عناصر الخطبة
1/ عناية الإسلام ببناء المجتمع المترابط المتلاحم 2/ من قطيعة الرحم عقوق الوالدين 3/ انتشار أمراض اجتماعية بسبب القطيعة 4/ تعريف الأرحام 5/ طرق صلة الأرحام 6/ فضل صلة الرحم 7/ الصدقة على ذي رحم 8/ عقوبات قاطع الرحم 9/ الفرق بين الواصل والمكافئ 10/ الرحم الكافر والرحم البعيداقتباس
فالمسلم عندما يصل أرحامه يقوم بأمر أوجبه الله تعالى عليه، يطلب به الأجر والمثوبة من ربه لا من أرحامه؛ لذلك فالصلة الحقيقية هي التي تبتدئ بالإحسان دون انتظار مكافئ من القول أو الفعل صادر من ذوي القربى، وأعظم منها الصلة التي تستمر على الرغم من إساءة ذوي القربى ومقابلة إساءتهم بالإحسان. ولا شك -عباد الله- أن ذلك شديد على النفس، ولا يقدر عليه إلاّ من وفقه الله ..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وتمسكوا من دينه بالعروة الوثقى، فبها تكون النجاة في الأولى والأخرى.
إخوة الإسلام: لقد حث الإسلام أفراده على بناء مجتمع إسلامي قوي مترابط، لبناته متماسكة، بناؤه محكم، علاقات أفراده متينة، مثله كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولكن لتفريط بعض أفراده في التمسك بما أمر الله به أدّى ذلك إلى تفشي داء عضال في جسد الأمة الإسلامية قد بدأت أعراضه تظهر علينا.
فمن تلك الأعراض: عقوق الوالدين؛ فكم من ولد يهينهما ويسخر منهما ويحتقرهما، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، ونلحظ انتشار الأنانية والكبر والحسد والبغضاء بين الإخوة والأخوات والأعمام والأخوال وسائر أفراد المجتمع إلا من رحم الله، وكثرت النزاعات والخصومات بين الأهل والأقارب، وذلك لأتفه الأسباب، حتى أبدى بعضهم لبعض الشر والعداء، وما سبب ذلك إلا بُعْد الناس عن صلة الأرحام والإكثار من قطعها دون تفكر في عواقبها السيئة العظام، فهل لنا من وقفة نتذاكر فيها فضل صلة الأرحام والواجب علينا تجاه أرحامنا، فنؤدي لهم الحق الذي علينا تجاههم. فمن هم الأرحام الذين يجب علينا صلتهم؟! فمعرفتهم أمر لا بد منه لصلتهم.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "تعلموا أنسابكم ثم صلوا أرحامكم".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "احفظوا أنسابكم تصلوا أرحامكم".
وذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في فتح الباري بيان الأرحام فقال: "يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا محرم أم لا".
وقال الشيخ ابن عثيمين: "الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وابنته وكل من كان بينه وبينهم صلة من قِبل أبيه أو من قِبل أمه أو من قِبل ابنه أو من قِبل ابنته".
وتكون صلتهم -عباد الله- بوسائل كثيرة وطرق عديدة؛ منها: السلام والتحية والهدية والمعاونة والمجالسة والمكالمة وبالتلطف والإحسان إليهم.
وقال ابن عابدين: "وإن كان غائبًا يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على المسير كان أفضل".
وتكون كذلك بالتناسي عن الزلات والصفح عن الخطيئات وتفقد الأحوال والإنفاق عليم بالمال وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وتحمل قطيعتهم، وذلك يكون إذا كانوا أهل استقامة، أما إذا كانوا فجارًا فعلى الواصل بذل الجهد في وعظهم ثم مقاطعتهم مع الإعلام أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب إلى أن يعودوا إلى الطريقة المثلى". ذكر ذلك القرطبي مختصرًا.
إن صلة الرحم -عباد الله- سبب في دخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة، اقرؤوا قول الله تعالى عن المؤمنين: (وَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِلْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:21، 22].
وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله: أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل رحمك"، فلما أدبر قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة".
وروى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله".
وصلة الرحم سبب لكثرة الرزق وطول العمر وحصول البركة لصاحبه بعمل الصالحات فيه؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سره أن يبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه". متفق عليه.
ومن بركة صلة الرحم وفضلها أن أجر الصدقة على المحتاج من ذي القرابة والرحم مضاعفة على أجر الصدقة على المحتاجين من غيرهم، فهي للرحم المحتاج صدقة وصلة، ويشهد لذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وحديقة، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92]. قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إن الله -تبارك وتعالى- يقول: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92]، وإن أحب مالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقه لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها -يا رسول الله- حيث أراك الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وإني سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيرًا أو ليصمت". رواه البخاري ومسلم.
عباد الله: إذا كان لصلة الرحم كل هذا الأجر في الدنيا وفي الآخرة، فلا ريب أن لقاطع الرحم عقوبة، تعدل في شدتها شدة منكرة وإثمه الذي فعله، وذلك لما يترتب على قطع الرحم من تقطيع لأواصر المجتمع المسلم وتفكيك لعراه، وخلخلة لبنيانه، وانفراط لعقده؛ لذا فقد جاء التهديد والوعيد والعقوبة الشديدة لمن قطع رحمه في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه العقوبة -إخوة الإسلام- منها ما هو معجل في الدنيا لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".
وتتمثل هذه العقوبة العاجلة في عدم قبول الأعمال الصالحة؛ إذ ترد على صاحبها، وهي خسارة فادحة للمسلم.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم". حديث حسن رواه الإمام أحمد.
وتعظم الخسارة لمن أصرّ على قطع رحمه بطرده من رحمة الله؛ حيث يدخل تحت لعنة الله تعالى والعياذ بالله، ولا خير في عمل وكسب من دون رحمة الله تعالى وحفظه وبركته؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى. قال فذلك لك". ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا إن شئتم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ) [محمد:22، 23]".
ثم تكون العقوبة الأخروية -إخوة الإسلام-، وإنها لأعظم عقوبة يعاقب بها إنسان قط، وهي الحرمان من الجنة، ووالله ليس لمن حرم من الجنة من موئل إلا النار إلا من رحم الله، فقد ورد عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يدخل الجنة قاطع". قال سفيان: يعني قاطع رحم. رواه البخاري ومسلم.
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن -عز وجل-، فمن قطعها حرّم الله عليه الجنة". وهذا في حق من استحل قطيعة الرحم والعياذ بالله.
فاتقوا الله -عباد الله-، واحذروا قطيعة الرحم، وقوموا بصلتها ابتغاء مرضاة الله تعالى ورجاء الأجر والثواب منه -جل في علاه-، ولا تقابل من قطعك بالقطيعة، واصبر واحتسب، وكما قيل:
وإن الـذي بينـي وبين بني أبـي *** وبيـن بني عمـي لمختلفُ جـدًّا
إذا أكلوا لحمي وفـرت لحومهـم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجـدًا
وإن ضـيعوا غيبي حفـظت غيوبهم *** وإن هم هووا غيِّي هويت لهم رشدًا
وليسوا إلـى نصري سراعًا وإن هم *** دعوني إلى نصـر أتيتهـم شـدًّا
ولا أحمل الحقـد القديـم عليهـم *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالـي إن تتابع لـي غنى *** وإن قـل مالـي لم أكلفهـم رفدًا
وإني لعبد الضـيف ما دام نـازلاً *** وما شيمة لـي غيرها تشبه العبـدا
جعلنا الله وإياكم ممن يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الملك القدوس السلام، الذي أمر بصلة الأرحام، وجعلها من خصال أهل التقى والإسلام، الذين وعدهم بالجنة دار السلام.
والصلاة والسلام على نبينا محمد أتقى الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وصلوا أرحامكم كما أمركم بذلك ربكم -جل وعلا-، واحذروا قطعها -يرحمكم الله-.
إخوة الإسلام: وبعد أن سمعنا فضل صلة الرحم وعقوبة قاطعها نورد تساؤلات قد تمر على أذهان البعض من أفراد المجتمع، فمن ذلك من يقول: إن رحمي لا تستحق الصلة لأنهم يبادلونني عن الحسنة بالسيئة، وعن الصلة بالقطيعة، فما هو موقفي منهم؟! وجواب ذلك ما أثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيما رواه البخاري: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها".
فالمسلم عندما يصل أرحامه يقوم بأمر أوجبه الله تعالى عليه، يطلب به الأجر والمثوبة من ربه لا من أرحامه؛ لذلك فالصلة الحقيقية هي التي تبتدئ بالإحسان دون انتظار مكافئ من القول أو الفعل صادر من ذوي القربى، وأعظم منها الصلة التي تستمر على الرغم من إساءة ذوي القربى ومقابلة إساءتهم بالإحسان.
ولا شك -عباد الله- أن ذلك شديد على النفس، ولا يقدر عليه إلاّ من وفقه الله، قال الشاعر في هذا:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة *** على النفس من وقع الحسام المهندِ
ولا ريب أن مثل هذا الواصل يستحق من الله تعالى كل عون ونصر وتأييد؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون علي؟! فقال: "إن كنت كما قلت فكأنما تسفُّهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك". رواه مسلم. ومعنى: "تسفهم المل" أي: كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم. ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم الفظيع في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه.
والبعض يسأل: وإن كانت القرابة كافرة فهل تجوز صلتهم؟! فيقال: إن كانوا ممن يناصبون الإسلام العداء، بأية صورة من صور العداوة وأساليبها، فلا تجوز صلتهم، بل تجب مقاطعتهم ومعاداتهم، وإلا فلا مانع من صلتهم والإحسان إليهم من غير أن يكون لهم ولاء في القلب، قال تعالى: (لاَّ يَنْهَـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
وقد يسأل سائل فيقول: كيف نستطيع أن نصل أرحامنا وهم كثر وفي أماكن متفرقة، ونحن في زمن تزاحمت فيه الأعمال والحقوق والواجبات، ففي هذه الحالة يبدأ المسلم بالأولى فالأولى، والأقرب فالأقرب، ويمكن الجمع بينهم بحسب الحال، فمنهم من يمكن زيارته لقربه منه، ومنهم من يوصل بالمراسلة بالبريد، ومنهم من يتصل به بالهاتف، ومنهم من يهدى إليه بعض الهدايا، ومنهم من يسافر إليه، وذلك باستغلال أيام الإجازة والعطل في صلة الأرحام وزيارتهم والأنس بهم، ومن يتحرّ الخير يعطه، وكما قال تعالى: (فَتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16]، فإذا بذل الإنسان جهده في صلة رحمه وفقه الله تعالى لذلك ويسر أمره وأعانه.
فاتقوا الله -عباد الله- في أنفسكم، وصلوا أرحامكم، واحذروا قطعها، وتذكروا دائمًا ما أعده الله تعالى للواصلين من الثواب، وللقاطعين من العقاب.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم