عناصر الخطبة
1/ وجوب القيام بالدين ونصرته 2/ عقبات تواجه المسلم في سيره إلى الله ونصرة دينه 3/ أنواع الإخوان وحكم كل نوع 4/ استخلاف الإنسان في الأرض ومقتضيات ذلك 5/ تجرؤ السفهاء على شعائر الإسلام والرد عليهماقتباس
معاشر الصالحين: من الجبهات التي تعترض المؤمن في طريق سيره إلى الله، وفي طريق نصرته لهذا الدين: إخوان السوء، الذين يشغلون الإنسان عن طاعة الله، فيزينون له معصيته، ولا يعينونه على ذكر الله، ولا يذكرونه إذا نسي، بل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى، ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: لا شك أن المؤمنين جميعًا يحبونه عليه الصلاة والسلام، فما من مؤمن إلا وحب الله مستقر في قلبه، وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- ملئ عليه شغاف قلبه، هذا في دائرة المؤمنين، مع تفاوت في درجات المحبة، ومقتضياتها وتجلياتها.
لكن هذه المحبة تستوجب عملًا؛ لأنها إن لم تجسد في عمل كانت مجرد دعوى، ومجرد إدعاء، لذلك فإن علينا أن نساءل أنفسنا عن هذا الدين الذي جاءنا به النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-، وبلغه بغاية الإحسان والإتقان.
لذلك فإنه من الواجب علينا: أن نجسد محبتنا في عمل يرضي الله ورسوله، وبالتبع يرضي ضمائرنا، ويكون هذا العمل ذا أثر في نصرة الله ورسوله، علمًا وعملًا وحكمة، وصدقًا وإخلاصًا، وبعدًا عن جميع مظاهر الخضوع والخنوع.
لله -عز وجل- شرط الله علينا نصرته، ونصرة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ونصرة هذا الدين الذي جاء به، بل حضنا على ذلك حضًا، فقال سبحانه: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ) [التوبة: 40].
وقال سبحانه: (هَا أَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
أيها الأحباب: إن الله -تعالى- اختبرنا وامتحننا، ببعثة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبهذا الدين الذي جاء به، واختبره هو أيضًا صلى الله عليه وسلم بتبليغه، والجهاد في سبيله، أما هو صلى الله عليه وسلم فقد نجح في الامتحان قطعًا نجاحًا باهرًا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة.
وأما نحن فإنما تعلن النتائج يوم القيامة، يوم نقف بين يدي الله لفصل القضاء، فلنجتهد جميعًا في نصرة ديننا، كلٌ حسب وسعه، ومن موضعه، حتى يقول كل واحد منا غدًا على رؤوس الخلائق: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 19 -24].
وتذكروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيما روى عنه، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: "أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُ عَبْدِي حَلالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، فَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ، وَأَبْتَلِيَ بِكَ".
قال الإمام النووي في الحديث القدسي في معنى قوله هذا: "إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ، وَأَبْتَلِيَ بِكَ"، "لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله -تعالى-، وغير ذلك، "وأبتلي بك" أي أمتحن بك من أرسلتك إليهم، فمنهم من يظهر إيمانه، ويخلص في طاعاته، ومنهم من يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومنهم من ينافق، والمراد أن يمتحنه ليصير ذلك واقعًا بارزًا، فإن الله -تعالى- إنما يعاقب العباد على ما وقع منهم، لا على ما يعلمه قبل وقوعه، وإلا فهو سبحانه عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها، هذا نحو قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31].
لكن من لطف ربنا -أيها الأحباب- أنه لم يبتلينا بما يتعارض مع مقتضيات عقولنا، أو ما يتعارض مع مصالحنا، أو ما يتعارض مع فطرنا، بل كل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو موافقًا للعقل، موافقًا للمصلحة، موافقًا للفطرة، محققًا للسعادة، ضامنًا للارتقاء، وشاهت وجوه الطاعنين في الشرعة الزكية النقية الذين يتهمونها بالرجعية، وعدم مسايرة أهل العصر.
شاهت وجوهم، قد بارت تجارتهم، وكسدت سوقهم، وما ذلك إلا لحقدهم وحسدهم وكرههم لهذا الدين العظيم، وكل من ألف الظلام فإنه يكره الضياء، وكل من اعتاد الذلة، فإنه يفر من العلياء: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].
إلا أن المؤمن في طريق نصرته لهذا الدين تعترضه عقبات، وتواجهه جبهات ومعارك:
أولى هذه الجبهات: جبهة الشيطان الذي هو أول عدو للإنسان، يقول الله فيه: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 6]، هذه الآية جمعت بين خبر وأمر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) خبر، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أمر، فالخبر صدق، والأمر لا بد أن يطبق.
ولكن الإشكال هنا يكمن في تصديق الخبر، دون تطبيق الأمر، كلنا يعلم أن الشيطان عدو لنا، لكن هل نحن أعداء له حقا؟ هل نواجهه؟ هل نخالفه؟ هل نعصيه؟ هل نستعيذ بالله من كيده ومكره؟
هو عدو لنا، فلماذا لا نتخذه عدوًا؟ لماذا يدعونا إلى البخل والتخويف من الفقر فنستجيب؟ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء) [البقرة: 268]؟ لماذا يأمرنا بالربا فنسارع مع علمنا بأنها حرب على الله ورسوله؟ لماذا لا نحافظ على أذكار الصباح والمساء، وأذكار دخول البيت وخروجه؟ لماذا لا نحافظ على الأذكار التي هي حسن حصين من الشيطان ومكره وحقده وكيده من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر من ذلك".
هذه أسلحة نبوية، وتحصينات مصطفوية، للتحرز من الشيطان، ولكن أين الراغب في الدواء؟ لماذا نتماطل؟ لماذا نتأخر؟ أعمارنا تمر سريعًا، ونحن في غفلتنا، الله -تعالى- يقول لنا آمرا: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) هل اتخذناه عدوًا؟
لا -ورب الكعبة-، وانظروا في حال الأمة، وما فيها من شركيات ومعاصي وموبقات، وظلم وقتل، وعري وفحش، وحرب على الله ورسوله، وإغراق في اللهو، وعبادة للملذات، إلى غير ذلك من ألوان الانفراط والانبطاح، فهل اتخذناه عدوًا؟
ربنا يعدنا ووعده الحق: أن من اتقاه سيجعل له مخرجا: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2 - 3]، ومع ذلك لا نثق في الوعد، ونلجأ إلى الربا التي هي من تزيين الشيطان ومكره، فهل اتخذنا الشيطان عدوًا؟
ربنا وضع أمامنا الصورة النهائية، المشهد النهائي كاملًا، متمثلًا في خطاب إبليس في اليوم المشهود، في يوم الحقائق: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) أي ما أنا بمنقذكم (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22] فهل بعد هذا البيان من بيان؟ وهل بعد هذا النصح من نصح؟ (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس: 32].
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًا وجهرًا. آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أسعد بجواره من خافه واتقاه، وبعد عن ناره من اصطفاه وانتقاه، أحمد على نعمه.
وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له شهادة معدة للشداد يوم أن نلقاه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله دليلًا على سبيل الرشاد، وكفيلًا بإنجاز الميعاد، ومذكرًا بيوم الميعاد من أهوال يوم التناد، فدل على التجارة الرابحة، وشرع مناهج السبل الواضحة حتى رفل الدين في أذياله، واعتدل الحق في جميع أحواله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: من الجبهات التي تعترض المؤمن في طريق سيره إلى الله، وفي طريق نصرته لهذا الدين: إخوان السوء الذين يشغلون الإنسان عن طاعة الله، فيزينون له معصيته، ولا يعينونه على ذكر الله، ولا يذكرونه إذا نسي، بل يساعدوه على إغوائه وإضلاله.
وإخوان الإنسان ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إخوان كالغذاء، لا يستغني الإنسان عنهم أبدًا، وهم الذين يعنونه على ذكر الله، وعلى أمر دينه.
القسم الثاني: إخوان كالدواء، يحتاج الإنسان إليهم أحيانًا، فإذا احتاج إليهم لم يسد غيرهم سدهم، وهؤلاء الذين يعينونه على أمور الدنيا مما أحل الله.
القسم الثالث: إخوان كالداء، لا يعينون الإنسان على أمور الدين، ولا على أمور الدنيا، بل يصدونه عن طريق الحق، والله يبتلي الإنسان بهذه النماذج حينما يعرض عن ذكر الله -تعالى-، قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف: 36 - 37].
وهؤلاء الذين قال الله فيهم: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27 - 29].
وهؤلاء يجب على الإنسان أن يحذرهم غاية الحذر، ويكون على بينة من مكرهم وكيدهم، فإنهم دعاة البوار، والدالون على مواطن الخسار، ولقد كثر هذا الصنف وانتشر، صنف الإضلال والإغواء، والصد عن سبيل الله، فهؤلاء هم شياطين الإنسان، ووجوه الرجس والنجاة في مخالفتهم والسلامة في اجتنابهم، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
أيها الإنسان: إن الله استخلفك في هذه الأرض، وهذه الخلافة تقتضي منك: أن تهتم بالأمر العام، وأن تسعى للعمل للتمكين لهذا الدين؛ لأنه قناعتك التي اقتنعت بها، وعقيدتك التي اعتقدتها، هذه الخلافة تقتضي منك: أن تدافع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتعلم بأنك ستسأل عنه في قبرك يوم يضعك الناس في تلك الحفرة الضيقة المظلمة، ويهيلون عليك التراب، ثم ينصرفون ويتركونك وحيدًا غريبًا فريدًا، ستسأل ساعتها عن نبيك، عندما يأتيك الملكان كما في الحديث: "وإنه ليسمع" أي الميت بعدما يوضع في قبره، ويغطى القبر: "وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين، حين يقال له: يا هذا من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟".
وفي رواية: "ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟" فعندها ماذا تقول لربك إن كنت معرضًا عن سنة رسول الله متهاونًا في نصرته؟
ولقد ظهر في عالمنا اليوم أناس أشبه ما يكونون بالشياطين، بل فاقوا الشياطين في مكرهم وكيدهم وحقدهم، منهم له خراجات خرج مؤخرًا وتقيأ –أعزكم الله- وقال: "إننا يجب أن نلغي تفسير النبي لسورة الفاتحة"، هكذا قال على رؤوس الأشهاد، وانظروا إلى هذه الوقاحة وقلة الأدب: "إننا يجب أن نلغي تفسير النبي لسورة الفاتحة؛ لأنه لم يعد مسايرًا للعصر! ويتعارض مع المواثيق الدولية!".
هذا المخلوق لا أريد أن أذكر اسمه؛ لأن الزمن والمكان أشرف من أن يتلوث باسمه، وهذا لا يستحق الرد، وإنما نقول له: يكفيك ما فيك، فرجعيك في فيك، وأن الأمة تعظم نبيك، رغمًا عن أنفك، والذين يضعون اللقمة في فيك، إذا التقت الرقاعة مع البشاعة، ولدت هذه النماذج المخزية -عياذًا بالله-.
وهو من خلال دعوته إلى إلغاء تفسير الفاتحة، فإنه يدعو إلى إلغاء تفسير القرآن كله؛ لأن الفاتحة هي أم الكتاب، هو تكلم تحت مظلة حرية التعبير، ونحن كذلك نتكلم من تحت نفس المظلة حرية التعبير، ولكل وجهة هو موليها ومولاها، والله ولي كل نفس ومولاها.
أقول له؛ كما قال الشاعر:
عَليّ نَحْتُ القَوَافي مِنْ مَقَاطِعِها *** وَمَا عَليّ لَهُم أنْ تَفهَمَ البَقَرُ
وكما قال الآخر:
أتانا أن سهلًا ذم جهلًا *** علومًا ليس يعرفهن سهل
علومًا لو دراها ما قلاها *** ولكن الرضا بالجهل سهل
وكما قال الآخر:
أرَى حُمُراً تَرْعَى وَتُعْلَفُ مَا تَهْوَى *** وأسداً جياعاً تظمأُ الدَّهرَ لا تروى
وأشْرَافَ قَوْمٍ لاَ يَنَالُونَ قُوتَهُمُ *** وَقَوْماً لِئاماً تَأكُلُ المَنَّ والسَّلْوى
حقيقة مثل هؤلاء لا يستحقون الرد؛ لأنهم لا وزن لهم ولا قيمة.
وكما قال الشاعر:
وإن بليت بشخص لا خلاق له *** فكن كأنك لم تسمع ولم يقل
وكما قال الآخر:
لو كل كلب عوى ألقمته حجرًا *** لصار الصخر مثقالًا بدينار
لكن الغيرة على الدين وعلى سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- هي التي تدفعنا للكلام، ولكن أقول له كما قال الشاعر:
والله لئن لم تنته *** لدعوت الله أن يبتليك بأربع
فأس ومقطف وقفة *** ثم علي ظهرك بردع
والبردع، معروف أنه لا تكون إلا على الحمار -أعزكم الله-.
أحبابي: ما تجرأ السفهاء على ديننا اليوم إلا لأننا أصبحنا غثاءً، كما قال صلى الله عليه وسلم في خاتمة حديثه الشهير: "أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل"، حيث يجرف السيل بقوة فيضانه، كل فتات الأرض، وكل القش الذي لا وزن له.
يومها جزعت الصحابة: أنبلغ يا رسول الله أن نكون ذلك القش المتهالك على قارعة الأمم؟ أنبلغ أن نكون غثاء كغثاء السيل إذ ينتفش فيه الورق البالي فيتضخم ويطفوا على موج السيل من شدة الانتفاخ، ولكنه لا وزن له، غثاء كغثاء السيل؟
ها نحن اليوم نفهم المشهد يا رسول الله نفهمه تمامًا حيث تبدوا بيوتنا اليوم بكل فرشها فقيرة، ليس فيها إلا رف لكتاب أو كتابين، يوم كانت خزائن البيوت في العراق تبلغ الكتب على رفوفها أربعين ألف كتاب، وتنقل على كافة الجمال من كثرتها، ويتباهى الآباء، كم أنفقوا في تعليم آباءهم آلاف المجلدات؟ وكنا يومها يا رسول الله لسنا غثاء؟
كان عدد النسوة العالمات في حي واحد من أحياء الأندلس يبلغ 170 عالمة.
وكان سيدنا الإمام البخاري والشافعي يعدون شيخاتهم كما يعد أحدهم قطع الذهب النادرة، فقد عد ابن عساكر -رحمه الله- وحده: أنه تعلم على يد أكثر من 80 عالمة وفقية.
وكنا يومها يا رسول الله لسنا غثاء، كانت المشافي مستشفيات في مصر تجهز فيها أسرة المرضى، وبجانب كل جناح مكتبة هائلة، حيث بلغت الكتب في مستشفى ابن قلاوون في القاهرة مائة ألف كتاب، وذلك حتى لا يضيع عمر المريض دون علم، فقد كانت الأمة يومها تطلب المعرفة، وهي على فراش الاحتضار.
أما الآن أغلب المستشفيات، والمريض يتابع هذه المسلسلات التركية والهندية التافهة، فيضيع الوقت، ويضيع العمر في الانفراط، وذلك حتى لا يضيع عمر المريض دون علم، فقد كانت الأمة تطلب المعرفة، وهي على فراش الاحتضار.
وكنا يومها يا رسول الله لسنا غثاء، وما تمكن هؤلاء ولا أشباههم ولا أسيادهم ما تمكنوا ولا بثوا سمومهم، إلا لما تمكن الجهل، ونشر رواقه.
اللهم أصلح أحوالنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم