سيف الله في أرضه

الشيخ سعد بن عبد الله السبر

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/ الصدق من الفطرة 2/فضائل الصدق وثمراته   3/منزلة الصادقين 4/حقيقة الصدق 5/أقوال السلف في الصدق وذم الكذب.

اقتباس

وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ), وقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ), فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق, ومخرج الصدق, ولسان الصدق, وقدم الصدق, ومقعد الصدق...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله أحب الصادقين وجعلهم في عليين, أحمد -سبحانه- وأشكره على جزيل نعمائه وسابغ عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ولا ند ولا شبيه ولا مثيل ولا نظير، وأشهد أن محمد عبده ورسوله, قائد الصادقين, وإمام الغر المحجلين, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله فإنه من اتقاه وفاه, ومن أقرضه جزاه, ومن شكره زاده, واجعلوا التقوى نصب عينيكم وجلاء قلوبكم (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].

 

أيها الناس: إن الله -سبحانه- فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفة والإحسان, ومقابلة النعم بالشكر, وفطرهم على استقباح أضدادها, (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [الروم: 30], وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء؟" ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).

 

أيها المؤمنون: إن الله فطر الناس على حب الصدق ورّغبهم فيه, وجعل منزلته عالية, وطريقه الأقوم, من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين, وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان, وسكان الجنان من أهل النيران, وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه, ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه, من صال به لم ترد صولته, ومن نطق به علت على الخصوم كلمته, فهو روح الأعمال ومحك الأحوال, والحامل على اقتحام الأهوال, والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال, وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين, ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين.

 

أيها الموحدون: إن الله أمر أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين, وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين, فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119], وقال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69], فهم الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقا.

 

ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده؛ إحسانا منه وتوفيقا, ولهم مرتبة المعية مع الله, فإن الله مع الصادقين, ولهم منزلة القرب منه إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين, وأخبر تعالى أن من صدقه فهو خير له فقال: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد: 21], وقسم الله -سبحانه- الناس إلى صادق ومنافق فقال: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [الأحزاب: 24].

 

والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب, فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر, وأخبر -سبحانه- أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة: 119], وقد أمر الله تعالى رسوله: أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء: 80].

 

وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء: 84], وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس: 2], وقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 54، 55].

 

فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق, ومخرج الصدق, ولسان الصدق, وقدم الصدق, ومقعد الصدق, وحقيقة الصدق في هذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى اللّه.

 

أيها الإخوة: إن نبيكم خير الصادقين وأفضل النبيين وسيد المرسلين حثّ على الصدق, وما كذب حتى في جاهليته؛ لذا لقبوه بالأمين, وجعلوه حاكما بينهم في بناء الكعبة, وجاءت أحاديثه في الصدق, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ, وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا, وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ, وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".

 

وعن الحسن بن علي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك, فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة". وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ فَقَالَ: "نَعَمْ", فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ فَقَالَ: "نَعَمْ", فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ فَقَالَ: "لَاَ".

 

أيها الأحبة: أما الصدق وحقيقته فقيل: موافقة السر النطق, وقيل: استواء السر والعلانية, يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته, كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه, وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة, وقيل: كلمة الحق عند من تخافه وترجوه, وقال الجنيد: حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب, وقيل: ثلاث لا تخطئ الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة.

 

إخوة الدين: إن آية الإيمان أن يُؤثر الصدق حيث يضر على الكذب, قال عمر -رضي الله عنه-: "عليك بالصدق وإن قتلك", وقال عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ: "لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَتُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ؛ حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ كُلُّهُ فَيُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَاذِبِينَ", وقال الفضيل: "ما تزين الناس بشيء أفضل من الصدق, والله -عز وجل- يسأل الصادقين عن صدقهم, منهم عيسى بن مريم -عليه السلام-, كيف بالكذابين المساكين؟! ثم بكى وقال: أتدرون في أي يوم يسأل الله -عز وجل- عيسى بن مريم -عليه السلام-؟ يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين آدم فمن دونه, ثم قال: وكم من قبيح تكشفه القيامة".

 

وقال ذو النون: "من تدرع بدرع الصدق؛ قوي على مجاهدة عسكر الباطل, واعتدل خوفه ورجاؤه, وحسن في الآخرة مثواه", وقال أحمد: "من أحب أن يكون الله معه في جميع الأحوال فليلزم الصدق, فإن الله مع الصادقين", وعن سهل -رحمه الله-: "قال لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره". وعن ذي النون قال: "الصدق سيف الله ما وضع على شيء إلا قطعه".

 

 

 

المرفقات

الله في أرضه

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات