عناصر الخطبة
1/ ميلاد عمر بن عبد العزيز ونشأته 2/ تولي عمر الخلافة 3/ مسيرة الإصلاح التي قادها عمر بن عبد العزيز 4/ وفاة عمر رحمه الله 5/ كيف نبني مجتمعًا فاضلاً؟اقتباس
من يخبر دول الغرب والشرق عن هذا النجاح الذي لو جمعوا له كل مكاتب الدراسات والبحوث لن يقدروا على مثله، دولة متسعة الأرجاء ليس فيها مديون، ليس فيها مسكين، ليس فيها فقير، لا يوجد فيه محتاج... أتدرون كم كان مدة خلافته؟ كم احتاج عمر من السنوات حتى وصلت الدولة لما وصلت إليه؟! كانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام. عمر لم يكن يمتلك إحصاءات ولا دراسات ولا تقارير، ولم يضع خططًا وبرامج لكنه راقب الله فصبَّ الله الخير على الناس في خلافته صبًّا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي نصَب من كل كائن على وحدانيته برهانًا، وتصرف في خلقه كما شاء عزًا وسلطانًا، واختار المتقين فوهب لهم أمنًا وإيمانًا، وعمَّ المذنبين بحلمه ورحمته عفوًا وغفرانًا، أحمده حمد عابد لربه معتذر إليه من تقصيره وذنبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص من قلبه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى من حزبه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، أيها المسلمون: الأمير الشاب الذي فاق أولاد عمه من أبناء الأسرة الحاكمة حتى وصل مراتب عليا في الدولة في زمنٍ يسير، استطاع هذا الشاب في زمن يسير أن يحل مشاكل الدولة الاقتصادية؛ فقد كان سياسيًّا ذكيًّا، بالإضافة إلى أنه كان عبادًا زاهدًا، أوَّاهًا منيبًا.
إنه سيد الأمراء وقدوة الخلفاء، أشج بني أمية، الخليفة الراشد والإمام الزاهد عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- تولى الخلافة بعهدٍ من سلميان بن عبد الملك بعد مشورةٍ من رجاء بن حيوة؛ فقد سأل سلمانُ رجاءَ: مَن ترى لهذا الأمر؟ فقال رجاء: اتقِ الله؛ فإنك قادم على الله وسائلك عن هذا الأمر وما صنعت فيه، قال سليمان: فمن ترى؟ قال رجاء: عمر بن عبد العزيز.
ومنذ أن تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بدأ رحلة العدل والإنصاف، فإنه لما صلى على سليمان ودفنه أُوتي بمراكب الخلافة، فرفَض ركوبها، وقال: قرِّبوا لي دابتي، فقُرِّبت إليه فركبها.
ولما جاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة؛ جريًا على عادة الخلفاء قبله، قال له: تنَحَّ عني؛ إنما أنا رجل من المسلمين، ثم مشى حتى دخل المسجد، فصعد المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله –عليه الصلاة والسلام- ثم قال: أيها الناس، إنما بُليت بهذا الأمر من غير رأيٍ مني ولا طلبة ولا مشورة، وإني خلعتُ بيعتكم، فاختاروا لأنفسكم. فصاح المسلمون صيحةً واحدةً، قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضيناك.
عاد عمر بن عبد العزيز وهو يحمل همًّا عظيمًا في قلبه الكبير، عاد وهو يحمل هَمَّ أولئك الذين وُلِّيَ عليهم، وسوف يُسأَل عنهم يوم القيامة، كيف لا يحمل همهم وهو الذي حج مع سليمان، فلما رأى سليمان الناس بالموسم، قال لعمر بن عبد العزيز: ألا ترى هذا الخلق؟ الذي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره؟! فقال عمر: "يا أمير المؤمنين، هؤلاء رعيتك اليوم وهم غدًا خصماؤك عند الله"، فبكى سليمان بكاءً شديدًا، ثم قال: أستعين بالله.
عاد عمر لكنه لم يعد إلى دار الخلافة وإلى قصر الرئاسة كعادة الخلفاء والملوك، بل عاد إلى بيته وأبى أن يسكن دار الخلافة؛ لأنه لا يريد أن يُسأل عن هذا المسكن يوم القيامة.
وفي بيته الصغير الذي كان شاهدًا على عدله وتقواه؛ جلس عمر ينثر دموع الخوف من يوم سيُسأل عن هذه الرعية التي تولى أمرها. تقول زوجته فاطمة: "دخلت عليه يومًا وهو جالس في مصلاه واضعًا خده على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقالت: ما لك؟ قال: ويحك يا فاطمة، لقد وُلِّيت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، وذي المال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن الله –عز وجل- سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد –صلى الله عليه وسلم-، فخشيت ألا يثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي وبكيت".
بدأ عمر رحلة العدل التي قرر المسير فيها بزوجته، فأخذ حُليها ووضعه في بيت مال المسلمين، ولما أحسَّ أنها لم ترضَ كل الرضا خيَّرها بين أن تقيم عنده وبين أن تلحق بأهلها، فاختارته فكانت بعد ذلك زاهدةً ورعةً –رحمها الله ورضي عنها-.
وكما فعل بزوجته فعل بأولاده، فقد أرسلت له ابنته لؤلؤةً وقالت له: إن رأيت أن تبعث لي بأختها، أجعلها في أذني. فأرسل لها بجمرتين ثم قال لها: "إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في أذنيك بعثت إليك بأختها".
ولما بلغه أن ابنه اشترى فص خاتم بألف درهم كتب إليه: "عزيمةً مني عليك، إلا بعت هذا الخاتم الذي اشتريته بألف درهم، وتصدقت بثمنه، واشتريت آخر بدرهم، ونقشت عليه: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه، والسلام".
ولما دخل يومًا على بناته خرجن، فقال: ما شأنهن؟ فقيل له: لم يجدن ما يتعشينه إلا العدس والبصل، فكرهن أن تشم ذلك منهن، فبكى وقال: "يا بناتي، ما ينفعكن أن تعشين الألوان، ويؤمر بأبيكن إلى النار". فبكت البنات حتى علت أصواتهن.
ومر يومًا على زوجته، فقال: يا فاطمة، لنحن ليالي دابق، أنعم منا اليوم –أي بعد الخلافة- فقالت: والله، ما كنت على ذلك أقدر منك اليوم. يعني أنت اليوم أقدر على التنعم، فأدبر عنها وله حنين وهو يقول: "يا فاطمة، إني أخاف النار، يا فاطمة، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم".
وسأل زوجته يومًا أن تقرضه درهمًا فلم يجد عندها شيئًا، فقالت: أنت أمير المؤمنين، وليس في خزانتك ما تشتري به؟! فقال: "هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غدًا في جهنم".
وقدمت امرأة من العراق على عمر، فلما دخلت عند زوجته رفعت بصرها، فلم تر شيئًا ذا أهمية، فقالت: إنما جئت لأعمر بيتي من هذا البيت الخرب! فقالت فاطمة: إنما خرب هذا البيت عمارة بيوت أمثالك.
واستكمل –رحمه الله- مسير الإصلاح، فشهَر سيف العدل في وجوه بني أمية، وأخذ ما في أيديهم من أموال، وسماها مظالم، فاستشفعوا إليه بعمته، فلم تنفع شفاعتها.
وأخذ ضيعةً من العباس بن الوليد، وردها على ذمي من أهل حمص، فلما بلغ الخبر أخاه عمر بن الوليد كتب إلى عمر بن العزيز يعترض على عدله ويزعم أنه ظالم، فلما قرأ عمر كتابه كتب إليه كتابًا جاء فيه: "تزعم أني من الظالمين، إذا حرمتك وأهل بيتك مال الله تعالى، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبيًا سفيهًا على جند المسلمين، تفعل فيهم برأيك ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لأبيك، ما أكثر خصماؤه يوم القيامة، وكيف ينجو أبوك من خصمائه"؟!
عباد الله، لقد ظل عمر بن العزيز شاهرًا سيف العدل لا تأخذه في الله لومة لائم، مما جعل الأمراء الظلمة يكرهونه؛ فقد منع الأعطيات وانتزع ما في أيديهم ورده في بيت مال المسلمين، فدبروا مكيدةً لقتله.
قال مجاهد: قال لي عمر: "ما يقول الناس في؟ قال: قلت: يقولون مسحور، وذلك لأنه كان مريضًا، قال: ما أنا بمسحور، ثم دعا غلامًا له فقال: ويحك، ما حملك على أن سقيتني السم؟! قال: ألف دينار، وعلى أن أعتق، قال: هاتها، فوضعها عمر في بيت المال، ثم قال: اذهب حتى لا يراك أحد".
ولما كان اليوم الذي مات فيه عمر، قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: "أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت. ثلاث مرات، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه وأحد النظر، فقالوا: إنك تنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن، وسمع وهو يقرأ قول الله: (تلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83]".
ثم قُبض –رحمه الله ورضي عنه- وجمعنا به في دار كرامته؛ فقد كان قدوةً للحكام والمصلحين وإمامًا من الأئمة العادلين وأخلف على الإسلام خيرًا.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا، وكان ربك قديرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا له وتكبيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا معاشر المسلمين: في خلافة عمر بن عبد العزيز كثُر الخير وقل الشر وانتشر الأمن والأمان حتى نقل أهل السِّيَر أن الوحوش كانت ترعى مع الغنم ولا تعتدي عليها.
وفي خلافة عمر بن عبد العزيز فاض المال حتى كان المنادي ينادي: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى هؤلاء، من يصدق هذا، من يخبر دول الغرب والشرق عن هذا النجاح الذي لو جمعوا له كل مكاتب الدراسات والبحوث لن يقدروا على مثله، دولة متسعة الأرجاء ليس فيها مديون، ليس فيها مسكين، ليس فيها فقير، لا يوجد فيه محتاج.
كان عمال عمر يطوفون بالزكاة فلا يجدون من يأخذها، حتى قيل: إنه قال لعماله: "انثروا القمح في رؤوس الجبال حتى لا يقال: جاع طير في بلاد المسلمين".
أتدرون كم كان مدة خلافته؟ كم احتاج عمر من السنوات حتى وصلت الدولة لما وصلت إليه؟! كانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام.
عمر لم يكن يمتلك إحصاءات ولا دراسات ولا تقارير، ولم يضع خططًا وبرامج لكنه راقب الله فصبَّ الله الخير على الناس في خلافته صبًّا.
ونحن إذا أردنا أن يفتح الله علينا أبواب الخيرات وأن تحل علينا البركات، فلنقم بما أمر الله به من فعل للطاعات، وترك للمحرمات.
قال ربنا –جل وعلا-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96].
ولنحذر من ظهور المنكرات فإنها تمحق البركات وتحل النكبات، وتغضب رب الأرض والسموات، قال ربنا –جل وعلا-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
عباد الله: نعيش ولله الحمد في أمن ورخاء واستقرار، بينما يُتخطف الناس من حولنا، فلنحرص على هذه النعمة العظيمة بالبعد عن المعاصي والمنكرات واتحاد الكلمة وتلاحم الحكام والمحكوم والوقوف أمام كل متربص يريد شق الصف وزعزعة الأمن ونشر الفوضى، ولنكن على درجة عالية من الوعي، ولنقطع الطريق على كل حاسد ومفسد.
حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين، وأعاد لنا عز الإسلام ومجده، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمرًا رشيدًا، يعز فيه أهل الطاعة وتكسر شوكة أهل العصيان ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، يا قوي يا قادر.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا، واحفظ حدودنا وانصر جنودنا، وأعدهم سالمين غانمين منصورين.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء و لا الحاسدين.
اللهم اشرح صدورنا واغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسر أمورنا، اللهم فك أسرانا واشف مرضانا وارحم موتانا، وتوقنا وأنت راض عنا غير غضبان. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم