اقتباس
صور من اعتدال الصحابة في الإنفاق والمعيشة
كيندة حامد التركاوي
أصحاب النبي الكريم، فرسان النهار، رهبان الليل، رجال الحرب والسلم، نجوم أنارت طريق العتمة والظلمة، وكان منهج السلف في الأمور كلها سواء أكانت الأمور اعتقادية أو منهجية أو سلوكية منهجاً وسطياً. وسطية تقوم على المنهج الإلهي، والجمع بين المادة والروح، والدنيا والآخرة، والأسرة والمجتمع، والحقوق والواجبات، والفرد والجماعة، والتوازن فيما بينهما بلا إفراط ولا تفريط، ولا ترجيح جانب من الجوانب على الآخر. جيل ليس كسائر الأجيال، جيلاً استحق بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا خير القرون وخير الأجيال في هذه الأمة، أمةٌ خير الأمم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). [1]
لقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً بتربية الصحابة على القيم الإيمانية والأخلاقية والسلوكية، ثم بعد ذلك بنى لهمسوقاً للمعاملات، وَسنّ لهم الدستور الاقتصادي الإسلامي، ومن النماذج العملية لذلك التجار المسلمون الذين حملوا معهم رسالة الإسلام في تجارتهمفي كثير من دول شرق آسيا وأفريقيا، فكانوا سبيلاً لدخول الكثير من الناس في دين الإسلام أفواجا، ويستنبط من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتمبالتربية الروحية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية والبدنية، وكذلك بالتربية الاقتصادية، وكان من ثمار ذلك تكوين الشخصية الإسلامية ذات السلوك القويم [2].
وقد كان العلماء والمربّون - قديماً وحديثاً - يحثّون الناشئة على النظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه الأفذاذ، لينشئوا على حبّ الله ونبيه صلى الله عليه وسلم ويستلهموا معاني الإيثار والوفاء.. والصدق والعفاف والطهر والتقوى والكرم والفداء، وهذا ما دعا إليه القرآن الكريم في إشارته الواضحة إلى ضرورة الاقتداء بالصالحين. ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
ترعرع الصحابة الكرام في حضن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونهلوا الدين من غدير عطاءه، وتعلّموا العلم في مدرسته التاريخية العظيمة. وشاركوا النبي أدق تفاصيل حياته، ليتبعوا سنة الحبيب المرسل، والهادي المتّبع، فكان نبياً مرسلاً، وقائداً عسكرياً، وأباً رحيماً منصفاً، وحبيباً محبوب عشقته العقول والقلوب، ولا أحسب أحداُ من البشر نال من الحب والإعجاب ما ناله محمد رسول الله المختار صلى الله عليه وسلم من أصحابه، (مَا كَانَ شَخصٌ أَحَبُّ إِليهِمْ مِنْ رَسُولِ الله وَكَانُوا إِذَا رَأوه لَمْ يَقُوموا لِمَّا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِه لِذَلِكَ) [3].
ومن هذا المنطَلَقِ كان الصحابة رضي الله عنهم، يتشبهون بأفعال وأقوال النبي في سائر أمورهم من شدة محبتهم له، وامتثالاً لسنته الشريفة. يسيرون على نهجه، بخطى ثابتة، يتبعون أدق تفاصيل حياته، فيعباداتهم وسلوكهم اليومي، ومعاملاتهم المعيشية وقد أنزل لهم القرآن الكريم النهج القويم، هذا الفيض الرباني الذي غذى المواهب، وفجر العبقريات، ونمى ثقافة القوم، ووضحه لهم الرسول الكريم، بما أمره به ربه العظيم بعد أن اختار الأمة الوسط بين الأمم، واختار لها التشريع الوسط بين غلو اليهودية، وإفراط المسيحية.
فوسطية الإسلام تقتضي إيجاد شخصية إسلامية متزنة تقتدي بالسلف الصالح في شمول فهمهم واعتدال منهجهم وسلامة سلوكهم من الإفراط والتفريط، والتحذير من الشطط في أي جانب من جوانب الدين، والتأكيد على النظرة المعتدلة المنصفة والموقف المتزن[4].
إن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا الدين على أنه رهبانية أو دروشة، ولم يفهموا الإيمان والتقوى على أنها انقطاع عن الحياة، أو انشغال عن تنميتها بالتفرغ للشعائر، بل التزموا بمبدأ الوسطية امتثالاً لنهج دينهم القويم القائم على الاعتدال والوسطية.
والباحثة ستلقي الضوء على حياة مجموعة من الصحابة الأخيار، وإن كان السلف الصالح، جميعهم قدوة للخلف. وأول درس في التربية الاقتصادية تعلّمه الصحابة رضي الله عنهم هو المقاطعة الاقتصادية (حصار الشعب) في السنة السابعة من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت في شعب أبي طالب.
كان حصار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في شعب أبي طالب تمريناً على الصبر، وقد آتت هذه الوسيلة ثمارها في التغلب على الأزمات.
زاولت قريش سلاح المقاطعة الاقتصادية[5]، وضيّقت الحصار على المسلمين، حتى انقطع عنهم العون وقلّ الغذاء، وبلغ بهم الجهد أقصاه، وسُمع بكاء أطفالهم من وراء الشعب، وعضَّتهم الأزمات العصيبة. عانى الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نتيجة الحصار أو المقاطعة الاقتصادية من:
• أنهم لا يبيعون ولا يشترون.
• قطع أسباب الرزق عنهم.
• أنهم لا يجدون ما يأكلون وأطفالهم.
• الأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار.
• الجوع وسوء التغذية، حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الحاجة [6].
ولقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه في حصار الشعب، وبعد زوال الغمة، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة، وهنا بدأت مشكلة اقتصادية أخرى زيادة الأعباء الاقتصادية على عاتق الأنصار.
• ارتفاع نسبة الفقر في المدينة.
• عدم توفّر فرص العمل (المناسبة للمهاجرين).
• عدم كفاية الموارد الاقتصادية لتلبية حاجات السكان الجدد (المهاجرون).
• الحاجة إلى دور للسكنى للمهاجرين.
• وجود الثروات الثابتة في يد الأنصار.
فهل تدور عجلة الحياة الاقتصادية على أساس الثروات الثابتة في يد الأنصار وحدهم، بينما يكون المهاجرون عمّالاً لديهم؟!.
وما هي الحلول المقدّمة، والتدابير الاقتصادية المرئية لحل مشكلة ورود المهاجرين إلى المدينة؟![7]. فقاسم الأنصار أخوتهم المهاجرين المال والأرض والمسكن، ولقمة الطعام.
ووصل الأمر بالمهاجرين أن قالوا يا رسول الله: ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم، أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم [8].
عاش الصحابة الأخيار، المهاجرون والأنصار، حياة رفعة وإباء عن ملذات الدنيا الزائلة، وفق ميزان الاقتصاد والاعتدال في سائر معيشتهم. وللصحابة صور كثيرة في حياة الوسط والاعتدال التي استنوا بها من خير البشر عبادةً وسلوكاً وعمل. ولما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو المرجعُ الأولُ في البيانِ والمطَبِّقُ لحدودِ الله بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ، وكان صحابتُه الكرامُ خيرَ من اهتدى بهديه وفَهِمَ مضمونَ أمرِه ونهيِه، وجب علينا أن نعرج على بعض المواقف التربوية الهامة في حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم. ولنبدأ بالسبّاق في كلّ شيء، حبيب المصطفى وخليله، وصديقه الصدّوق.
أ- أبو بكر الصدّيق:
عاش أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع أسرته الكبيرة ببساطة وتواضع حتى بعد أن صار خليفة رسول الله. وحتى بعد أن فُتح للمسلمين أبواب الرزق والرَّغد، وبدأت خيرات الشام والعراق تفد إلى المدينة. بقي الصِّدِّيق يلتزم القناعة التي تربى عليها في مدرسة النبي الكريم.
ولم يكن الصِّدِّيق يلتزم القناعة لمجرد الزهد، بل كانت قناعته جزءاً من فلسفته... فهو يُقدس اللقمة الحلال، ويحاذر أن يُدخل جوفه كسرة فيها شبهة، وهو يرى أن الحلال ليس من الكثرة بحيث يتَّسع للإسراف؛ فإذا وُجد سرف، أو ترف، فاعلم أن ثمة سُبلاً للعيش غير مشروعة.
وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه: لا يعجبني الرجل يأكل رزق أيام في يوم واحد. كان إصراره عظيماً على ألا ينال من بيت المال إلا ما يكفيه وأهله بالمعروف. وما نال من المال وهو خليفة، ولا نال من مناعم الحياة إلا ما كان يأكل وأهله من جريش الطعام وإلا ما كانوا يلبسون من خشن الثياب[9].
ب- عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أمير المؤمنين، صهر رسول الله، الفاروق العادل، الذي حكم.. فعدل.. فأمن. فهو من الأئمة الذين يرسمون للناس خط سيرهم، ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذا الحياة، فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين، فما أحوج الأمة الإسلامية إلى الرجال الأكفاء الذي يقتدون بالصحابة الكرام ويجسّدون المعاني الساميةـ فيُحيونها بتربية أبنائهم عليها. جاعلين من الصحابة الأطهار نبراساً وقدوة لأبنائهم.
لقد حرم عمر رضي الله عنه نفسه من طيبات كثيرة، ومن مناعم لم يُحرمها الله عليه؛ لأنه كان يحمل في أمانة كاملة مسئولية القدوة، ولو شاء أن يظفر بالمناعم المباحة على كثرتها لظفر بها جميعاً، ولكنَّ بطولة روحه وعظمة نفسه، واستقامة نهجه حملته دائماً على أن يلتزم الكفاف، ويختار الشَّظف....
وهو القائل رضي الله عنه: والذي نفسي بيده، لو لا أن تنقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم، ولو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وأرفهكم عيشاً، ولنحن أعلم بطيب الطعام من كثير من آكليه، ولكننا ندعه ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، وإني لأستبقي طيباتي؛ لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوام: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعم بها".
هكذا كانت حياة الفاروق العادل لا ينام إلا غَباً.. ولا يأكل إلا تقوتاً.. ولا يلبس إلا خشناً..[10].
وفي خلافته سنة ثماني عشرة، كان أول عام الرمادة أصاب الناس محل وجدب ومجاعة تسعة أشهر،لم يأكل عمر بن الخطاب سمناً ولا سميناً حتى أحيا الناس، وكان يقول: لتمرنن أيها البطن على الزيت ما دام السمن يباع بالأواقي [11].
دخل عمر على ابنه، وعنده لحم، فقال له: ما هذا؟ قال: قرمنا إلى اللحم، [اشتدت شهوته إليه] فاشترينا منه بدرهم. قال: وكلما اشتهيت اللحم اشتريته؟ كفى بالمرء سرفاً أن يأكل كلما اشتهى[12].
وقد رُوي في سيرة عمر بن الخطاب إنه منع الناس في وقت ما من خلافته من أكل اللحم يومين متتالين في الأسبوع، حيث كان اللحم قليلاً لا يكفي الناس بالمدينة، فرأى علاجاً لذلك أن يمنع الذبح. وكان يأتي مَجْزَرَةُ الزبير بن العوام بالبقيع - ولم يكن بالمدينة سواها - فإن رأى من خرج عن هذا المنع، ضربه بالدرة، وقال له: هلا طويت بطنك يومين؟ و قال عمر رضي الله عنه: الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز؛ لأنه لا يبقى مع الفساد شيء، ولا يقل مع الإصلاح شيء[13].
هذا رجل تأدب على يد محمد رسول الله، ونهل من ينبوع علمه، وارتوى من عذب كلامه، وعلى هذا الهدي سار الفاروق رضي الله عنه يجوع، ويتقشف في مطعمه وملبسه، وهو يطالب أهله وذويه أن يرتفعوا دوماً إلى مستوى المسؤولية فيُعطوا كثيراً، ويأخذوا قليلاً، وأن يكونوا قدوة لغيرهم في العفاف والكفاف.
ت- عثمان بن عفان رضي الله عنه:
أما عثمان بن عفان رضي الله عنه الغني الحيّي الكريم، فقد كان سخياً معطاءً، اشترى بئر رومة، وجهز جيش العسرة، ووضع مال تجارته بين يدي النبي الشريفتين، طالباً التجارة الرابحة مع الله تعالى. تتألق روح العابد الأوَّاب في قدرته على الزهد والبساطة، فكثيراً ما كان يطبقها على حياته، وهو الذي تتدفق عليه الأموال، وينفقها باليمين والشمال. وقد كان يُطعم الناس طعام الإمارة، ويأكل هو الخلَّ والزيت[14].
اشتهر أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بأنه من أهل الغنى والثروة، ولكن مع هذه الشهرة فإنه قد رويت عنه أخبار تدل على أنه كان من الزاهدين في الدنيا، أن عمر وعثمان رضي الله عنهما دُعيا إلى طعام، فلما خرجا قال عثمان لعمر: قد شهدنا طعاماً لوددنا أنا لم نشهده، قال: لِمَ؟ قال: إني أخاف أن يكون صُنع مباهاة. فهذا فقه من عثمان رضي الله عنه بمجالات السخاء الإسلامي؛ فالسخاء في الإسلام لا يكون بالتفاخر بالكرم والتباهي بنوع الطعام أو كثرته، وإنما يكون ببذل المال من غير إسراف ولا خيلاء، مع شكر المنعم سبحانه وتعالى والتواضع للناس. وهذه النظرة من عثمان تعتبر من التزهيد بالجاه الدنيوي، وهذا يدل على أنه كان من الزاهدين في ذلك [15].
ث- علي بن أبي طالب:
منذ طفولته الباكرة، حمل الإسلام في قلبه. وحمل معه كل أعباء الرجال، وهو الرجل الذي تربى في بيت النبي الكريم، فكان ابناً وأخاً، وصهراً ونسباً، وخليفةً للرسول العظيم؛ فإي شرفٍ حظي به علي. ولقد قطع حياته وقضى أيامه. وحمل معه كل أعباء الرجال. وعاش كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: مخشوشن في سبيل الله، مَقتَ الترف من كل نفسه، ونأى عنه بكل قوته وعزمه. ذلك أنه فهم الإسلام وعاشه، وتعلّم منه أن الترف مشغلةُ الفارغين العاطلين [16].
وكان يعيش عيشة البسطاء الودعاء، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب [17]. [طَعامٌ جَشِبٌ: ومَجْشُوبٌ أَي غليظ خَشِنٌ ].
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشتري القميص بدرهمين، ويشتري الدرع بألفين.
بيّن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن من الفقه في الدين التزام صفة الاتزان والاعتدال في عرض أمور الدنيا ومحاولة إصلاح الناس، وذلك بأن يسير الداعية في خط وسط بين مقامي الخوف والرجاء، فلا ينطلق في تخويف الناس إلى الحد الذي يجعلهم يقنطون من رحمة الله، ولا ينطلق في ترغيب الناس إلى الحد الذي يجعلهم يأمنون من عذاب الله تعالى [18].
ج- عبد الله بن عباس رضي الله عنه:
وها هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، عندما مرض، قال له عثمان بن عفان: ألا أمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك..، قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً [19].
لم يكن ابن عباس رضي الله عنه في هذا الموقف ليرفض عطاء الخليفة، إنما رفضه جاء من تربية قرآنية محمدية، يعلّم من خلالها بناته، وبنات المسلمين بأن الرزاق هو الله سبحانه وتعالى، وإن الكفاف هو مبدأ صحابة رسول الله. هذا هو حال الصحابة جميعاً، وكذلك كان حال التابعين، يعيشون في تواضع في دنياهم، وإقبال على الآخرة، فحياتهم جسراً يعبرونه لأخرتهم. فكانوا يتجوزون في صلاتهم؛ يحتَجُّونَ في هذا الأمرِ. بفِعله ويحاولونَ أن يقتَدُوا به ويبذُلونَ قُصارى جهدِهم ليقتَرِبوا من كيفيةِ صلاتِه ويمتدحون من شابَهَتْ صلاتُه صلاةَ النبي، ويتبارَوْنَ فيما بينهم ليُثبِتُوا أيُّهم أعلمُ بها من الآخرين، فهذا يدُلُّ على أنهم أيقَنوا أن المرجعَ هو فعلُه وأن التخفيفَ الذي أمَرَ به هو عينُ صلاتِه. ولم تكن حياة الصحابيات أقل أهمية من حياة الصحابة، وهن أمهات المؤمنين، وأخوات المهاجرين، ونصيرات المجاهدين. فقد كن في نمط حياتهن خير عون لأزواجهن على مصاعب الحياة، وكن العفيفات المترفعات عن مباهج الدنيا وزخرفها. فعشن الصحابيات الطاهرات حياة تمثلت في الاعتدال والاقتصاد في سائر معيشتهن، فأية قدوة صالحة للنساء المسلمات في ذلك الزمان وإلى آخر الزمان.. إذا كانت أمهات المؤمنين مسرفات يبحثن عن حظوظ الدنيا وشهواتها وزينتها..؟ ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29].
قبسات أضأنا جانباً منها.. إنهم الصحابة الذين آمنوا بالرسول وساروا معه، آمنوا بأن القرآن دستورهم العظيم، ومحمداً نبيهم الكريم، وسنته معيارهم القويم. فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين، وصحابته الغّر الميامين، هي المذكرة التفسيرية والترجمة العلمية لنصوص الشريعة. وفي عصرنا الراهن لا تستقيم الحياة إلاّ بالعودة إلى تطبيق السنّة النبوية الشريفة، واتباع نبيها القدوة، وصحابته الأسوة، سيما وأن حياة الصحابة مليئة بالمواقف التربوية الهادفة، وفي سيرة الرسول الكريم، وسيرة صحابته النجوم المتلألئة، عبر وعظة لكل ذي لُب.
لأن الاعتدال ينظم كلّ شؤون المسلم في هذه الحياة، والاعتدال هو الطريق الوسط بين الإفراط والتفريط وهما الخلقان الذميمان، فالاعتدال في العبادات أن تخلو من الغلو والتنطع والإهمال والتفريط، وفي النفقات الحسنة بين السيئتين: فلا إسراف ولا تقتير، ولكن القوام بين الإسراف والتقتير. وفي اللّباس، حدٌّ بين الفخر والمباهاة، ولباس الخشن والمرقَّعات، وهو في المشي حدٌّ بين الاختيال والتَّكبر، وبين المسكنة والتذلُّل، وهو في كل مجال وسطٌ لا تفريط ولا شطط [20].
[1] البخاري، محمد بن إسماعيل (ت 256هـ /850 م)، الجامع الصحيح المختصر، تحقيق وتعليق د. مصطفى ديب البغا، بيروت، دار ابن كثير، ط3، 1407ه/ 1987 م، [1- 6]، كتاب الرقاق (84)، باب ما يحذر من زهرة الحياة الدنيا والتنافس بها( 7)، حديث (6064)، 5، 2362.
[2] شحاته، حسين حسين، الاقتصاد الإسلامي بين الواقع والتطبيق، 45.
[3] ابن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، حديث (12367)، 3، 132.
[4]الفريح، مازن بن عبد الكريم، الرائد دروس في التربية والدعوة، جدة، دار الأندلس الخضراء، ط1، 1423ه/ 2002م، 9.
[5] المقاطعة الاقتصادية، يقصد بالمقاطعة الاقتصادية: قطع أي علاقة اقتصادية، من مثل: الحظر البحري، الحظر الجوي، تجميد الأرصدة، منع الاستيراد والتصدير، إيقاف المساعدات والمعونات عن الدولة المفروض عليها الحظر.
[6] الرماني، زيد بن محمد، معالم التربية الاقتصادية المشكلات والتدابير الوقائية، الرياض، دار الورقات العلمية للنشر والتوزيع، 1426ه/ 2005م، 8 وما بعدها.
[7] خالد، خالد محمد، خلفاء الرسول، 11.
[8] المرجع، السابق، 13.
[9] خالد، خالد محمد، خلفاء الرسول، بيروت، دار الكتاب العربي، ط3، 1405ه/ 1985م، 120.
[10] خالد، خالد محمد، خلفاء الرسول، 176 و 184.
[11] ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع أبو عبد الله البصري الزهري ( ت230ه/845م)، الطبقات الكبرى، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار صادر، ط1، 1387ه/1968 م، [ 1- 8]،3، 283 و313.
[12] يُنظر، ابن أبي الدنيا، إصلاح المال، 1، 350.
[13] الخلال، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي (ت311ه/ 904م). الحث على التجارة والصناعة العمل، تحقيق الدكتور عبد الفتاح أبو غدة، بيروت، دار البشائر ط1، 1415هـ/ 1995م، [1-2 ]، 1، 15.
[14] يُنظر، الرياض النضرة في مناقب العشرة، 1، 216.
[15] الصلابي، علي محمد محمد، سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه، اعتنى به أسامة بن الزهراء، ط1،1427هـ /2006م، 134.
[16] خالد، خالد محمد، خلفاء الرسول، 485.
[17] الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبد الله ( ت430هـ/ 1019م)، حلية الأولياء، بيروت، دار الكتاب العربي، ط4، 1405هـ/ 1985م، [1 - 10]، 1، 84.
[18] الصلابي، علي محمد، سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، اعتنى به أسامة بن الزهراء، ط1، 1426هـ / 2005م، 1،321
[19] عمران، أحمد علي محمد، رجال حول الرسول، عمان، دار البيت العتيق، ط1، 1424هـ/ 2004م، 138.
[20] الجزائري، أبو بكر جابر، منهاج المسلم، بيروت، دار الفكر، 1412هـ/1992م، 166.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم