عناصر الخطبة
1/ شذَراتُ مكة وبلاد الحرمين 2/ حملها الدعوة 3/ تشرُّفها بالنبي الكريم وهبوط الوحي 4/ من خصائص المدينة 5/ انبساط الأمن في دولتنا الحديثة للتمسك بالشرع 6/ استدامة الأمن بدفع الحق ورفع الظلماهداف الخطبة
1/بيان فضل هذه البلاد وتشرفها باحتضان الدعوة الإسلامية 2/ التنبيه إلى أن الأمن الحاصل في البلاد سببه التمسك بالشرع 3/ الدعوة لاستدامة الأمن بالتمسك بالشرع ورفع المظالماقتباس
الحديث عن هذه البلاد الطيبِ أهلُها، هو حديث عن بلد هو مهوى النفوس، ومهدُ القلوب، وبه ترشفت النفوسُ كلمةَ التوحيد من فمِ أعذب الأفواه، لا إله إلا الله، عالية، صداحة الآفاق، سامقةَ...إن الحديث سيكون عن أرض الطهر، وفخر الدهر، وإكليل العصر، من آدم إلى خير خلق الله كلهمِ؛ سيكون عن أرض تبَارك نُسكها، وعبق مسكها، يذهب الناس بأمصارهم وديارهم وتراب أرضهم، ويذهبون...
الحمد لله يضع ويرفع، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، الحمد له،
هذي الخرادل ليس يخفى كُنهُها عمَّنْ لصوت النمل ليلا يسمعُ...
سبحانه! سَكَنَاتُ هذا الكونِ ساجدة وخاضعة له، وبكل ذل تركع..
سبحانه! في ذرة أو رملة ملكوته فيها يهيم ويخضع..
سبحانه! علم أحاط بكل شيء كائن لا يَعْزُبَنْ عَن عِلم ربي مَوْضِعُ..
أشهد ألّا إله إلا هو، له أسلم مَن في السماوات والأرْضِ طَوْعَاً وكرها وإليه يرجعون، وأشهد أن محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، نبي الله:
هُوَ خيْرُ مَن وطئ الحَصَى *** مِنْ كُلِّ إِنْسٍ ناطقٍ أو جَانِ
هو أحمدُ البركاتِ ليس كَمِثْلِهِ *** في الأنبياءِ وفي الخليقةِ ثان
صلَّى السُّها صلى الضُّحى صلى العُلا *** لك يا نبيَّ الله والثقلان
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: من أين أبتدئ؟ الحديث يؤزني أزّاً لما لا أحسن! من أين لي يا فارس الكلمات وبضاعتي مزجاة؟! من أين لي؟ ورحى الكلام بهن ليس تطحن!.
ليس حديثا عابرا، أو حدثا سائرا، ما كان حديثا يُفترى، ما كان فتونا يتردد، من أين أبتدئ الحديث؟ وحديثنا ما كان عن لبنى ولا سَلمى ولا ليلى، ولا عن قصة الحب التي سلفت، ولا عن فارس الأحلام حين تحققت أحلامه في يوم دارةِ جُلجُلِ! ليس عن ذاك أحدثكم، وحاشا مقامٍ كهذا أن يكون الحديثُ فيه ذاك! إنه على قدر عظم الكلام يكون العيُ والحصرُ.
إنه لما خلق الله الخلق اصطفى منهم خواصه وأولياءه، واصطفى من أوليائه أنبياءه، وخلق الأرض، واختار منها أفضلها وأشرفها وأحسنها.
كانت حكمة الله التي جعلت الأشياء مراتب، والناسَ مراتب، والأزمان مراتب، والأماكن مراتب؛ هي حكمته التي جعلت تراب أرضٍ أغلى من تراب أختها، كانت حكمته تلك التي جعلت الصخرة الصماء العمياء خيرا من أختها، لا لفضل سوى أنها سكنت بقعة لم تُقدَّر لأختها، وقديما قال الأول:
هو الجدُّ حتى تفضل العينُ أختَها *** وحتى يكون اليومُ لليومِ سيِّدَا
لن يكون الحديث غزلا في ربات حجال، أو في ذاتِ خلخال، وطرف قتَّال؛ ولن يكون في ذات عيون نجلى،
من اللواتي اكتست قَدّاً وشقّ لها *** من ثوبه الحسنُ جِلْبَابَاً فردّاها
كلا! فيا ويل الشجيّ من الخليّ، وأرباب الغرام من الدعي! كلا! إن الحديث سيكون عن مهد لا كالمهود، وتراب أرض لا كتراب أرض، وطينة لا كالطينات!
وبقعة أرض تهامَى بها النّـــ *** ــــورُ وافْتَخَرَ الخافِقَانِ!
إن الحديث سيكون عن أرض الطهر، وفخر الدهر، وإكليل العصر، من آدم إلى خير خلق الله كلهمِ؛ سيكون عن أرض تبَارك نُسكها، وعبق مسكها، يذهب الناس بأمصارهم وديارهم وتراب أرضهم، ويذهبون هم بأرض الطهر في دار الخلود، مَن هم؟ يذهب غيرهم بدورهم ومجدهم وتأريخِ شرفهم، ويذهبون هم بخير الديار،
سكن الفخر بها *** وبنى للخلد طوبَهْ!
يلثم غيرُهم تراب أوطانهم، أما هم فيلثمون ثرى وَطِئته قدما محمد بن عبد الله،
وأورث اللهُ أرض الأنبياء لهم *** والسيفُ للسيفِ أكفاءٌ وأقران
عن أرض الجلال أحدثكم، عن أرض الفخار أحدثكم، عن أرض الخلود أحدثكم، أحدثكم هنا عن هنا، أحدثكم عن أرض العلا، عن أرض السنا، عن أرض الإباء،
درج المجدُ عليها حِقْبَةً *** وَسَمَا فوق بُلُوغِ الأرَبِ
وبربكم يا ساكني أمِّ القرى *** ما كان حبكم حديثاً يُفْتَرَى
أهوى ديارَكُمُ وأهوى حولها *** أرضا نَشَأْتُ بها ويا طيب الثرى
أهوى دياركم التي مَن حَلَّها *** حل الجنان بها وعَلّ الكوثرا
واهاً لهن منازلاً ومراتعاً *** ترعى الظِّباءَ بهنَّ آسادُ الشَّرى
أشري بكل الدهر منها ساعة *** لو أنها مما يُباع ويشترى!
إني أحدثكم عن أرضِ الحرمين، وقبلةِ الثقلين، وضياء الفرقدين؛ أحدثكم عن أرض توحدت فكان نصيب الشمل منها الحرمينِ، وليذهب الناسُ بالذي يذهبون!.
يفنى الزمان وذكرُها لم يَهْرَمِ *** جَمَعَتْ من الأمجادِ شَأْوَاً بالِغَا
ليفتخروا بما شاءوا، وليساجلوا كما يشاءون، فهذه الأرض ميلادُ كل عظيمة وعظيم،
ليس المقام سجالاً أو مفاخَرَةً *** حاشاه! لكنه ذكرى لمـــُدَّكِرِ!
بلادٌ عبدنا الله في حبها وما *** بلاد سواها في المحبة نعْبُد
إنه ليس مقامَ سجال، ولا هتافا بين فريقين، أو تشجيعا صبيانيا، إنه تبيانٌ لفضل بلاد فيها أعظم بقعة خلقها الله، ولتكون كذلك إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
حديثي عن هذه البلاد هو حديثٌ عن بلاد فيها بلدٌ هو أم الدنيا، بنص كلام رب الدنيا، إذ يقول: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7].
حديثي عن هذه البلاد هو حديث عن بلد يقول الله -تعالى- فيه: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد:1-2]، ثم أقسم أيضا فقال: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين:3].
حديثي عن هذه البلاد هو حديث عن مسجد بها هو قبلة أهل الأرض قاطبة: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة:150].
حديثي عن هذه البلاد هو حديث عن مسجد فيها هو أول مسجد وضع في الأرض، وقد سأل أبو ذر -رضي الله عنه- نبيه -عليه الصلاة والسلام-: أيّ مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام"، قال: قلت: ثم أي؟ قال: "المسجدُ الأقصى"، قلت كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة".
فخر الدهر أن تكون ممن اصطفاك الله لتنتسب إلى بلاد فيها بَلَدَان هما خيرُ بُلْدانِ الدنيا، أقسم بالله!
ليس المقام سجالاً أو مفاخَرَةً *** حاشاه! لكنه ذكرى لمـــُدَّكِرِ!
بلادٌ عبدنا الله في حبها وما *** بلاد سواها في المحبة نعْبُد
أفلم يصرح رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- بحب بلده؟ ما الذي جعله يُثني عليها ويجعلها أحبَّ بلاد الله إليه وأصحابُها هم من أخرجوه؟ بل وملؤوا محبوبته أوثانا وأندادا تعبد من دون الله.
ما كان حديثا يفترى!
أدِر الحديث ورَوِّ من أنبائها *** تشفي وتُنقع لاعجاً وغليلا
حديثي عن هذه البلاد هو حديث عن بلد فيها هبط الوحي, ونزل القرآن، وابتدأ به ظهور الإسلام، ومُنع من دخوله الكفار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة:28].
حديثي عن هذه البلاد هو:
حديثُ الروح للأرواح يسري *** وتدركه القلوب بلا عناءِ!
الحديث عن هذه البلاد الطيبِ أهلُها، هو حديث عن بلد هو مهوى النفوس، ومهدُ القلوب، وبه ترشفت النفوسُ كلمةَ التوحيد من فمِ أعذب الأفواه، لا إله إلا الله، عالية، صداحة الآفاق، سامقةَ الجبين.
في هذا البلد الطيب:
وُلِدَ الهُدَى فالكائناتُ ضياءُ *** وفمُ الزمان تَبَسُّمٌ وثَنَاءُ!
هذه البلاد شرف الأمكنة، أن يكون فيها بلدٌ ولد فيه سيد الإنس والجان، محمد بن عبد الله بنِ عدنان، ولد فيها لتكون المحطةَ التي يتنزل فيها أمين من في السماء إلى أمين من في الأرض!
سند الفخار معنعنٌ ما فيه من *** خرم ولا قطْعٍ ولا آفاتِ!
شرف الدهر أن تكون أرضُ الحرمين هي الأرضَ التي ضمت ذلك المهد، وأسنمةَ المجد، أبا عن جد!.
هذه البلاد حملت الدعوة المباركة من نشأتها حتى استواء سوقها، حملت الدعوة في كل مراحلها وأمكنتها وأزمانها، من الدعوة السرية حتى الجهرية، حتى فتح مكة، حتى يومنا هذا:
والدعوةُ البيضاءُ ترسل نورها *** يتدفق الإشعاع والإشعاع!
هذه البلاد سماوية الأرض، وأرضية السماء، هذه البلاد فيها بلد من لم يتجه إليه بنفسه كل يوم خمسَ مرات، فليس من أهل هذه القبلة، ولا من الإسلام في شيء!.
هذه البلاد:
إليها تَنَاهَى الْعِزُّ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ *** يصير لها، أنَّى تصيرُ يصيرُ
لم لا يكون الخُلد فيها سابغاً *** وبها المقام وزمزمٌ وحطيم؟
لم لا؟ وفيها المكتانِ والمدينتانِ سرت فيهما الدعوة المباركة العظيمة، مدينتان لا يدخلهما الدجال والطاعون والكفار.
لم لا؟ وفيها محمدٌ وصحبُه،
من النفر الغُرِّ الذين وجوهُهم *** لها في حواشي كُلِّ داجيةٍ فَجْرُ
لم لا؛ وابن عبد الله متلوع بها وبحبها؟ كان حزينا -عليه الصلاة والسلام- وهو يلتفت إليها التفاتة المودع ذات عشية،
والحَشْرَجَاتُ تفُورُ فِي وِجْدَانِهِ *** والحُزْنُ يحفِرُ في الشَّجَا أُخْدُودَا
ليقول: "والله إنك لخيرُ أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله! ما أطيبك من بلد وأحبك إلي! ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت".
لم لا؟ والغار ينسج أعظم قصةِ تعب في التاريخ، وهو -عليه الصلاة والسلام-،
... في فؤاد الغار يرتجف *** في كفّه الدهر والتاريخ والصحفُ
مُزَمّل في رداء الطهر قد صَعدت *** أنفاسه في ربوع الكون تأتلفُ
من الصفا من سماء البيت جلَّله *** نورٌ من الله لا صوفٌ ولا خزفُ
وأشرقت بسمات الوحي وانقشعت *** تيجان من قتلوا الأحرار واعتسفوا
وَحُرّرت من بلال الحقّ مهجته *** وضلّ ما نسج الباغون واقترفوا
أنا الجزيرة في عيني عباقرةٌ *** الفجرُ والفتح والرضوان والشرف
أنا الجزيرة بيت الله قبلتُها *** وفي حمى عرفاتٍ دهرنا يقف
جبريل يروي لنا الآياتِ في حُللٍ *** منها القداسات والأملاك قد دلفوا
وقاتلت معنا الأملاكُ في أُحُـدٍ *** تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
ذابت عيونٌ وأسماعُ وأفئدةٌ *** حُبّاً لمن نوره في الغار مكتنفُ
اقرأ فأنت أبو التعليم رائده *** من بحر علمك كلُّ الجيل يغترفُ
إن لم تَصُغ منك أقلامٌ معارفها *** فالزور ديدنها والظلم والصلفُ
تأريخنا أنت أمهرناك أنفسنا *** نمضي على قبساتٍ منك أو نقفُ
على جماجمنا خُض كل ملحمةٍ *** أغلى الرؤوس التي في الله تقتطف
في كفك الشهم من حبل الهدى طرفُ *** على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
فكن شهيداً على بيع النفوس فما *** تحوي الضمائر منا فوق ما نصفُ!
سوف ننصب ونتعب، إن نحن قررنا أن يكون الحديثُ حصرا لفضائل هذه البلاد بكل جمائلها وطهرها وبركتها وخيرها، وبكل ما حوت من بقع طاهرة وأرض زاهرة بالهدى ودين الحق، ونحن نعلم أن الشمس لا تشرق إلا من مخادعها، ولا البدور بها إلا بمغناها،
إذا ذكر الناس أمصارهم *** فإن لنا مِصرَنا الخالدا
ليس المقام سجالاً أو مفاخَرَةً *** حاشاه! لكنه ذكرى لمـــُدَّكِرِ!
بلادٌ عبدنا الله في حبها وما *** بلاد سواها في المحبة نعْبُد
إذا عدد الناس مآثر البلدان، وعددوا فيها شخصياتها العظيمة، فأهل هذه الأرض قد كُفوا مؤونة ذلك بميلاد شخصية عالمية فريدة في أرضهم، النور من نوره، والشمس من ضيائه، والهدى من هديه، والرقي من رقيه، صلوات الله وسلامه عليه.
إذا عدد الناس مآثر البلدان، وعددوا فيها أثرها التاريخي وإرثها الزماني، فإن الله قد حقت كلمته على لسان رسوله أن مكة هي أحبُّ بلاد الله إلى الله، وأشرفها، وأن مدينة رسول الله هي حبيبته ومستقر دعوته، ومحضن جيل لن يتكرر، ويأبى الله أن يتكرر.
هذه البلاد:
بلاد حباها الله أمنا وكعبةً *** يصلي إليها الناس فرضا محتَّما
وآياتها ما دام للناس قبلة *** بها بينات تنثر الأفق أنجما
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا، وبلادنا، وسائر بلاد المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أما ليَّنَتْ أرضُ الحجاز قلوبَكم *** وقد ذاب من شوقٍ لها الحَجَرُ الصَّلْدُ؟!
مكة والمدينة هما عينا المكان، وهما عينا هذه البلاد، وإذا كنا ذكرنا شذرة من شذرات بلد الرسول الأول، فإن بلده الثاني ليس بمعزل عن هذا الفخار.
لما أصيب بعض الصحابة بحمى المدينة في أول الهجرة وتمنى أن يعود إلى مكة، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه فقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد".
ولقد استجاب الله لرسوله دعاءه، فعن أنس -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ وأسرع في السير فرحا لدخول المدينة، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ، حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا.
هذه المدينة هي التي يأرز الإيمان إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، هذه المدينة هي الأرض المباركة، بورك لها في كل شيء، في مدها وصاعها، وضوعفت فيها البركة بركتين!.
هذه المدينة، هي التي قال عنها النبي –عليه الصلاة والسلام-: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء! هلم إلى الرخاء! والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده! لا يخرج أحد منها إلا أخلف الله فيها خيرا منه، ألَا إن المدينة كالكير تخرج الخبث، لا تقومُ الساعة حتى تنفي المدينةُ شرارها كما ينفي الكيرُ خبث الحديد" رواه مسلم.
وقد روى مالكٌ أنه بلغه أن عمر بنَ عبدِ العزيز -رحمه الله-، حين خرج من المدينة لأمر الخلافة التفت إليها وبكى ثم قال: "يا مزاحم، أخشى أن نكون ممن نفت المدينة".
هذه المدينة هي قال عنها -عليه الصلاة والسلام-: "من استطاع أن يموت بالمدينة فلْيَمُتْ بها؛ فإني أشفع لمن يموتُ فيها" صححه الألباني.
هذه المدينة هي التي كانت أمنية الفاروق -رضي الله عنه- أن يموت فيها، وأن يقتل على ثراها، وقد كان يدعو فيقول: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك".
خبِّرُوني عنِ الحِجازِ فإنّي *** لا أُراني أمَلُّ ذِكْرَ الحِجازِ
وانعتوا لي ما بين بُطحانَ فالمسـ *** ـجد ما حولهُ وماذا يوازي
هذه الأرض الطيب أهلها وترابها، وُحْدَتُها وشَمْلُها المجتمِع على حبل من الله، حجازها ونجدها وشمالها وجنوبها، منّة الله على عباده في هذه الأرض، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103].
ومنذ أن عقد مجدد الدعوة محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- الاتفاق التاريخي بينه وبين محمد بن سعود -رحمه الله- على نصرة توحيد الله ونبذ البدع والشرك والخرافة والظلم والتحاكم إلى الطاغوت، وحين قال له: أبشر ببلادٍ خير من بلادك، وأبشر بالعزة والمنعة، فقال الشيخ ابن عبد الوهاب: وأنا أبشرك بالعزة والتمكين، وهذه كلمة لا إله إلا الله، من تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأنت ترى نجداً وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم بعضا، فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون. اهـ. منذ ذلك الحين، والكلمات المباركة تبني أطايب من أمن وإيمان واستقرار ومحبة وإلف.
وأقسم بالله! لو حل هذا الاتفاق في يوم من الأيام لانهدّ ذلك كلّه، ولا كرامة، وليس بين هذه البلد وبين الله ميثاق إلا بإقامة شريعته والتحاكم إليها، ونبذ الظلم، ونبذ التحاكم لغير ما أنزل الله، والقضاء على الفساد بكل أشكاله من حاكم أو محكوم!.
هذا البلد هو سفينة نوح إن أصلح ما بينه وبين خالقه، وهو طوفان عاد، إن نقض الميثاق،
وما يحفظ هذا البلدَ وبلدانَ المسلمين مثلُ تحكيم شريعته، والإصلاحِ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة المظلومين في كل مكان!.
ليس هذا البلدُ كأيِّ بلد! فهذه القبلة المكية، والأرض المحمدية هما وجهة الناس، وأهلها ممن يظن فيهم أنهم خير الناس، فمتى اختل نظام الصلاح في هذه الأرض فلن يحق لنا أن نوجه اللوم لمشرقي أو مغربي وقد حرمناه أنفسنا.
استعينوا على بقاء أمنكم بإيمانكم، واستعينوا على بقاء إيمانكم بدفع ظلمكم، لعلنا أن نكون ممن حق فيهم قولُ الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين، اللهم أقم بهن شرعك، وأفض عليهن رحمتك، وحقق بهن صلاح المسلمين.
اللهم إنا نسألك باسمك العظيم، اللهم احفظ هذه البلاد، أمنها وأمانها، ليلها ونهارها، أرضها وسماءها، رجالها ونساءها وأطفالها، اللهم احفظها من كل شر وذي شر، هي خاصة وبلدان المسلمين عامة.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح لنا الأئمة وولاة الأمور، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ووفِّق ولاتنا وولاة أمور المسلمين.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم