلك والكيمياء والفيزياء والأحياء، وما يتبدى فيها كل يوم من سنن ربانية ماضية.

 

ونجد في المقابل أن المناهج والمواد الطبيعية والعلمية والاجتماعية تكاد تكون خالية من الاستدلال بالآيات والأحاديث، والأحكام والقضايا الإيمانية، مع وفرتها في مصادرنا الإسلامية المختلفة.

 

بل تجد القصور -مع كل أسف- عند كثير من المعلمين في الربط بين المواد العلمية والقضايا الشرعية.

 

ولو أن الأمر وقف عند هذا الحد لهان الخطب، لكن واقع الحال أن في بعض المناهج نزعة علمانية، وبعضها ينطلق من نظريات تتعارض مع جوهر الإسلام، وهذا يؤدي إلى تشويش عقيدة الطالب وفكره، وتمزيق كيانه المعرفي، ويدفعه دفعاً إلى الإحساس بانحسار المنهجية الإسلامية عن جوانب فكرية ومعرفية كثيرة، وهذا في الحقيقة أسوأ ما يمكن أن نقدمه إلى المجتمع.

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أما بعد:

 

يعتبر الحديث ناقصاً عندما نتحدث عن التعليم، ثم لا يكون للمدرس نصيب منه.

 

ذلك الجنديّ المجهول في وسط هذا الميدان الواسع الفسيح، يتحمل لوحده تيارات أمواج أنظمة التعليم من جهة، وعدم تقدير من قبل الآباء من جهة ثانية، وسفه الطلاب من جهة ثالثة، وربما جهة رابعة وخامسة، لا نعلم تفاصيلها.

 

لقد كان المدرس في الماضي يشعر أنه معلم ومرب وقدوة وأب لكل طالب يقوم على تعليمه.

 

وكان أكثر المدرسين يتصرف التصرف الذي ينسجم مع ذلك الإحساس.

 

وفي الآونة الأخيرة، ومن ضمن التطورات الخطيرة في حياة الأمة، ما حدث في وظيفة المدرس، وبسبب ضغوط هائلة قُزّمت كل الرموز والوظائف الفاعلة في الحياة العامة، ومنها: وظيفة المدرس، الذي انحصر في إعطاء المعلومات داخل قاعة الدرس، وفق جدول محدد، هذا إن أعطى المعلومات كاملة مستوفاة.

 

فهذا التهميش العنيف غيّر نظرة المدرس إلى نفسه، وغيّر نظرة المجتمع إليه، ودفع ثمن ذلك كله الطالب الذي فقد القدوة والمثل، وفقد العطف والسمو والنصح.

 

إنه المدرس الذي يشكو دهره، ويندب حظَّه، فإجازاته ليست بيده، والطلاب أحالوا سوادَ شعره إلى بياض، والآباء يُكملون ما يعجز عنه أبناؤهم.

 

فالمدرس في بعض الأحيان يعتبر نفسه أسوأ الناس حظّاً، فأقرانه حاز بعضهم على مراتب عالية، وأسوأهمحالاً من يستأذن عمله متى شاء، ويأتي للدوام متى أراد، ويتعامل مع أوراق جامدة.

 

أما هو فيعيش بين ضجيج المراهقين، وصخب الصغار، ليعود بعدها إلى أكوام الدفاتر.

 

أي خطأ يرتكبه ذلك المدرس الذي يظن أن وظيفته رسمية فحسب؟ وأي ظلم وإهانة للجيل الناشئ سيحصل لو ظنّ المدرس ذلك؟

 

فيا أخي المدرس: أنت على ثغرة عظيمة، أنت الذي وثق آلاف وآلاف أولياء الأمور عندما سلموا لك أولادهم، وعلقوا برقبتك هذه الأمانة، فذاك الرجل الطاعن في السن، وتلك المرأة الضعيفة قد علقوا آمالهم بعد الله عليك أيها المدرس، ولذا فإن وظيفتُك أسمى وأعلى من أن تكون وظيفة رسمية أو مصدر لكسب الرزق، إنها إعداد للأجيال، وبناء للأمة.

 

هل تعلم -أخي المدرس- أن العالم الداعية الذي يحمل همّ دينه، أو ذلك القاضي الذي يحكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، أو ذلك الجندي الذي يقف في الميدان حامياً لعرين الأمة وحارساً لثغورها؟ هل تعلم بأن كل هؤلاء وغيرهم وغيرهم إنما كانت بداياتهم هو أنت وكل هؤلاء قد عبروا بوابة المدارس؟

 

إن عظماء العالم وكبار الساسة وصناع القرارات الخطيرة كل هؤلاء بالتأكيد قد مروا عليك أنت أيها المدرس أولاً، وإن بصماتُك بالتأكيد قد أثرت في ناحية من نواحي تفكيرهم أو على جانب من جوانب شخصياتهم.

 

إنه ليس بلازم أن يكون قواد الأمة ومصلحيها قد مروا على عيادات الأطباء، أو على مكاتب المهندسين أو المحامين، بل إن العكس هو الصحيح، إذ لا بد أن يكون كل هؤلاء الأطباء والمهندسون والصيادلة والمحامون والمحاسبون، وغيرهم، لا بد وأن يكونوا قد مروا من تحت يد مدرس، فهم من ناتج عمله وجهده وتدريبه.

 

إن المدرسين يخدمون البشرية جمعاء ويتركون بصماتهم واضحة على حياة الأفراد، ومستقبلهم يستمر مع هؤلاء الأفراد السنوات، وتمتد معهم ما امتد بهم العمر.

 

إنهم يتدخلون في تشكيل حياة كل فرد خرج من باب المدرسة ويشكلون شخصيات رجال المجتمع من سياسيين وعسكريين ومفكرين وعاملين في مجالات الحياة المختلفة، فهو أنت أيها المدرس، الذي تدرّس الصغير والكبير، وتُعدّ الجميع، وتهيئهم ليصل بعضه إلى ما لم تصل إليه أنت، لكنك صاحب اللبنة الأولى، وحجر الأساس.

 

فهل أدركت موقعك من المجتمع وعلمت مكانك بين الناس؟

 

فيا معاشر المدرسين الفضلاء: يا من جعلكم الله مشاعل للنور والرحمة: هاهم أبناء المسلمين قد أقبلوا عليكم محبّين مجلّين، أقبلوا عليكم بكل شوق وحنين، ينتظرون منكم علوماً نافعة، ينتظرون منكم الوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، فخذوا بمجامع تلك القلوب إلى الله، ودلوها على محبة الله، واغرسوا فيها الإيمان والإحسان والعبودية لله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].

 

لقد أقبل أبناء المسلمين عليكم أيها المدرسون، فعليكم حقوق وواجبات، أمانات ومسئوليات، برأت من حملها الأرض والسماوات، وأشفقت من عبئها الجبال الشم الشامخات الراسيات، حمل هذه الأمانات المدرس، حملها أمانة على ظهره، ووضعها في رقبته وعنقه، فطوبى ثم طوبى للمخلصين المجدين والمجتهدين المثابرين الناصحين، وويل للمستهزئين والمستخفين والمضيعين: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[العنكبوت: 13].

 

فيا أيها المدرسون: انعقدت عليكم الآمال بعد الله، في هداية الناس من الضلال، في تعليم الجاهل وتربية السفيه، سيأتيكم أقوام وفئام، يأتيكم الجاهل بجهله، والسفيه بسفهه، فاصبروا وصابروا واغرسوا بأيديكم بذوراً قريباً يكون ثمارها، وقريباً يكون حصادها.

 

إن التعليم رسالةٌ عظيمةٌ تقلّدها الأنبياء، وورثها العلماء، وقام بها الأخيار والصلحاء، فطوبى لمن عرف حقها، وأدى حقوقها على الوجه المطلوب الذي يرضي الله -جل جلاله-.

 

لكن ماذا يصنع المدرس؟ أو ماذا تستطيع أن تعمل إدارة المدرسة؟ بل حتى وزارة المعارف لطالب نشأ في بيت بعيد عن الأجواء الشرعية المنضبطة، وآخر تربى على استنكاف العبادات، وثالث نشأ في جو موبوء بالمنكرات، ورابع ركّب أبوه الدش فوق رأسه، فقد يستطيع المدرس أن يقطع خطوات في تربية الطالب وتوجيهه، لكنه جهد غير مضمون الثمرة؛ لأن تأثير البيت المعاكس يظل دائما عرضة لإفساد ما يصنعه المدرس.

 

وإن من أكبر التناقضات التي يعيشها الطالب، والتي تكون سبباً في انحرافه سلوكياً، وسقوطه دراسياً، هو التناقض الذي يعيشه بين توجيهات مدرس صالح ومتابعة إدارة جيدة وبين بيت موبوء بوسائل الإعلام المخالفة والمصادمة لتوجيهات المدرسة والمدرس.

 

كيف سيتفوق طالب يقضي كل يوم أربع أو حتى خمس ساعات بين أفلامٍ ساقطة، وبرامج هدامة، تهدم كل يوم لبنة من لبنات الفطرة السليمة في شخصيته؟ ماذا تتوقع من طالب في سن المراهقة يعكف على مسلسلات قاعدتها الأساسية الحب والغرام والعشق بين الجنسين ومسرحيات وتمثيليات تظهر مفاتن المرأة ومحاسنها؟ ثم يتمنى الأب أن يكون ولده في المرتبة السامية العليا من الأخلاق والأدب، ومن السلوك الطيب، ويكون متفوقاً في دراسته؟

 

هذا لا يمكن أبداً.

 

فاتقوا الله -أيها الآباء- وكونوا عوناً وسنداً لتوجيهات المدرس، ولا تكونوا سبباً في انحراف أولادكم بسبب محرمات أدخلتموها في بيوتكم ثم بعده فشل هذا الطالب في دراسته وحياته كله.

 

اللهم رحمة ...

 

 

المرفقات

عودة المدارس.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات