عزة أهل الإسلام

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

الحمدُ للهِ العزيزِ الأعزّ، مُعزِّ مَنْ أطاعَهُ واتقاه، ومُذِلِّ مَنْ خالفَ أمرَهُ وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، أشرفُ الخلقِ وأرفعُهم وأكرمُهم على الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.

أمّا بعد: فاتقوا الله -عِبادَ الله-، واعلموا أن منِ اتقى الله جعل له من كل هَمٍّ فَرَجًا، ومِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخرجًا.

يقول نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-: “لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا”(رواه أحمد).

إنّ اللهَ هو الأعزُّ الأكرم، يَرْفعُ منْ يشاء، ويخفِضُ من يشاء، ويُعِزُّ من يشاء، ويُذِّلُ من يشاء، فإذا شاء الله أن يُعِزَّ عبدًا أدخل عليه كلمةَ الإسلام، فمن أخْبتَ لله واستسلمَ له، عَلَا وعَزَّ وارتفَع، ومنِ استنْكَفَ واسْتكْبر، ذلَّ وهَانَ واتَّضَع. قالَ الله تعالى: (‌وَلِلَّهِ ‌الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

فالعزةُ لا تكونُ إلا للهِ وأولياءِه، والذِّلَّة والـمَهَانة لأعدائِه، ورضيَ اللهُ عنِ الفاروقِ المحدَّثِ الملهَمِ عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه-، الذي قال: “إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالْإِسْلَام، فَمَهْمَا نَطْلُبِ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهُ”(رواه الحاكم).

عِبادَ الله: مهما تقلَّبتِ الأحوالُ بالمسلمين، فإنَّهم الأعلَونَ ما داموا مؤمنين، إنَّ الله لم يَخْلقِ المؤمنين للهَوان، ولم يُنزل عليهم القرآنَ ليكونوا دُونًا بينَ الأنام: (‌لَقَدْ ‌أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) -أي: فيه عزُّكم وشرفُكم ورِفعتُكم- (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)؟

المؤمنُ يتعالى بإيمانهِ وشريعتهِ على كلِّ عَقيدةٍ فاسِدَة، وعلى كلِّ مَسلكٍ مُنْحَرف؛ لأنَّ المؤمن مُستغْنٍ بخبرِ ربّه وشرعهِ عنْ كلِّ نظامٍ أنتجتهُ الأهواءُ والظُّنون.

المؤمنُ يترفَّعُ عمَّا في أيدي النّاس، لا يُهْدِر كَرامتهُ لأجلِ حظٍّ مِن حُظوظِ الدُّنيا، بل إنْ سألَ فإنّما يَسألُ الله، وإن استعان فإنّما يستعينُ بالله.

المؤمنُ يعيشُ بوجهٍ واحد، فلا تَراهُ يتلوَّن بوجهين، هو أبْعدُ الناسِ عَنِ الكذبِ والنِّفاقِ والتَّمَلُّق، لا يُثْني على أحدٍ بباطل، ولا يُهِمُّه إلّا مَرضاةُ الله وحدَه.

المؤمنُ لا يَقْبَلُ الإهانةَ والضَّيْم، ولا يَرضَى أن يتطاولَ أحدٌ على دِينِه ومُقدَّساتِه، ولا أن يُعتدى عليهِ ولا على أيِّ مسلمٍ في أيِّ بُقعةٍ من بِقاع الأرض.

المؤمنُ يَرحمُ المؤمنين، ويشْتَدُّ على الكافرين، ويُبْدي لهم أَنَفَتَه وعِزَّتَه: (‌أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ).

المؤمنُ ينتصرُ ممَّن بغى عليه مَتى قَدَر على ذلك: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ ‌الْبَغْيُ ‌هُمْ يَنْتَصِرُونَ)، فإنِ اختار العفوَ والصَّفح، فإنَّه يعفو ويصفَح صفْحَ عزيزٍ عنْ قُوةٍ وطِيبِ نفْس، لا عن ضَعفٍ وخَوَر وذِلَّة وهَوان.

إِخوةَ الإسلام: إنَّ الإسلامَ يُربّي أتباعهُ على العِزَّة والإباء والكَرامة، فلا ترى عبدًا تربّى على الإيمانِ والاستسلامِ للمَلِك الديَّان ذليلًا مهينًا، ولكنْ كيفَ أنتجَ الإسلامُ تِلكَ العزّة في نُفوسِ أتباعه؟

إنّ المؤمنَ التقيَّ وليٌّ لله تعالى، (‌أَلَا ‌إِنَّ ‌أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، ومن كانَ العزيزُ وليَّه، ناله منَ العِزة والشرفِ بقَدْرِ هذه الوَلاية، فالعِزَّةُ تُلْتَمَسُ من الربّ العزيز: (‌مَنْ ‌كَانَ ‌يُرِيدُ ‌الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا).

وأهلُ الإسلامِ يُوقِنونَ أنَّ الله هو وحدَه له القوةُ والمَنَعة والغَلَبة والغِنى المطلق، فقوتهم وغِناهُم وغلَبَتُهم به وله، ولذا أمرَ نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- بالردِّ على أبي سفيان القائل يوم أحد: "لنا العزى ولا عزى لكم" فقال: “الله مولانا ولا مولى لكم”(رواه البخاري).

إنّ توحيدَ اللهِ يصْنعُ في النفْس أعلى معاني العِزَّة والشَّرَف، فمنْ وحَّد الله أيقنَ أنَّ له كلَّ شيء، وأنه يملِكُ كلَّ شيء، الحياةَ والموت، والقبضَ والبَسْط، والخَفْضَ والرَّفع، والنَّصْرَ والغَلَبة، فلا عِزَّ إلا به ومنه.

من وحَّد الله أيقنَ أنه وحدَه من له الخَلْقُ والأمر، فلم يُصَانِع أحدًا، ولم يخفِض رأسَه أو يَحْنِ جبْهَتَه إلا في الصَّلاةِ لمولاه.

من وحَّد الله، لم يخشَ غيرَه، فقامَ للهِ بحقِّه، ولم يمنعه من ذلِك لَوْمُ اللَّائِمين: (الَّذِينَ ‌يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ)، فهو يقولُ الحقَّ ولا يخافُ في الله لوْمة لائِم، لأنه يوقِنُ أنّ قولَه بالحق لن يؤخِّرَ مِن أَجَلِه، ولن يمنعَ عنه رِزقَه، وهل أذلَّ أعناقَ الرجال مثلُ الدنيا؟

أوَلَمْ يَقُلْ نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-: “أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ”(رواه أحمد).

من وحَّد الله لم يسأل غيرَه، ولم يبذُلْ وجهَه لغيره، فعِزُّه استغناؤُه عنِ المخلوقين الفقراءِ بالملِكِ الغنيِّ الذي لا تَفْنى خزائنُه، كما قالَ جبريلُ عليه السلام لنبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-: “وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ”(رواه الطبراني في الأوسط).

لقد أعزَّ اللهُ المؤمنَ بأن جعلَ قلْبَه سماويًّا لا ينظرُ إلا إلى السماء، فَمِنَ اللهِ كلُّ خير، ولا يُدْفَعُ السوء إلا به، وكلُّ مَن سِواه عَبيدُه، لا يملِكون لأنفسهم نفعًا ولا ضَرًا، فإن كانَ أحدُهم قَدْ جَعَله الله سببًا لحدوثِ خيرٍ أو دفْع سوءٍ فهوَ لنْ يَعْدُوَ أن يكونَ محْضَ سَبَب، فَضَعْه في قَدْرِه، وعِشْ عزيزًا باللهِ الذي يَملِك كلَّ شيء.

لقد ربَّى الإسلامُ أتباعَه على التعالي بإيمانهم على دُونِيَّة الكفرِ والفسوق، فالمؤمنُ أعلى وأعزُّ بإيمانهِ وطاعته. قال الله: (‌وَلَا ‌تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

المؤمنُ لاعتزازهِ بربهِ يتبـرَّأ من الكُفر ورجْسِه وأهلِه، ويحمَد اللهَ أن أنْقَذه منه، فلا يوالي الكُفّارَ ولا يتشبَّهُ بهم، بل تَراهُ مُشْفِقًا عليهم يدعوهم إلى الحقِّ الذي هو عليه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حقَّ حمده، والصلاة والسلام على رسولِه وعبدِه، وعلى آله وصحبِه ومَن والاه مِن بعده، أما بعد. فاتقوا الله عباد الله حقّ التقوى، وراقبوه في السرّ والنجوى.

عِبادَ الله: إذا كانَ أهلُ الإيمانِ يلْتَمِسونَ العِزَّة في إيمانهم بالله، فإن لأهلِ الباطلِ في التماسِ العِزَّة مسالكَ شتَّى.

فالمشركونَ يطْلبونَ العِزَّة بمعبوداتهِمُ الباطلة، وأديانِهِمُ الفاسدة، وليسَ مِن ورائها إلا الهَوان: (‌وَاتَّخَذُوا ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا).

والمستكبرونَ عنْ شريعةِ الله يطلبونَ العِزَّة بالأَنَفَة عنِ العُبوديةِ لله، وبمعارَضةِ وحيهِ والتحرُّرِ مِن أحكامه، وإنَّ عاقبتَهم الخزيُ والهلاك: (وَمِنَ النَّاسِ ‌مَنْ ‌يُجَادِلُ ‌فِي ‌اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ).

والمنافقونَ يطلبونَ العِزَّة بموالاةِ أعداءِ الله، وليسَ لهم سوى عاقبةِ المَهَانة والـخُسران: (‌بَشِّرِ ‌الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).

وأهلُ الدنيا يبْتغونَ العِزَّة بالمالِ والتكاثُر، حتى لو كانَ بالحرامِ والتحايُل على الأحكام، وإنَّ عاقبتَهُمُ الذُّلُّ والهَوان: قال -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُم”(رواه أبو داود).

ومِنَ الناسِ مَن يبتغي العزَّةَ بالفخْر بالأحسابِ والتُراثِ الجاهلي، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوامٍ، إنَّما هم فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جهنمَ، أو ليكونُنَّ أهونَ على الله من الجِعْلانِ، التي تدفَعُ بأنْفِهَا النَّتْنَ”(رواه أحمد وأبو داود).

وهكذا مَصيرُ منِ اعتزَّ بغيرِ الله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي ‌الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

اللهم أعِزَّنا بطاعتِك، ولا تُذِلَّنا بمعصيتك، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكُفرَ والكافرين، وانصُر عبادَك الموحِّدين، ودمِّر أعداء الدين من اليهودِ والصليبيّينَ والمنافقين، بقوتك يا قوي يا متين.

اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لِما تُحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتهِ للبِرِّ والتَّقوى. ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخِرةِ حَسَنةً وقِنا عذَابَ النَّار.

عِبَادَ الله: اذكرُوا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوهُ بُكرةً وأصيلًا، وآخرُ دَعوانا أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.