عناصر الخطبة
1/ فضائل عشر ذي الحجة 2/ اجتهاد السلف في عشر ذي الحجة 3/ أقسام التكبير 4/ بعض الأعمال الصالحة في العشر.اقتباس
يُطلُّ علينا موسمٌ عظيم، وتحلُّ بنا أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتسابِ الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وفُرصةٌ لتحصيلِ الحسناتِ والحَطِّ من السيِّئات.. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، وهي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرُها زكاة وأجرًا، ولذلك أقسم الله تعالى بها فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ)، قال ابنُ جريرٍ -رحمه الله-: "والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماعِ الحُجةِ من أهلِ التأويلِ عليه"...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذِي فاضلَ بين الليالي والأيام، فجعل عشر ذي الحجة خير الأيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك العلاّم، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله سيّد الأنام، اللهمَّ صلِّى وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الليالي والأيام.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الأحبة: يُطلُّ علينا غداً موسمٌ عظيم، وتحلُّ بنا أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتسابِ الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وفُرصةٌ لتحصيلِ الحسناتِ والحَطِّ من السيِّئات.. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، وهي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً وأكثرُها زكاة وأجرًا، ولذلك أقسم الله تعالى بها فقال: (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1،2] قال ابنُ جريرٍ -رحمه الله-: "والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماعِ الحُجةِ من أهلِ التأويلِ عليه".
أيها الأحبة: وقد أثنى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على العمل الصالح فيها ثناءً لم يقله بغيرها فقَالَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» يعني أيّامَ العشر قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ». (رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما).
وعند البيهقيّ والدارمي: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي العَشْرِ الْأَضْحَى» قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟، قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».
وروى البزّار في مسنده قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ" يعني عشرَ ذي الحجّة قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللهِ, إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجَهَهُ فِي التُّرَابِ" عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنهما-.
وقد اعتنى السلف الصالح بالعمل بها والاجتهادِ فيها بما لا يجتهدونه في غيرها وحثوا على العمل الصالح فيها.. فَقَد كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ" وُروي عنه أنه كان يقول: "لا تُطفئوا سُرجكم ليالي العشر"، يشير إلى قيام الليل.
وقال مجاهد: "العمل في العشر يُضاعَف".
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "دل هذا الحديثُ على أن العملَ في أيامِه أحبُ إلى الله من العملِ في أيامِ الدنيا من غير استثناء شيءٍ منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده وقال: جميع الأعمال الصالحة مضاعفة في العشر من غير استثناء شيء منها، وقال أيضًا: العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها، وقال أيضًا: ويستثنى جهادًا واحدًا هو أفضل الجهاد، وهو أن يُعقر جوادُه ويُهراق دمُه".
معاشرَ الإخوة: قال ابن حجر -رحمه الله-: "والذي يظهَر أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادة فيها، وهي الصّلاة والصّيام والصّدقة والحجّ وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها". انتهى.
لذلك يشرع صيام هذه الأيّام الفاضلةُ، ويتأكّد فضلُه فيها، فعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ. (رواه النسائي وصححه الألباني).
قال النوويّ -رحمه الله-: "عن صيامِ هذه التسعة أنه مستحبّ استحبابًا شديدًا".
وعن أبي قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" (رواه مسلم).
قال النووي: معناه: ذنوب صائمه في السنتين قالوا: والمراد بها الصغائر، وذكرنا إن لم تكن صغائر، يُرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رُفعت درجاته.
ومما يزيد هذه العشر فضيلةً وبهاءً مشروعية الإكثار فيها من التهليل والتكبيرِ والتحميد، وقال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ, فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ, وَالتَّكْبِيرِ, وَالتَّحْمِيدِ"(رواه أحمد وصححه الألباني عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما).
وقال البخاريّ في صحيحه: "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا".
وعن يزيدَ بنِ أبي زياد قال: رأيت سعيدَ بنَ جبيرٍ وعبدَ الرحمنِ بنَ أبي ليلى ومجاهدًا أو اثنين من هؤلاء الثلاثة، ومن رأينا من فقهاءِ الناسِ يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وعن ميمون بن مهران قال: "أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: وَالْفَجْرِ ، وَلَيالٍ عَشْرٍ". ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد.
أيها الإخوة: التكبيرُ عند أهلِ العلم نوعان مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع أوقات العشر في الليل والنهار من بداية العشر، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ فرضِها ونفلِها على الصّحيح، للرّجال والنّساء.
وأصحُّ ما ورد في وقتِ التكبير المقيّد ما ورَد مِن قولِ عليٍّ وابنِ عبّاس رضي الله عنهما: أنّه للمقيمين مِن صُبح يومِ عرفة إلى العصرِ من آخر أيّام التشريق. أخرجه ابن المنذر وغيره.
وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد له عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر. وطريقة التكبير المقيد إذا سلَّمَ من صلاته وبعد قول أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله اللهم أنت السلام ومنك السلام.. يكبر ما يشاء الله له أن يكبر، ثم يعود إلى أذكار الصلاة.. هكذا قال لي شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-..
وأصحُّ ما ورد في صيغِ التكبير ما رواه شَرِيكٌ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: كَيْفَ كَانَ يُكَبِّرُ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.؟ قَالَ: كَانَا يَقُولَانِ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» (رواه ابن أبي شيبة في مصنفه وصححه الألباني).
وروي عن عمرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مثله، وعن أبي عثمان النهدي قال: كان سلمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يعلمنا التكبير يقول: كبروا الله، الله أكبر الله أكبر كبيراً.. أخرجَه عبد الرزاق بسندٍ صحيح..
أسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يجعلنا من المستفيدين من فرص الخير السانحة في هذا العشر إنه جواد كريم..
الخطبة الثانية:
أيّها الإخوة: ومما يزيد في فضل هذه العشر وزكاتها أن فيها يومين عظيمين هما اليوم التاسع يوم عرفة، واليوم العاشر يوم الحج الأكبر يوم عيد الأضحى.
فيومُ عرفة يعطي الله فيه ما لا يعطي في غيره من حطّ الذنوب والخطايا وكبير الهبات والعطايا.. من ذلك كثرة العتقاء من النار، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟" (رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ).
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وهذا يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران".
ومن فضائل يوم عرفة: أنه يُشْرَعُ لمن لم يحج من أهلِ الأمصارِ في هذا اليوم العظيم الصيام، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ". (رواه مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه).
وذهب ابن رجب -رحمه الله- إلى أن المغفرة فيه عامة فقال: "ويومَ عرفةَ هو يومُ العِتْقِ من النار فيعتقُ اللهُ مِنَ النارِ مَنْ وَقَفَ بعرفَةَ ومن لم يقفْ بها من أهلِ الأمصارِ من المسلمين، فلذلك صار اليومُ الذي يليه عيداً لجميعِ المسلمين في جميع أمصارهم؛ من شهدَ الموسمَ منهم ومن لم يشهدْه؛ لاشتراكهم في العتق والمغفرة يومَ عرفَةَ".
أيها الإخوة: أما يوم النحر فمن فضائلِه أن الله خُصَه بأعمالٍ كثيرة للحاج لا تجتمع له في غيره وهي رميُ جمرة العقبة وذبحُ الهدي والحلقُ أو التقصير والطوافُ بالبيت العتيق، وهذه الأعمال لا تجتمع إلا به وبالنسبة للمقيمين شُرعَ فيه عباداتٌ عظيمة وأعظم العبادات في يوم العيدِ، صلاة العيد وهي من آكدِ الشعائرِ وأعظمِها..
كذلك من أعظم الأعمالِ فيه وأفضلِها ذبحُ الأضاحي قال تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر: 2] وقال: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:161-162]، وقوله (نسكي) أي ذبحي وخص هاتين العبادتين الصلاة والذبح لشرفهما وفضلهما ودلالتهما على محبة العبد لله تعالى، وإخلاص الدين له..
ثم إن الذبح بذلُ ما تحبه النفسُ من المال لما هو أحبُ إليها وهو اللهُ تعالى، ومن أخلص في صلاته ونسكه استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله..
واعلموا أن ذبح الأضاحي شعيرةٌ من شعائر الإسلام، مقصودها الأعظم التقرب إلى الله تعالى بالذبح وليس المقصود منها الصدقة في لحمها على الفقراء لكنه بعض ما يقصد منها.. قال الله تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج:37]، وبذل المال في الأضاحي أفضل من الصدقة به..
وبعد أيها الإخوة: تأملوا معي فضل العمل الصالح في هذه الأيام، وأنه فيها أحبُّ إلى الله من العمل الصالح فيما سواها وأزكى عند الله، وأعظم أجراً، واستثنى من ذلك رجل واحدا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مجاهداً في سبيل الله فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
أين نحن من هذا العرضِ الرباني الضخم، والعطاءِ الإلَهي الجزل، هل فكرنا فيه وتأملناه، هل خططنا لاغتنامه واهتبلناه؟ أقول: إن شاء الله.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم