عناصر الخطبة
1/استقبال شهر محرم وشناعة الظلم فيه 2/بعض فضائل شهر محرم 3/مراحل صيام عاشوراء 4/ صيام النبي لعاشوراء ومداومته على ذلك وحرصه على مخالفة اليهود 5/صيام السلف لعاشوراء وحرصهم على ذلك 6/مراتب صيام عاشوراءاقتباس
لما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- قد استقر لديهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد فتح مكة أصبح يكره موافقة اليهود؛ فإنهم سألوه مستوضحين منه؛ عن استمراره في صيام عاشوراء مع أن اليهود -ومنهم يهود خيبر- يصومونه أيضا وهو أصبح يكره موافقتهم، وينهى عن التشبه بهم؛ فهنا...
الخطبة الأولى:
فقد أظلّنا -إخوة الإيمان- شهر عظيم مبارك، هو شهر الله المحرّم، أول شهور السنّة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)[التوبة:36].
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"[رواه البخاري].
والمحرم، سمي بذلك لكونه شهرا محرما، وتأكيدا لتحريمه.
وقوله تعالى في الآية السابقة: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها.
قال قتادة في قوله: (فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة، ووزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء"[انتهى ملخّصا من تفسير ابن كثير -رحمه الله-].
ومن فضائل شهر الله المحرم: استحباب الإكثار فيه من صيام النافلة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ"[رواه مسلم].
وقوله: "شهر الله" أضاف الشّهر إلى الله -تعالى- إضافة تعظيم له، ك"بيت الله"، و"ناقة الله".
قال القاري: "الظاهر أن المراد صيام جميع شهر المحرم".
ولكن قد ثبت أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصم شهرا كاملا قطّ غير رمضان، فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم، لا صومه كله.
وقد ثبت إكثار النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصوم في شعبان، ولعله لم يوحَ إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه.. [يراجع شرح النووي -رحمه الله- على صحيح مسلم].
ومن فضائل شهر الله المحرم: مشروعية صيام يوم عاشورا، وهو اليوم العاشر من محرم، ومما ورد في فضله؛ حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاّ هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ".
وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ.
ومعنى: "يتحرى" أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه، والرغبة فيه.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"[صحيح الجامع 3853].
وهذا من فضل الله علينا: أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، والله ذو الفضل العظيم.
ولصيام عاشوراء قصة لطيفة وملخصها: أن صيام عاشوراء مر في الإسلام بعدة مراحل متدرجة:
فالمرحلة الأولى: ما قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث كان المشركون يصومونه في مكة المكرمة، وصامه معهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه".
قال القرطبي: "لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم -عليه السلام-".
المرحلة الثانية: صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ليوم عاشوراء في مكة المكرمة بعد بعثته، وقبل الهجرة، فقد ثبت أيضا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة.
المرحلة الثالثة: صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- له في المدينة وجوبا، وأمره الصحابة -رضوان الله عليهم- بصيامه وجوبا؛ ففي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا من أسلم يوم عاشوراء، فأمره: أن يؤذن في الناس، من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل".
وكان ذلك قبل فرضية صيام شهر رمضان، حتى أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يُصومون فيه صبيانهم تعويداً لهم على الفضل؛ فعن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: "من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم" قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار"[رواه البخاري].
وهنا أشير وأنبه إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة كان يحب في البداية موافقة اليهود في دينهم؛ لأنهم أهل كتاب، ولما كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم عاشوراء في مكة، فلما هاجر إلى المدينة تعجب عليه الصلاة والسلام من صيام اليهود ليوم عاشوراء؛ فسألهم واستوضح منهم عن سبب صيامهم لعاشوراء، فقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ. فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ"[رواه البخاري].
فهنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أنه ما دام موسى -عليه السلام- قد صامه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام أحق باتباع موسى -عليه السلام- في صيامه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مأمور بالاقتداء بالأنبياء قبله، قال تعالى بعد أن ذكر أخبار عدد من الأنبياء والرسل: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام:90].
فصامه النبي -صلى الله عليه وسلم- اقتداء بموسى -عليه السلام-.
المرحلة الرابعة: انتقال صيام عاشوراء من الوجوب إلى التخيير في صيامه أو تركه؛ وذلك بعد فرضية صيام شهر رمضان؛ جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه".
وفي صحيح مسلم من حديث معاوية -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن يوم عاشوراء: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن أحب منكم أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر".
وأخرج ابن حبان في صحيحه: أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في صوم عاشوراء بعدما نزل صوم رمضان: " من شاء صامه، ومن شاء أفطره".
المرحلة الخامسة: حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على صيام عاشوراء، وبيان فضله استحبابا مؤكدا؛ وخاصة بعد أن فتح خيبر في السنة السابعة للهجرة فوجد اليهود فيها يصومونه؛ فأمر الناس بصيامه استحبابا؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن قيس -رضي الله عنه- قال: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، فقال رسول الله -صلى لله عليه وسلم-: "فصوموه أنتم".
واختلف العلماء في أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد فتح خيبر في صيام عاشوراء؛ فقال بعضهم: لأن فتح خيبر كان قبل فتح مكة والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في هذه الفترة لا زال يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه.
وقال بعضهم، بل إنه عليه الصلاة والسلام؛ لما رأي أهل خيبر يتخذون عاشوراء عيداً أمر بصيامه مخالفة لهم، قال: هذا الأخير ابن حجر في فتح الباري.
وعلى أية حال، فإن أمره صلى الله عليه وسلم، بصيام عاشوراء بعد خيبر لم يكن على وجه الوجوب؛ وإنما على وجه الاستحباب المطلق.
المرحلة السادسة: بعد استقرار شرائع الإسلام؛ أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- على صيام عاشوراء وفضيلته، وجعله من جملة أنواع الصيام المفضلة في الإسلام، ومن الأدلة على ذلك: ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتاه رجل فسأله عن الصيام، فقال عليه الصلاة والسلام: "ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" [أخرجه مسلم في صحيحه].
وبقي عليه الصلاة والسلام مداوما على صيام عاشوراء حتى وفاته عليه الصلاة والسلام؛ إلا أنه مما ينبغي التنبيه عليه هنا: أنه عليه الصلاة والسلام -كما ذكرنا آنفاً- كان بعد مقدمه إلى المدينة: "يحب مخالفة المشركين وموافقة اليهود فيما لم ينه عنه؛ لأنهم كانوا أهل كتاب؛ واستمر على هذا وبقي عليه حتى فتح مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة؛ وبعد أن فتح مكة وأسلم المشركون ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يبق إلا أهل الكتاب أصبح عليه الصلاة والسلام يكره موافقة اليهود والنصارى، بل أصبح من بعد فتح مكة يخالف اليهود والنصارى، وينهى عن التشبه بهم.
ولما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- قد استقر لديهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد فتح مكة أصبح يكره موافقة اليهود؛ فإنهم سألوه مستوضحين منه؛ عن استمراره في صيام عاشوراء مع أن اليهود -ومنهم يهود خيبر- يصومونه أيضا وهو أصبح يكره موافقتهم، وينهى عن التشبه بهم؛ فهنا قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لئن بقيت إلى قابل -أي إلى العام القادم- لأصومن التاسع" ولكنه توفي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك.
واستمر الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعون لهم بإحسان من العلماء والصالحين يصومون يوم عاشوراء إلى يومنا هذا؛ ويأمرون بصيامه؛ فعن الأسود بن يزيد قال: "ما رأيت أحدا كان آمر بصوم عاشوراء من علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- [اتحاف الخيرة المهرة 82/3 وسنده صحيح].
فسبحان الله! هذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كان من أشد الصحابة وأكثرهم أمرا، وحثا على صيام عاشوراء؛ فأين الرافضة من إتباع علي -رضي الله عنه- والاقتداء به؟
فنحمد الله -تعالى- على نعمتي العلم والعقل.
عباد الله: لقد بلغ من شدة عناية السلف الصالح بصيام عاشوراء أنهم كانوا يصومون يوم عاشوراء حتى في السفر، ومنهم ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي والزهري، وكان الزهري يقول: "رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت" أي أن رمضان يمكن قضاؤه، أما عاشوراء فلا يمكن.
ولذلك نص الإمام أحمد -رحمه الله- على أنه يشرع صيام عاشوراء في السفر أيضا.
أخيرا: فإنه لما كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته مخالفة اليهود والنصارى، والنهي عن التشبه بهم، فإنه وإمعانا منه صلى الله عليه وسلم في مخالفتهم إذا صاموا عاشوراء، فقد استحبّ لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نصوم يوما قبله.
قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: "يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا" لأن النبي صلى الله عليه وسلم- صام العاشر، ونوى صيام التاسع".
وقال بعض العلماء: "ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر، ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر".
وعلى هذا، فصيام عاشوراء على مراتب أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب.
أسأل الله -تعالى- أن يعينني وإياكم على استغلال مواسم الطاعات فيما يرضيه عنا، وأن يباعد بيننا وبين خطايانا كما باعد بين المشرق والمغرب.
بارك الله لي ولكم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم