عناصر الخطبة
1/ سلوك طريق العارفين بالله 2/ ظلم الإنسان لنفسه وبعض صور ذلك 3/ ظلم الإنسان للإنسان وبعض صور ذلك 4/ التحذير من الظلم وعاقبته الوخيمةاقتباس
اسلكوا -رحمكم الله- طريق العارفين بالله الذين عرفوا حقيقة ما لربهم، وعرفوا حقيقة أنفسهم، إليك طرفاً من أحوال هؤلاء العارفين بالله، بل خذ خبراً من أعرف العارفين بالله, بل هو أعرفهم بالله بعد...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده،…
أما بعد:
فاسلكوا -رحمكم الله- طريق العارفين بالله الذين عرفوا حقيقة ما لربهم، وعرفوا حقيقة أنفسهم، إليك طرفاً من أحوال هؤلاء العارفين بالله، بل خذ خبراً من أعرف العارفين بالله, بل هو أعرفهم بالله بعد الأنبياء؛ خبر يرويه صحابي عن صحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الذي أخذ نفسه بالحزم، وألزمها جادة الصواب، فهو الصوام القوام، يروي عن من؟ يروي عن أفضل الأمة، وأتبعها لنبيها، وأقومها بإصلاح نفسه، والقيام بحق ربه وعباده! يروي عن أبي بكر صديق هذه الأمة.
وكما ورد عن أبي بكر المزني أحد التابعين -رحمه الله-: "ما فضلكم أبو بكرٍ بكثرة الصلاة والعبادة، وإنَّما لشيءٍ وضعه الله في صدره".
أيها الإخوة: في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي؟. ولمسلم: وفي بيتي؟ قال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفرلي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".
هذا هو الدعاء الذي اختاره النبي -صلى الله عليه وسلم- لخاصة أصحابه، ولخليفته من بعد ليدعو به في صلاته وفي بيته؛ إنه طلب مغفرة الله من ظلم النفس!
أجل، فالإنسان يظلم نفسه حينما يورها موارد النقص، ويحطها محط الزلل.
ولقد حرَّم الله الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً لعظم أثره، وسوء عاقبته، يقول الله -تبارك وتعالى- في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
فالظلم خراب الديار، وعاقبته خسارٌ، وبوار، فالظالم قد عرَّض نفسه لمقت الله وانتقامه: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 57].
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
(إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام: 21].
وإنَّ أعظم الظلم الشرك بالله؛ كما قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
فمن أشرك بالله شيئاً فإنَّ الله قد حكم فيه حكمه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) [النساء: 48].
وقال تعالى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72].
ثم بعد الظلم بالشرك الظلم الثاني: ظلم العباد بعضهم بعضاً، وهو الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، فقال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصوم وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار" [رواه مسلم].
فهذه المظالم لا تمحى إلا بالخروج منها واستحلال أربابها، وهذا النوع هو الذي تخَّبط فيه كثيرٌ من الناس واستهان فيه آخرون.
فاستحلَّ قومٌ أموال قومٍ ظلماً وعدواناً، فجحدوا ديوناً عليهم، وتلاعبوا في أموال ولُّوُّا عليها، وماطلوا في قسم تركاتٍ محتاج أهلها إلى قسمتها.
ومن أجل هذا أكلت الرشوة، وزورت أوراق، وقطعت أرحامٌ، وعقَّت أمهاتٌ وآباء، وتخاصم الأباء والأبناء: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم: 42].
وإنَّ من الظلم ما يقع بين الزوجين، فتسلط أزواجٌ قلَّ خوفهم من الله فظلموا نساءهم تارة بمنع ما أوجب الله عليهم من النفقة فلم يعطوا ما يكفي لمعاشهم ولباسهم وقد أنعم الله عليهم، وربما ادعوا القلة وهم ينفقون على أنفسهم وأصحابهم وجلساتهم وأسفارهم أضعاف ذلك مضاعفة.
وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت.
ويزيدُ الظُّلم ويتبن ضررُه إن أعطى إحدى زوجتيه وفضلها على الأخرى، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له امرأتان، فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل" [رواه أبو داود، وغيره، وقال ابن حجر: "سنده صحيح"].
ومن ظلم الزوجات والأولاد الذي تشكو منه بعض البيوت: إضاعة القوامة، وهجر البيوت إلا لنومٍ أو أكل، ففقدت بيوتهم استقرارها، وفقد أهله أهم ما يجب على وليه وهو رعايته، وتربية السفهاء فيه.
ولقد كان بعض أرباب البيوت -عفا الله عنَّا وعنهم- يذهب الأيام المتوالية والليالي المتتابعة عن بيته الذي فيه أولاده الصغار، وزوجته المسكينة، وهم يجدون منَّة من جيرانهم ومعارفهم في شراء خبز البيت، ومستلزمات الحياة، بل ربما لحقهم خوف من ذهاب راعيهم وغياب حاميهم، وحجة هذا الأب أنَّه مخيِّم في البر في مكان بعيد يصعب عليه المجيء إليهم.
وهو يتقرب بعمله هذا لأصحابِه ورفقائه الذين طلب رضاهم بسخط الله والتفريطِ فيما أوجب الله عليه، قال عمر بن عبد العزيز: "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس، فاذكر قدرة الله -تعالى- عليك".
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها الإخوة: أما يخشى الظالم لنفسه إن استمر على ظلمه أن يغلق الله عنه باب الهداية فتتنكس أموره: (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258]؟
فاتقوا الله -عباد الله-: واحذروا الظلم قليله وكثيره، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" [متفق عليه].
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ : (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102] [متفق عليه].
فيا من ظلموا -عباد الله- وأضاعوا حقوقهم، وهتكوا أعراضهم، وجحدوا أموالهم: ألا يعظكم ويخيفكم قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) [إبراهيم: 47].
وانتقامه غيب قد يلحقهم في أنفسهم أو أموالهم أو أهلهم وأولادهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين" [رواه الترمذي، حديث حسن].
وفي الصحيحين: "واتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ".
فاتقوا الله -عباد الله- وعظموا ما عظم الله، وقفوا عند حدوده وشرعه، فإنكم في أشهر محرمة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة: 36].
وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأربعة بأنها ذو القَعدة، وذو الحجة، ومحرم، وهي ثلاثة متوالية، ثم رابعها رجب.
وإنَّ المحرم يزيد تحريمه، ويكبر إثمه إذا وقع في زمن محرم أو مكان فاضل: (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) [الحـج: 30].
فاللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفرلي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
هذا هو الدعاء الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما علمت لأبي بكر، فالهج به في صلاتك ساجداً، وقبل سلامك من صلاتك، وفي عموم أحوالك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم