عناصر الخطبة
1/عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين 2/بعض العلماء الذين قاموا بالإصلاح عبر التاريخ الإسلامي 3/بيان عمر بن عبد العزيز لأخطاء مجتمعه ومظالم سابقيه 4/بعض أعمال عمر بن عبد العزيز في أول يوم من خلافته 5/تتبع عمر لمظالم بني أمية 6/قصص رائعة في عدل عمر بن عبد العزيز وورعهاقتباس
أيها المسلمون: توفي سليمان بن عبد الملك، وهو الذي كان قبل عمر، فلما دفن سليمان بن عبد الملك، وخرج عمر من قبره سُمع للأرض هدَّةٌ أو رجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة قُربت إليك لتركبها، فقال: مالي ولها، أبعدوها عني، وقربوا لي دابتي، فقُربت إليه فركبها، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة جرياً على...ط
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
لقد ذكرت لكم من قبل بأن الحركات الإصلاحية في الأمة لا بد أن يقودها علماء، النقلة القوية، وتغيير الواقع، ورد الأمور إلى نصابها، هذه القفزات في حياة الأمة لا بد أن يكون في مقدمتها علماؤها.
وهذا الكلام لا يعني التنقيص من قدر الدعاة والوعاظ والخطباء، وشباب الصحوة، أبداً، فهؤلاء هم خير المجتمع، وهم الصفوة، وعلى يدهم ينتشر الخير، وبسببهم يهتدي الناس، فالشباب الصالح هم الأمل بعد الله -عز وجل-، وهم الروح الذي يسري في بدن الأمة، فالأمة الإسلامية تنتظرهم، وتأملُ فيهم الشيء الكثير؛ لكن هؤلاء دورهم محدود، هم بإمكانهم أن يوصلوا الأمة إلى مقدار معين، لكن التحول النهائي، ونزع الأمة، تلك النزعة القوية، هذه لا بد لها من علماء؛ لأن قناعة الناس دائماً بالعلماء أكثر من غيرهم.
أيها المسلمون: تكلمت معكم في جمع مضت عن بعض هذه الشخصيات، وعن بعض هذه النماذج، التي كان لها دور جبار، في فترة من فترات التاريخ، وفي الأماكن التي وجدوا فيها فكانت خطبة عن عمر المختار، وأخرى عن عز الدين القسام.
وها نحن نقف معكم اليوم، مع المجدد الأول لهذه الأمة، خليفتها الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز، وكيف أنه نقل الناس من ذلك الوضع المتردي الذي كانوا يعيشونه، إلى تلك القمة السامقة في فترته التي حكم بها المسلمون.
أيها الأحبة في الله: إن في عرض قصص هؤلاء الرجال ليبعث الأمل في النفوس، ويشحذ الهمم؛ لأن قلوب الناس قد أصابها اليأس، وأصابها الوهن، والمسلمون فقدوا كل أمل؛ لأنهم يرون بأعينهم، ويسمعون بآذانهم، أخبار الأمة وما يجري بها، وما يُفعل بها، ولا يرون تقدماً.
فنقول: بأن الأمل كبير، وإن حركات التجديد والإصلاح قادمة، والله -جل وتعالى- لن يترك دينه، ولن يتخلى عن أوليائه، فالأمة الإسلامية مر بها فترات عصيبة جداً في تاريخها، وفي أماكن متعددة من أراضيها، فأوجد الله -جل وتعالى- أمثال شيخ الإسلام، والإمام أحمد، والعز بن عبد السلام، وصلاح الدين، وعمر المختار، ومحمد بن عبد الوهاب، وغيرهم، فأنقذ الله بهم الأمة، وأعزَّ الله بهم الدين، فرفع الناس رؤوسهم، وشعروا بكرامتهم، وسيوجد الله -تعالى- غيرهم وغيرهم، وستكون حركات الإصلاح على أيديهم بإذنه -سبحانه وتعالى-.
لكن -كما قلت-: بأن في عرض سير وقصص هؤلاء إيضاح لبعض المعالم، فإن الناس أحياناً لا تعرف الخطأ حتى تسمع الصواب، ولا ترى الظلم حتى تسمع ببعض صور العدل، وبضدها تتبين الأشياء:
إني لأشعر إذا أغش معالمهم *** كأنني راهب يغشى مصلاهُ
الله يعلم ما قلّبتُ سيرتهم *** يوماً وأخطأ دمع العين مجراهُ
أيها المسلمون: لنعد بعد هذه المقدمة إلى عرض شيء يسير من سيرة الإمام العادل، والحاكم الزاهد، والخليفة الورع أمير المؤمنين عمرُ بن عبد العزيز، ولا حاجة لي أن أفصّل معكم في ولادته ونشأته وزواجه، فهذه مجالها كتب التراجم والتاريخ، ولا تستوعبها خطبة قصيرة كهذه، لكننا نختار لكم نتفاً من سيرته -رحمه الله-، فإنه ضرب أروع الأمثلة في الحكم، وفي رفع الظلم عن الناس، وفي الزهد والورع والخوف من الله، كم نحن بحاجة إلى سماع مثل هذه الأخبار في واقع تغيب عنه هذه القضايا أحياناً؟
أيها الأحبة في الله: هناك قضية مهمة جداً أراد تأصيلها وتوضيحها هذا الحاكم الورع، وهي أيضاً غائبة عن ذهن كثير من المسلمين، في شتى بقاع العالم الإسلامي، كما كانت غائبة عن ذهن البعض تلك الأيام، هذه القضية هو أن عمر بن عبد العزيز أراد أن يبين للناس أن الوضع الذي كنتم عليه قبل أن أُولي الخلافة لم يكن وضعاً إسلامياً كاملاً، كان يريد رحمه الله أن يوضح للناس بأن الذي كنتم ترونه وتشاهدونه، وهذا الذي يحصل في الدولة ليس شرعياً كله، فإن هناك ظلم حاصل، وهناك أبرياء أكلت حقوقهم، وهناك تجاوزات كان يفعلها الأمراء والولاة، ولهذا من أول يوم تولى فيه الخلافة -رضي الله عنه- بدءا بهذه القضية الأساسية، كما سيتضح بعد قليل.
فنقول: نعم، إن هذه الحقيقة غائبة عن تصورات كثير من العوام، بل وحتى كثير من المثقفين في بقاع شتى من العالم الإسلامي، ذلك أنهم يظنون بأن الوضع الذي هم فيه هو الوضع الصحيح، بل إن البعض يظن أن هذا هو الوضع الشرعي، والأمر في حقيقته ليس كذلك، أحياناً تكون هناك أمور، وتكون هناك أوضاع، لا نقول: تخالف الشرع، بل تناقض وتضاد الشرع والدين، ويظن الناس بأن هذا هو الإسلام.
فهؤلاء كيف يفهمون بأن الوضع الفلاني ليس وضعاً شرعياً؟ كيف يبين لهؤلاء بأن الحال الذي ترونه ليس إسلامياً؟
هذا هو الدور الكبير الذي وضح معالمه، وبين قواعده أمير المؤمنين الحاكم الراشد عمر بن عبد العزيز.
أيها المسلمون: توفي سليمان بن عبد الملك، وهو الذي كان قبل عمر، فلما دفن سليمان بن عبد الملك، وخرج عمر من قبره سُمع للأرض هدَّةٌ أو رجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة قُربت إليك لتركبها، فقال: مالي ولها، أبعدوها عني، وقربوا لي دابتي، فقُربت إليه فركبها، فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة جرياً على عادة الخلفاء قبله، فقال: تنحَّ عني، مالي ولك، إنما أنا رجل من المسلمين، ثم سار مختلطاً بين الناس، حتى دخل المسجد، وصعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "أيها الناس إنما بُليت بهذا الأمر من غير رأيٍ منين ولا طِلبةٍ، ولا مشورة؛ وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعة، فاختاروا لأنفسكم غيري، فصاح المسلمون صيحةً واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضيناك، فلِ أمرنا باليمن والبركة.
فلما سكتوا، حمد الله -تعالى-، وأثنى عليه، وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قال: "أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم، وأكثروا ذكر هادم اللذات الموت، وأحسنوا له الاستعداد قبل أن ينزل بكم، وإن من لا يذكر من آبائه الذين ليس بينهم وبين آدم أباً حياً لمعرق في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها، ولا في نبيها، ولا في كتابها إنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً.
أيها الناس: "من أطاع الله -تعالى- وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم" ثم نزل رحمه الله.
ودخل دار الخلافة، وأمر بالستور فهتكت، وبالبسط فرفعت، وأمر ببيع ذلك، وإدخال أثمانها بيت مال المسلمين.
إن أوضاع بني أمية كانت أوضاعاً سيئة قبل أن يتولى عمر، كثر في أمرائها ظلم الناس، واقتطاع أراضيهم، وأخذ أراضي واسعة بغير حق، وبدون ثمن.
كما أنه كثر في عهد بني أمية تلك الفترة، وقبل تولى عمر الخلافة الأخذ من بيت المال، وصارت الأسرة الحاكمة تنفق على نفسها بشكل واسع، وبذخ عجيب، فبمجرد أن تولى عمر الحكم احتجب عن الناس ثلاثة أيام متواليات، لا يخرج إلا للصلاة، ولا يدخل عليه أحد، إلا وزيره مزاحم، وكان عمر خلال هذه الأيام يعمل ليل نهار مع وزيره، في فرز سجلات أراضي الأمراء، وفي استخراج العطايا والأموال التي كانوا يأخذونها، فجلس هذه الأيام الثلاث -رحمه الله- يدرسها دراسة دقيقة.
وكم كان عجب عمر كبيراً عندما أحصى مجموع القطائع والأراضي والأعطيات والأموال التي أخذها أمراء بنو أمية، فبلغت عنده نصف ما في بيت مال المسلمين أو ثلثيه، فما كان منه إلا أن نادى ب"صلاة جامعة" فاجتمع الناس، فخرج إليهم، وقبل أن يخرج كان بنو مروان وبنو أمية لا يدرون كيف يتصرف عمر؟
فكانوا هم وأشارف الجند ببابه، ينتظرون خروجه، فخرج، وصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن هؤلاء -أي الخلفاء قبله- أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها، وما كان ينبغي لهم أن يعطونا، وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب، وأني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم، فجعل مزاحم يخرج سجلاً سجلاً، وعهداً عهداً، وكتاباً كتاباً، ثم يقرأه، فيأخذه عمر، وبيده آلة حادة فيمزقه، وما زال حتى حان وقت صلاة الظهر، ونادى المؤذن بالصلاة، ورد جميع هذا إلى بيت مال المسلمين، كان يأخذه من الأمراء بالقوة، الذي لا يرده باختياره رده بالعنوة رحمه الله -تعالى-، وبدأ بحلي زوجته، فاطمة بنت عبد الملك، أخت سليمان، فقد كان أخوها يعطيها من الهدايا والأعطيات، فأخذ كل جواهرها وأرجعه إلى بيت مال المسلمين.
ولا شك أن هذا الفعل ضايق كثيراً من الأمراء، لكن -رحمه الله- كان لا تأخذه في الله لومة لائم، ثم صار يُنادي في الأمصار: أن كل من له مظلمة، أو أن هناك والياً، أو أميراً ظلمه، أو أخذ من أرجه، فليأتنا، أو ليكتب لنا، فنرد مظلمته.
استمعوا -رحمكم الله- إلى هذه القصة العجيبة، قدم ذمي من أهل حمص، فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله؟ قال: وما ذاك؟ قال: إن العباس بن الوليد اغتصبني أرضي، والعباس حاضرٌ، فقال عمر -رضي الله عنه-: "ما تقول يا عباس؟" قال: إن أمير المؤمنين الوليد أقطعني إياها، وهذا كتابه -أي صك الأرض-، فقال عمر -رضي الله عنه-: "ما تقول يا ذمي؟" قال: أمير المؤمنين أسألك كتاب الله -تعالى-؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: كتاب الله أحقُ أن يتبع من كتاب الوليد، فاردد عليه أرضه يا عباس، فردَّها عليه.
ولما بلغ الجبار العنيد عمر بن الوليد أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- رد الضيعة على الذمي كتب إلى عمر بن عبد العزيز يعترض على عدله، ويزعم أنه جور، فقال في كتابه: إنك قد ازدريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم، وسرت بغير سيرتهم، بغضاً لهم، وشيناً لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، فأدخلتها بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تُترك على هذه الحال، والسلام".
فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه كتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد، السلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين:
أما بعد:
فقد بلغني كتابك، أما أول شأنك يا ابن الوليد فأمّك بنانةُ السكون، كانت تطوف في سوق حمص، وتدخل في حوانيتها، ثم الله أعلم بها، ثم اشتراها ذُبيان من مال المسلمين فأهداها لأبيك، فحملت بك، فبئس المولود، ثم نشأت وكنت جباراً عنيداً تزعم أني من الظالمين إذ حرمتك وأهل بيتك مال الله -تعالى-، الذي هو حق القرابات والمساكين والأرامل، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله، من استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويلٌ لأبيك ما أكثر خصماؤه يوم القيامة، وكيف ينجو أبوك من خصمائه، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج لسفك الدماء، ويأخذ المال الحرام، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل "قُرة" أعرابياً جافياً على مصر، وأذن له في المعازف واللهو وشرب الخمر، فرويداً يا ابن بنانة لو التقتا حِلق البطان، ورد الفيء إلى أهله، لتفرغت لك ولأهل بيتك، فوضعتهم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق، وأخذتم الباطل، ومن وراء ذلك ما أرجو أن أكون رأيته من بيع رقبتك، وقسم ثمنك على الأرامل والمساكين واليتامى، فإن لكل فيك حقاً، والسلام على من اتبع الهدى، ولا ينال سلام الله القوم الظالمين".
هكذا كان عمر، وبهذه القوة رد المظالم إلى بيت مال المسلمين، حتى إن الخوارج الذين من عقيدتهم الخروج على الحاكم، لما رأوا من سيرة عمر رد المظالم، اجتمعوا، وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل، حتى قال شاعرهم كثير بن عزة:
وليت ولم تسبب علياً ولم تخف *** برياً ولم تقبل مقالة مجرمِ
وصدقت بالقول الفعال مع الذي *** أتيت فأمسى راضياً كل مسلمِ
فما بين شرق الأرض والغرب كلها *** مناد ينادي من فصيح وأعجمِ
يقول أمير المؤمنين ظلمتني *** بأخذك ديناري ولا أخذ درهمِ
فاربح بها من صفقة لمبايعٍ *** وأكرم بها من بيعة ثم أكرمِ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
ومن المواقف العجيبة أيضاً في سيرة هذا الإمام الفاضل: قصة حصلت له مع عمته، تتعلق أيضاً في رد المظالم، ولعلنا نركز على هذا الجانب في سيرته في هذه الخطبة، وتكون لنا عودة ثانية -إن شاء الله تعالى- إلى زهده، وورعه، وعلمه، وجوانب أخرى من حياته -رحمه الله-.
جاءت عمته تريد أن تكلمه فيما كان يجري لها في عهد الخلفاء الذين قبله، وذلك أن بعض الخلفاء كانوا يصرفون مخصصات شهرية لأقاربهم وللأسرة الحاكمة بشكل عام، فلما تولى عمر الخلافة أوقف هذه التلاعبات كلها، ومن ضمنها ما كان يجري لعمته، فجاءته فدخلت عليه، فإذا بأمير المؤمنين بين يديه أقراص من خبز، وشيء من ملح وزيت وهو يتعشى، فقالت له: يا أمير المؤمنين أتيت لحاجة لي، ثم رأيت أن أبدأ بك قبل حاجتي، قال: وما ذاك يا عمة؟ قالت: لو اتخذت لك طعاما ألين من هذا، قال: ليس عندي يا عمة، ولو كان عندي لفعلت، قالت: يا أمير المؤمنين كان عمك عبد الملك يجري عليّ كذا وكذا، ثم كان أخوك الوليد فزادني، ثم كان أخوك سليمان فزادني، ثم وَليت أنت فقطعته عني، قال: يا عمة إن عمي عبد الملك وأخي الوليد وأخي سليمان كانوا يعطونك من مال المسلمين، وليس ذلك المال لي لكي أصرفه لك، ولكن إن شئت أعطيتك من مالي، ولا أملك غيره، فانصرفت عنه.
ونختم بهذه القصة، خشية الإطالة، وإلا فقصصه كثيرة -رحمه الله-.
كان سليمان بن عبد الملك الخليفة قبله، كان قد أمر لرجل يسمى "عنبسة بن سعد بن العاص" أمر له بعشرين ألف دينار من بيت المال، فدارت المعاملة في الدواوين، حتى انتهت إلى ديوان الختم، فلم يبق إلا ختمها من الأمير حتى يقبضها من الخزينة، فتوفي سليمان قبل أن يقبضها، وكان عنبسة صديقاً لعمر بن عبد العزيز منذ القدم، فذهب يطلب من عمر ما أمر له به سليمان، فوجد بني أمية حضوراً بباب عمر يريدون الإذن عليه ليكلموه في أمورهم، فلما رأوا صديق عمر عنبسة قادماً، قالوا: ننتظر ماذا يعمل معه قبل أن نكلمه؟ فدخل عنبسة عليه، فقال: يا أمير المؤمنين إن أمير المؤمنين سليمان كان قد أمر لي بعشرين ألف دينار، حتى وصلت إلى ديوان الختم، ولم يبق إلا أن أقبضها، فتوفي قبل أن أقبضها، وأمير المؤمنين أولى باستتمام الصنيعة عندي، وما بيني وبينه أعظم مما كان بيني وبين سليمان -يعني من الصداقة- فقال له عمر: كم ذلك؟ قال: عشرون ألف دينار، قال عمر: عشرون ألف دينار تُغني أربعة آلاف بيت من المسلمين، وأدفعها إلى رجل واحد، والله مالي إلى ذلك من سبيل، قال عنبسة: فرميت بالكتاب، الذي فيه الصك، وهي الورقة التي أمر له بها سلميان بصرف هذا المبلغ، فقال له عمر: لا عليك أن تبقى معك، فلعله أن يأتي بعدي من هو أجرأ على هذا المال مني، فيأمر لك به، فأخذ عنبسة صكه ثم خرج، فلما توفي عمر، وآل الحكم إلى يزيد بن عبد الملك جاءه عنبسة بكتاب سليمان، فأنفذ له ما كان فيه.
رحم الله عمر رحمة واسعة، وجزى الله عمر عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، كما نسأله -جل وعلا- أن يجعل فرج هذه الأمة بأمثال عمر.
كم من شريعة حق قد بعثت لها *** كادت تموت وأخرى منك تنتظرُ
يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي *** على الحبيب الذي يُسقى به المطرُ
ثلاثة ما رأت عيني لها شبهاً *** تضم أعظمهم في المسجد الحفرُ
وعثمان ذي النورين رابعهم *** مشى على المنهج المرسوم يعتبرُ
وأنت رابعهم إذ كنت مجتهداً *** للحق والأمر بالمعروف تبتدرُ
وفي مصاب رسول الله تسلية *** فيمن يموت وفي أنبائه عبرُ
هو الرسول الذي مَنّ الإله به *** على البرية وازدادت به السيرُ
وخير من ولدت عدنان قاطبة *** وخير من شرفت من أجله مُضرُ
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم