عباد الله حجوا

ناصر بن محمد الأحمد

2015-02-10 - 1436/04/21
عناصر الخطبة
1/قصة بناء إبراهيم -عليه السلام- للكعبة 2/بعض فضائل الحج 3/السبيل إلى الحج المبرور 4/بعض دروس وعِبَر الحج

اقتباس

عباد الله: الحجُّ مؤتمر جامعٌ للمسلمين قاطبة، وهو مؤتمرُهم وملتقاهم الأكبر، مؤتمر يجدون فيه أصلَهم العريق الضارب في أعماقِ الزمن منذ إمام الحنفيَّة أبينا إبراهيم -عليه السلام-، يجدون محورَهم الذي يشدّهم إليه جميعاً، هذه القبلة التي يتوجَّهون إليها جميعاً، ويلتقون عليها جميعاً، ويجدُون أيضاً رايتَهم التي...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

لقد جاء إبراهيم -عليه السلام- بزوجه هاجر، وابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت العتيق، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما ماء وتمراً، ثم انطلق إبراهيم، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.

 

ثم انطلق إبراهيم -عليه السلام- حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37].

 

وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا، ثم استقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحداً، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، ثم تسمّعت فسمعت أيضاً، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه بيدها، فشربت وأرضعت، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة، فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه"[رواه البخاري].

 

وتمضي الأيام، وتمر السنون، ويبني الخليل -عليه السلام- وابنه البيت، ويأمر الله خليله إبراهيم بأن يؤذن في الناس بالحج إلى ذلك البيت، قال الله -تعالى-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحـج: 27].

 

ومنذ ذلك الحين، وجموع الناس تفد إلى ذلك المكان شوقاً وحنيناً.

 

الحج -يا عباد الله-: حث عليه نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ورغّب فيه، وذكر بأنه يهدم ما قبله من سيئ العمل، فعن عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت رسول الله، فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط فقبضت يدي، فقال: "مالك يا عمرو" قلت: أشترط؟ قال: "تشترط ماذا" قلت: أن يغفر لي، قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله".

 

الحاج الذي لم يرفث ولم يفسق يخرج طاهراً نقيا من الذنوب، قال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".

 

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة"[رواه الإمام أحمد].

 

للحاج دعوة مستجابة؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغازي في سبيل الله، والحاج والمعتمر، وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم".

 

الحاج في حفظ الله -تعالى-، قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة في ضمان الله -عز وجل-: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً".

 

ومما جاء في فضل الحج، حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله بها لك حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة، فإن الله -عز وجل- ينـزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار، فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك"[رواه الطبراني].

 

إن في هذه الأحاديث دعوة ونداء إلى المبادرة بالحج، وغسل النفس من ذنوبها، فإن العبد لا يعلم متى موعد رحيله من هذه الدنيا، والحج أيام معدودات، من استطاع أن يلبي فيها نداء ربه ثم لم يفعل، فهو المحروم.

 

إن الحج إلى بيت الله الحرام وأجره وفضله، يحرك الساكن، ويهيج المشاعر والقلوب التي تطمع في مغفرة علام الغيوب.

 

قف بالأباطح تسري في مشارفها *** مواكب النور هامت بالتقى شغفا

من كل فج أتت لله طائعة *** أفواجها ترتجي عفوا الكريم عفا

صوب الحطيم خطت أو المقام مشت *** مثل الحمائم سربا بالحمى اعتكفا

 

أخي الحاج: إنَّ لك في كلِّ خطوةٍ تخطوها أجراً عند الله، وحين تنطقُ بنداءِ التوحيد: "لبيك اللهم لبيك" فإنَّ الكونَ كلَّه معك يردِّد توحيدَ الخالق، ويسبِّح بحمده، تلبِّي الأحجار، ويهتف المدر والأشجار، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمٍ يلبِّي إلاّ لبَّى ما عن يمنيه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرضُ من ها هنا وها هنا".

 

إذا سمع الحاجُّ حديثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجه البخاري ومسلم: "الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".

 

تشتاق نفسُه لهذا الأجر العظيم، والفضل الجزيل، فيتساءل: كيفَ يحقِّق الحجَّ المبرور؟ قال ابن عمر -رضي الله عنهما- لمجاهد حين قال: ما أكثر الحاج؟! قال: "ما أقلَّهم، ولكن قل: ما أكثر الركب".

 

أخي الحاج: الحجُّ المبرورُ يتطلَّب إخلاصاً لله، فمن خرج من بيته متطلِّعاً إلى المدح والثناء والسمعةِ والمباهاة حبط عمله وضلَّ سعيُه، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: "من عمل عملا أشرك فيه معيَ غيري تركتُه وشركَه"[أخرجه مسلم].

 

وكان صلى الله عليه وسلم يحذِّر من ضدِّ ذلك فيدعو مستعيناً بربِّه، قائلاً: "اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سمعة"[أخرجه ابن ماجة] من حديث أنس بن مالك.

 

مال الحجّ المبرور يجبُ أن يكون حلالاً طيباً؛ لأنَّ النفقةَ الحرام من موانع الإجابة، وفي الطبراني مرفوعاً: "إذا خرج الرجلُ حاجاً بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادُك حلال، وراحلتك حلال، وحجُّك مبرور.

 

وإذا خرجَ بالنفقة الخبيثة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا وسعديك، زادُك حرام، ونفقتُك حرام، وحجّك غير مبرور".

 

أيامُ الحجِّ المبرور تُحيَى بذكر الله، وتُضاء بتلاوةِ آياتِ الله، وتطهَّر بالاستغفار وبذل المعروف والدعوة إلى الله -عز وجل-.

 

ملء الأوقاتِ بالطاعات، تحصّنُ الحجَّ من الآفات المهلِكة، ولصوصِ الحسنات، وتزيد الحجَّ برًّاً، فالأيامُ فاضلة، وتلك البقاع مفضَّلة، وفيها تتضاعف الأجور، وقد كان سلفُنا الصالح إذا تلبَّسوا بهذه العبادة عطَّروا أوقاتَها بذكر وتسبيحٍ وتهليل وتحميد.

 

سمة الحاجِّ في هذه البقاع العظيمة السكينةُ والطمأنينة، وسلوكُ أدبِ هذه الشعيرة بخفض الصوت، وعدم الإزعاج، وأذية المسلمين، والهدوء في العبادة والدعاء.

 

التلبية في الحجِّ المبرور، ذكرٌ لا ينقطع، فلها معانٍ لو استقرت في سويداء القلب، فإنها تصبغ حياتَك -أيها المسلم-، وتقوِّم مسيرتَك، وتهذِّب سيرتَك، إنها إعلان العبوديةِ والطاعةِ والتذلّل.

 

الصحبةُ الطيبة في الحجّ، تقوِّيك إذا ضعفت، تذكّرك إذا نسيتَ، تدلّك على طريق الخير، وتحذّرك طريقَ الشر.

 

من رام حجاً مبروراً امتثلَ قولَه صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: "من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدتْه أمّه".

 

نعم، من تطلَّع إلى حجّ مبرور أدَّب جوارحَه، فلا تنظر العين نظرة فاحشة، ولا ينطِق اللسان بألفاظ طائشة، ولا تمتدّ اليد بأذًىً إلى أحد، ولا ينطوي القلبُ على بغضاء أو حسد.

 

حجّ مبرور، يوقَّر فيه الكبير، ويُرحم الصغير، ويُواسى الضعيف، ويحافَظ فيه على نظافة البدن والثوب والمكان، قال الله -تعالى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة: 222].

 

أيها المسلمون: إن فريضةَ الحجّ فريضة عظمت في مناسكها، وجلّت في مظاهرها، وسمت في ثمارها.

 

الحج عظيمةُ المنافع، جمّة الآثار، تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يُحصيه المحصون، ولا يقدر على عدّه العادّون، انتظمت من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمَها وأزكاها، مقاصدُ تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبّد، وعلى الدعوة لانتظام شملِ المسلمين، ووحدة كلمتهم، وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكيَّة للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان.

 

وبالجملة، ففي الحج من المنافع التي لا تتناهى، والمصالح التي لا تُجارَى، ما شملَه عمومُ قول المولى -جل وعلا-: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[الحـج: 27].

 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة، فرضوان الله -جل وعلا-، وأما منافعُ الدنيا، فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات".

 

وثمة منافعُ يجب على الأمة الإسلامية أفراداً ومجتمعات، حكاماً ومحكومين، أن يعُوها، وأن يدركوا كنهَها، وأن يحقِّقوها في حياتهم سلوكاً عملياً، ومثالاً واقعياً، فيومَ تكون الأمة مستلهمَةً رشدَها على نحو تلكم الأهداف والمقاصد، فستنال عزاً وشرفاً، وخيراً ومجداً.

 

فما أحوجَ الأمةَ اليوم، وهي تعاني فتناً متلاطمةً، وشروراً متنوّعة، وبلايا متعددة؟ ما أحوجها أن تستلهم من فرائض الإسلام العبَرَ والعظاتِ والدروس الموجّهة لحياتها وسلوكها ونشاطها وتوجّهاتها؟

 

ما أجدرَ المسلمين أن يوجِّهوا حياتهم من منطلقاتِ دينهم، وأن يديروا شؤونَهم من حقائقِ قرآنهم، وأن يعالجوا مشكلاتِهم وأدواءَهم على ضوء ما يوجّههم إليه خالقُهم، ويرشدهم إليه نبيهم.

 

في تجمع الحج حقيقة عظيمة لابد من ذكرها، وهو أنَّ هذه الأمةَ مهما بلغَ الكيد لها، والمكر بها، فإنها أمةٌ خالدة بخلودِ رسالتها وكتابِها، باقيةٌ ما بقي الليل والنهار.

 

عباد الله: في دروس الحج تذكيرُ الأمة بأن أعظمَ ما يجب أن تهتمّ به، وأن تحافظ عليه، وأن تغرسه في النفوس، وتبثّه في المناشطِ كلّها، والأعمالِ جميعها، تحقيقُ التوحيد لله -سبحانه-، تحقيق الغايةِ القصوى في الخضوع، والتذلل له -عز شأنه- توجّهاً وإرادة، قصداً وعملاً.

 

فهذه التلبية رمزُ الحج ومفتاحه التي أهلّ بها سيّد الخلق، وإمام الأنبياء، حين افتتح حجتَه بالتوحيد، كما قال جابر -رضي الله عنه-: أهلّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد: "لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

 

إهلالٌ يتضمن كلماتِ التلبية، ذاك المعنى العظيمُ والمدلول الدقيق، ألا وهو روح الدين، وأساسُه وأصله، وهو توحيد الله -جل وعلا-، ونبذ الإشراك به، بكلّ صوره، وشتى أشكاله.

 

فالواجبُ على أفراد الأمة جمعاء: أن يستحضِروا ما دلّت عليه هذه الكلمة من معنى، وأن يعرفوا ما تضمّنته من دلالة، وأن يكونَ المسلم على دراية عظيمة بهذا المعنى في حياته كلّها، محافظاً عليه في كلّ حين وآن، مراعياً له في كلّ جانب، لا يسأل إلا اللهَ، لا يستغيث إلا بالله، لا يتوكَّل إلا على الله، لا يطلبُ المدد والعون والنصر إلا من الله، مستيقناً أنَّ الخير كلّه بيد الله، وأزمَّة الأمور بيد الله، ومرجعها إليه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.

 

فحريٌّ بالمسلم الموفّق الاهتمامُ بتلك المعاني كلها، وتحقيقها في حياته بشتى جوانبها.

 

وإذا كان الأمرُ كذلك في حق الأفراد، فالأمة أجمَع حري بها أن تستلهم من الحج تلك الدروسَ والعبر، ولتعلمْ أن القاعدةَ الثابتة لاستقرار حياتها، هو تحقيق التوحيد لله -جل وعلا- في كل شأن من الشؤون، في مناشط الحياة كلّها، وأن تحقق الخضوع التامَ لله والذل المتناهيَ له سبحانه، ترسيخاً للعقيدة الصحيحة في واقع الحياة، وتأصيلا لها في النفوس، وإلا فبدون ذلك تتخطّفها الأهواء تخطّف الجوارح، وتتقاذفها الأوهام تقاذف الرّياح.

 

ألا، فلتصبغ الأمة حياتَها كلّها، وأنشطتَها جميعَها، بقاعدة العقيدة الصحيحة، والتوحيد الخالص، فلا تخطو خطوةً، ولا تتحرك حركة، إلا وهي تنظر من منظار القرآن الكريم، ومن مرآة السنة، ورضا الربِّ -جل وعلا-، فالله -جل وعلا- يقول: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].

 

ومن دروس الحجّ: أن تعلم الأمة وتتذكَّر، وأن تستشعرَ وتستيقن، أنه لا سعادة ولا نجاح في هذه الحياة والآخرة، ولا توفيقَ ولا سدادَ إلا باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، والسير على نهجه، والمسيرة الجادة على هديه في الاعتقاد والأعمال، في الحُكم والتَّحاكم، في الأخلاق والسلوك، وفي هذا الصدَد يقول سيدنا ونبينا -صلى الله عليه وسلم- عند كل منسك من مناسك الحج: "خذوا عني مناسككم".

 

فأعظمُ أهداف الحج تذكر هدي المصطفى، ولزوم طريقه في هذه الحياة، دونَ إفراط ولا تفريط، ولا غلوٍّ أو جفاء: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد".

 

أيها المسلمون: من الدروس العظيمة في الحجّ: أهميةُ الاعتدال والتوسّط في الأمور كلها، ومجانبة الغلوِّ والجفاء، أو الإفراط والتفريط، روى أحمد وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة العقبة: "القُط لي حصًى" قال: فلقطتُ له حصىً من حصى الخذف، فجعل ينفضهنّ في كفّه، ويقول: "بأمثال هؤلاء فارموا" ثم قال: "يا أيها الناس: إياكم والغلوّ في الدين، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين".

 

فالاعتدال في الأمور كلّها والتوسطُ فيها، والبعد عن الغلو والجفاء، هو المنهج القويم، والصراطُ المستقيم، الذي ينبغي أن يسلكه جميع المؤمنين، وذلك ليس بالأهواء، وإنما يكون بالأخذ بحدود القرآن والسنة، وما فيهما من الهدي والبيان.

 

ألا، فلتكن مثلُ هذه المناسبة العظيمة التي يجتمع فيها المسلمون على أداء عبادة عظيمة من معالم الدين، لتكن درساً يراجع فيه المسلمون أنفسَهم، ويتبصَّرون فيه في أحوالهم، ليقيموها على المنهج الحق، والصراط المستقيم، من منبعه الصافي، ومورده العذب الزلال، كتاب الله -جل وعلا-، وسنة سيّد الأنبياء، سيدنا ونبينا ورسولنا محمد.

 

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

عباد الله: الحجُّ مؤتمر جامعٌ للمسلمين قاطبة، وهو مؤتمرُهم وملتقاهم الأكبر، مؤتمر يجدون فيه أصلَهم العريق الضارب في أعماقِ الزمن منذ إمام الحنفيَّة أبينا إبراهيم -عليه السلام-، يجدون محورَهم الذي يشدّهم إليه جميعاً، هذه القبلة التي يتوجَّهون إليها جميعاً، ويلتقون عليها جميعاً، ويجدُون أيضاً رايتَهم التي يفيؤون إليها، رايةَ العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلّها فوارقُ الأجناس والألوان والأوطان، ويجدُون قوتَهم التي قد ينسونَها حيناً، قوةَ التجمع والتوحّد والتي تضمّ الملايين التي لا يقف لها حدّ لو فاءت إلى رايتِها الواحدة التي لا تتعدَّد.

 

فالواجبُ على المسلمين اليوم، وهم تتقاذف بهم أمواجُ الفتن، وتتحدّاهم قوى الطغيان والعدوان، الواجبُ عليهم: أن يتخذوا من مثلِ هذا الموسم مؤتمراً للتعارف والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى، وتبادُل المنافع والمعارف والتجارب.

 

فحريّ بالأمة أن تستثمرَ مثلَ هذا الموسمِ العظيم، فرصةً للتوجيهات العامة النافعةِ، والنظر في قضاياها المهمة.

 

الحجُّ مؤتمر ذو مقاصدَ سياسية للبشرية كلها، مؤتمر يربّي البشرية على أسسِ السلام والأمن والحياة الطيبة، مؤتمرُ الحج مؤتمر يغرس في النفوس حياة تراعى فيها حرمات الله، لتقوم في الأرض حياةٌ يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، حياة يجدون فيها مثابةَ أمنٍ ودوحةَ سلام ومنطقة اطمئنان، فهذا سيّد البشرية، وإمام الحنيفية، سيدُنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يعلنها جليةً، ويطلقها صريحة، في خطبة الوداع، فيقول: "إن دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا".

 

أيها المسلمون: لقد دعا ربنا عباده إلى بيته الحرام، ليعطيهم ويكرمهم أعظم العطاء والكرم، فأجاب هذا النداء المهتدون السعداء، وأبى المعتدون الأشقياء، وآثروا القعود والبقاء، لكن لا جناح على أهل الأعذار، قال الله -تعالى-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير)[الحـج: 27].

 

أمر الله –تعالى- إبراهيم -عليه السلام- أن ينادي في الناس بالحج، ويدعوهم إليه، فاستجاب المؤمنون الموحدون المخلصون الراغبون فيما عند الله، وأقبلوا إلى بيت الله الحرام، معبّرين عن استجابتهم، وإخلاصهم، ولزومهم لطاعة الله، بقولهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

 

انطلقوا إلى بيت الله من كل طريق بعيد، من كل الجهات والأقطار، فارقوا الأوطان والديار، وتركوا الشهوات والأوطار، وأنفقوا الدرهم والدينار، رجاء المغفرة والعتق من النار، قال الله -تعالى-: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97].

 

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعجّلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له".

فيا من يسر الله عليه، وأمده بالصحة والأموال، عجّل إلى الحج وبادر، واسع في الخير وثابر، قبل زيارة المقابر، فكأني بك قد سبق المجدّون وفازوا، وأنت متأخر خاسر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحجّاج والعمّار وفد الله دعاءهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم".

 

فاستجب لله إن أردت أن يستجيب الله لك، وإن أعرضت عنه سبحانه وتعالى أعرض عنك، وتخلّى عنك، وتركك فريسة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وحبيس الشهوات والوساوس، ومصب المصائب والمحن.

 

اللهم ...

 

 

المرفقات

الله حجوا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات