عناصر الخطبة
1/ حاجة العبد في حياته إلى الصبر 2/ أهمية الصبر وثمراته 3/ من فضائل الصبر 4/ أقسام الصبر 5/ الناس عند المصائب قسماناقتباس
العَبَدُ في حَيَاتِهِ مُحتَاجٌ إِلى التَّحَلِّي بِالصَّبرِ الجَميلِ، فإنَّهُ لا استِقَامَةَ وَلا إِمَامَةَ، وَلا فَوزَ وَلا فَلاحَ إِلاَّ بِالصَّبرِ الجَمِيلِ، إِذْ هُوَ وَقُودٌ وَزَادٌ، وَقُوَّةٌ وَعَتَادٌ، يَحتَاجُهُ المَرِيضُ في شَكوَاهُ، والمُبتَلى في بَلوَاهُ، وطَالِبُ العِلمِ مَعَ كُتُبِهِ وَدُرُوسِهِ، وَالدَّاعِيَةُ لا يَشُدُّ عَزمَهُ مِثلُ الصَّبرِ، والآمِرُ بالمَعرُوفِ والنَّاهي عن المُنكَرِ أعظَمُ وصِيَّةٍ لَهُ من اللهِ تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)، فلَن تَجِدَ أَبًا في بَيتِهِ، وَلا مُعَلِّمًا في مَدرَسَتِهِ ولا موظفًا في مُؤَسَّسَتِهِ، وَلا خَادِماً ولا عَامِلاً، إِلاَّ وَهُم بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلى الصَّبرِ الجَمِيلِ.
الخطبة الأولى:
الحَمدُ للهِ وَعَدَ الصَّابِرينَ بِأجرٍ بِغَيرِ حِسابٍ، نَشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لهُ الحُكمُ وإليهِ المَآبُ، ونَشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ خيرُ مَن صَبَرَ وصَابَرَ بِلا تَشَكٍّ ولا حَزَنٍ ولا اكتِئَابٍ، الَّلهمَّ صَلِّ وَسَلِّم وبارِك عليه وعلى جميعِ الآلِ والأصحاب.
أمَّا بَعدُ:
فاتَّقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ- وأَطِيعُوهُ؛ فَإنَّ طَاعَتَهُ أَقوَمُ وأَقْوى، واستَعِينوا على دُنياكُم بالصَّبر والتَّقوَى، فقد قالَ اللهُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِلصَّبْرِ وَلصَّلَوةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: العَبَدُ في حَيَاتِهِ مُحتَاجٌ إِلى التَّحَلِّي بِالصَّبرِ الجَميلِ، فإنَّهُ لا استِقَامَةَ وَلا إِمَامَةَ، وَلا فَوزَ وَلا فَلاحَ إِلاَّ بِالصَّبرِ الجَمِيلِ، إِذْ هُوَ وَقُودٌ وَزَادٌ، وَقُوَّةٌ وَعَتَادٌ، يَحتَاجُهُ المَرِيضُ في شَكوَاهُ، والمُبتَلى في بَلوَاهُ، وطَالِبُ العِلمِ مَعَ كُتُبِهِ وَدُرُوسِهِ، وَالدَّاعِيَةُ لا يَشُدُّ عَزمَهُ مِثلُ الصَّبرِ، والآمِرُ بالمَعرُوفِ والنَّاهي عن المُنكَرِ أعظَمُ وصِيَّةٍ لَهُ من اللهِ تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)، فلَن تَجِدَ أَبًا في بَيتِهِ، وَلا مُعَلِّمًا في مَدرَسَتِهِ ولا موظفًا في مُؤَسَّسَتِهِ، وَلا خَادِماً ولا عَامِلاً، إِلاَّ وَهُم بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلى الصَّبرِ الجَمِيلِ.
إِنِّي رَأَيْتُ وفي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ *** للصَّبْرِ عـاقِبَةً مَحْمُـودَةَ الأَثَرِ
وقَلَّ مَنْ جَدَّ في أَمْرٍ يُطالِبُهُ *** فاستَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلاَّ فَازَ بالظَّفَرِ
فَلَولا التَّحَلِّي بِالصَّبرِ الجَميلِ لَغَرِقَ المَهمُومُ في بُحُورِ هُمُومِهِ، وَاللهُ تعالى ما أَعطَى المُؤمِنَ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ"، قَالَ الشَّيخُ السَّعدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبرُ أَعظَمَ العَطَايَا؛ لأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أُمُورِ العَبدِ وَكَمَالاتِهِ، كُلُّ حَالَةٍ مِن أَحوَالِهِ تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ، فَإِنَّ المُؤمِنَ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتى يَقُومَ بها وَيُؤَدِّيَهَا، وَإِلى صَبرٍ عَن مَعصِيَةِ اللهِ حَتى يَترُكَهَا للهِ، وَإِلى صَبرٍ عَلَى أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ فَلا يَتَسَخَّطُهَا، بَل إِلى صَبرٍ عَلَى نِعَمِ اللهِ وَمَحبُوبَاتِ النَّفسِ، فَلا يَدَعُ النَّفسَ تَمرَحُ وَتَفرَحُ الفَرَحَ المَذمُومَ، بَل يَشتَغِلُ بِشُكرِ اللهِ، فَهُوَ في كُلِّ أَحوَالِهِ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ، وَبِالصَّبرِ يَنَالُ الفَلاحَ". اهـ.
عبادَ اللهِ: وَلأَهَمِّيَّةِ الصَّبرِ وَعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ فَقَد ذَكَرَهُ اللهُ في كِتَابِهِ في تِسعِينَ مَوضِعًا، فَأَمَرَ بِهِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوَا وَصَابِرُوا)، وَقَالَ: (وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ)، وَجَعَلَ الإِمَامَةَ في الدِّينِ مَورُوثَةً عَنِ الصَّبرِ وَاليَقِينِ بِقَولِهِ: (وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوَا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، بل حَتَّى في الخُصُوماتِ وأَخذِ الحقُوقِ التي لكَ، نُدِبْتَ إِلى الصَّبرِ الجَميلِ؛ قَالَ تَعَالى: (وَإِنْ عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ).
أيُّها المُؤمِنُ: وَإِنَّ أَعظَمَ الخَيرِ في الصَّبرِ أَنَّ أَجرَهُ لا يُحَدُّ ولا يُحسبُ: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ).
وَإِذَا وَجَدَ المُؤمِنُونُ مَشَقَّةً وَعَنَتاً، أَتَت مَحَبَّةُ اللهِ لِلصَّابِرِينَ، وَمَعِيَّتُهُ لَهُم لِتُخَفِّفَ عَنهُم وَطأَتَهُ وَتُهَوِّنَ عَلَيهِم صُعُوبَتَهُ، قَالَ تَعَالى: (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)، وَحِينَ يَفرَحُ أُناسٌ بمَا نَالُوهُ مِن مَتَاعٍ دُنيَوِيٍّ زَائِلٍ، أَو ِتَحقَّقَ لَهُم مَا تَمَنَّوهُ وَسَعَوا بِهِ من سعيٍ باطلٍ، يَأتي فَلاحُ الصَّابِرِينَ، بِأَنَّ العَاقِبَةَ الحَسَنَةَ لهم: (سَلامٌ عَلَيكُم بما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبى الدَّارِ).
وَحِينَ يَكبُرُ مَكرُ الأَعدَاءِ وَيَعظُمُ كَيدُهُم وَيَشتَدُّ أَذَاهُم، فَإِنَّ الصَّبرَ وَالتَّقوَى هُمَا خَيرُ عِلاجٍ وَأَنجَعُ وَسِيلَةٍ لإِبطَالِ كَيدِهِم وَإِخمَادِ عَدَاوَتِهِم، قَالَ اللهُ تَعَالى: (وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُم كَيدُهُم شَيئًا إِنَّ اللهَ بما يَعمَلُونَ مُحِيطٌ).
أيُّها المؤمنونَ باللهِ ورَسُولِهِ: وكَمَا امتَدَحَ اللهُ الصَّبرَ في كِتَابِهِ، فسُنَّةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وسِيرَتُهُ قولاً وَعَمَلاً كُلُّها صبرٌ جميلٌ، ألم يقُل نبيُّنا: "الصَّبرُ ضِيَاءٌ"؟! وقَالَ: "يَقُولُ اللهُ تَعَالى: مَا لِعَبدِي المُؤمِنِ عِندِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضتُ صَفِيَّهُ مِن أَهلِ الدُّنيَا ثُمَّ احتَسَبَهُ إِلاَّ الجَنَّةُ".
وَفي المُسنَدِ وغيرِهِ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَاعلَمْ أَنَّ في الصَّبرِ عَلَى مَا تَكرَهُ خَيرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا"، وَقَالَ: "المُؤمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصبِرُ عَلَى أَذَاهُم".
وَكلُّنا يعلمُ قصَّةَ المرأةِ التي كانت تمشي مع النَّاسِ وهي من أهل الجنَّةِ! فقد قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ لعَطَاءِ بنِ أَبي رَبَاحٍ -رضي اللهُ عنهم-: أَلا أُرِيكَ امرَأَةً مِن أَهلِ الجَنَّةِ؟! فَقُلتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ المَرأَةُ السَّودَاءُ، أَتَتِ النَّبيَّ فَقَالَت: إِنِّي أُصرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادعُ الله لي، قَالَ: "إِنْ شِئتِ صَبَرتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئتِ دَعَوتُ اللهَ أَن يُعَافِيَكِ"، فَقَالَت: أَصبِرُ، فَادعُ اللهَ لي أَن لاَّ أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا.
هكذا –يا مُسلِمُونَ- يَظَلُّ الصَّبرُ سِرَاجًا لَنا في دُرُوبِ الحَيَاةِ، وَنُورًا في ظُلُمَاتِ الفِتَنِ، وَرَفيقًا في غُربَةِ الزَّمَنِ، حَتَّى إِذَا وَصَلَتِ الفِتَنُ أوجَها في مِثلِ عَصرِنا، من شُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ، وتَسَلُّطٍ من الأَعدَاءِ وَضَعفٍ من الصَّالِحِينَ والفُقَهَاءِ، فلا عِلاجَ أَنْجَعُ من صَبرٍ جَميلٍ مَعَ إِحسَانٍ في العَمَلِ، فالصَّبرُ ليسَ تَضَعُّفاً ومَذَلَّةً ومَسْكَنَةً، إنَّما عزِيمَةٌ تَقُودُ لِصالِحِ القَولِ والعمَلِ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -يا مُسلِمُونَ- وَاصبِرُوا، (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ).
جُبِلَتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدُها *** صَفْواً مِنَ الأَقذَارِ والأَكْدَارِ
ومَكَـلِّفُ الأَيَّامِ ضِدَّ طِبَـاعِها *** مُتَطَـلِّبٌ في المَاءِ جَذوةُ نَارِ
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعني وإيّاَكم بِهدِيِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم ولِسائِرِ المُسلِمينَ، فَاستَغفِرُوهُ، إنَّه هُو الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ، نَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ المَلِكُ الحَقُّ المُبينُ، ونَشهَدُ أنَّ نَبيَّنا مُحمدًا عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عليهِ وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ والتَّابعينَ لَهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ والتَزِمُوا أمرَهُ وَلا تَعصُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: ذَكَرَ العُلمَاءُ أنَّ الصَّبرَ هو: حَبْسُ النَّفسِ على الطَّاعَةِ، وَكَفُّها عن المَعصِيَةِ، والدَّوامُ على ذَلِكَ، فالمُسلِمُ يَحبِسُ نَفسَهُ عن التَّسَخُّطِ بالمَقدُورِ، ويَحبِسُ لِسَانَهُ عن التَّشَكِّي لِلمَخلُوقينَ، وَيَحبِسُ جَوَارِحَهُ عن الوُقُوعِ في المَعَاصي والآثامِ.
والصَّبرُ ثَلاثَةُ أَقسَامٍ: صَبْرٌ على طَاعَةِ اللهِ، وَصَبْرٌ عن مَعصِيَةِ اللهِ، وثالِثُها الصَّبرُ على أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ.
فالنَّوعُ الأَوَّلُ أَعظَمُها؛ لأنَّ العِبَادَاتِ شَاقَّةٌ على النُّفُوسِ؛ وتَحتاجُ إلى مُصابَرَةٍ ومُجَاهَدَةٍ! فالصَّلاةُ والصِّيامُ، والحَجُّ والزَّكَاةُ، والأمرُ والنَّهيُ، كُلُّها تحتاجُ إلى صَبْرٍ جَميلٍ ، كما قَالَ اللهُ تَعَالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).
والقِسمُ الثَّانِي: الصَّبرُ عن الوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ تَعالى، وَذَلِكَ بِكَفِّ النَّفسِ عن أنْ تَفعَلَ مُحَرَّماً أو تُقَصِّرَ في واجبٍ.
أيُّها المُؤمنونَ: وآفَةُ المُنكَرَاتِ في هذا الزَّمنِ، النَّظَرُ الحرامُ! حتى صارَ الوُصُولُ إلى الحرامِ أقرَبَ إلى أحدِنا من كُلِّ شيءٍ! فالقَنواتُ والشَّبكاتُ والأجهِزَةُ المَحمُولَةُ، إنْ لَمْ نَصبِرِ عن الحرامِ الذي فيها، أورَدَتْنَا المَهَالِكَ والمَضآرَّ! ذالِكَ أنَّ النَّفسَ مَيَّالَةٌ إلى الآثامِ، تَوَّاقَةٌ إلى الشَّهوَاتِ، فإنْ لم نُلجِمهَا بِالتَقوى والصَّبرِ والإيمانِ، تَلَطَّخنا بِالأَوزَارِ والآثامِ!
فَعَاقِبَةُ الصَّـبرِ الجَمِيلِ جَمِيلةٌ *** وأَحسَنُ أَخلاقِ الرِّجَالِ التَّحَفُظُ
وأَمَّا القِسمُ الثَّالِثُ: فَهُو صَبرٌ على أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ وعلى مَصَائِبِ الحَيَاةِ المُتَنَوِّعَةِ، فَمَن من البَشَرِ مَنْ سَلِمَ من ذلِكَ؟! مَن منَّا لَم يُصبْ بِمَرَضٍ؟! مَنْ مِن البشَرِ لم يَفقِدْ مَالاً أو قَرِيباً أو عَزيزاً؟! مَنْ مِنَّا لَمْ يَتَعَرَّضَ لِفتنَةٍ وَبَلِيَّةٍ مِن قَريبٍ أو شَانِئٍ وحَاقِدٍ؟! (فَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
كما قالَ اللهُ تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، فهذهِ سُنَّةُ اللهِ ابتِلاؤُهُم بِشَيءٍ من الخَوفِ، ولَم يَقُل: بِالخَوف كُلِّهِ؛ لأنَّهُ لو قَالَ: بالخَوفِ لأَهلَكَهُم؛ لأنَّ مَقصُودَهُ تَعَالَى تَمْحِيصُهُم وتَطهِيرُهُم من ذُنُوبِهم ومَعَاصِيهِمْ.
ونَحنُ –يا رعاكمُ الله- عندَ المَصَائِبِ قِسمَانِ: قِسمٌ جَازِعٌ سَاخِطٌ مُهلِكٌ نفسَهُ بالأَسى والحَسرَةِ، فهو قد جَمَعَ على نَفسِهِ مُصِيبَتَينِ، فَواتَ المَحبُوبِ، وَفَواتَ الأَجرِ العَظِيمِ الذي رَتَّبَهُ اللهُ لِلصَّابِرِينَ! وقِسمٌ راضٍ بقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، فَهؤلاءِ بَشِّرهم بِبِشَارَةِ اللهِ لهم: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، فَلَهُم أَجْرٌ غَيرُ مَعدُودٍ ولا مُقَدَّرٍ ولا مَحدُودٍ؛ جَزاءً لَهم على عَظِيمَ ما صَبَروُا وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلونَ؛ لأنَّهم (قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، فَنَحنُ مَمْلُوكُونَ لِلَّه، مُدَبَّرُونَ تحت عَوْنِهِ وتَصَرُّفَاتِهِ؛ فَكانَ جَزاؤهم (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، فهم الْمُوَفَّقُون لِلْحَقِّ والرَّحمَةِ!
ولهذا عَجِبَ رَسُولُ اللهِ من حالِ المُؤمِنِ فَقَالَ: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحْدٍ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ".
اللَّهُمَّ اجعَلْنَا ممَّن إِذَا أُعطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَذنَبَ استَغفَرَ، آمنَّا باللهِ وتَوكَّلنا عليه: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
نَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ *** عَلَيْنَا بِسُـوءِ أَوْ مُلِـحٍّ بِبَـاطِلِ
وَمِـنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ *** وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلِ
يا اللهُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَينا فَلاَ نُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لَنا، نَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِنا غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَينا سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِك.
اللهمَّ أصلح أحوال المسلمينَ واحقن دماءهم ووحِّد صفُوفَهم وهيئ لهم قادةً صالحين مُصلحينَ يا ربَّ العالمين.
اللهمَّ اشفِ مَرضَانَا، وعَافِ مُبتَلانا، وارحم مَوتانا، واهدِ ضَالَّنا، وارزقنا حُسنَ القولِ والعَمَلِ، ربَّنا اجعلنا مُقيمي الصَّلاةِ ومن ذُرِّياتِنَا رَبَّنا وَتَقَبَّل دُعاءَ، اللهمَّ ثَبِّتنا بالقولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا ويَومَ يقومُ الأشهادُ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم