سيرة ذي النورين -رضي الله عنه- (3) فتنة القتل

الشيخ خالد القرعاوي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه 2/ أسباب انتشار الفتن وكثرتها في عهد سيدنا عثمان 3/ حلم عثمان وصبره على أذى الخوارج 4/ موقف الصحابة من الفتنة وحصار دار عثمان 5/ استشهاد عثمان بن عفان على يد الخوارج.

اقتباس

عِنْدَمَا تَمُوجُ الفِتَنُ، وَتَخْتَلِطُ الأُمُورُ، وَيُلَبَّسُ الحَقُّ بِالبَاطِلِ؛ فِإنَّ مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ لِلمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، فَيَخْرُجَ مِنْ الدُّنْيا وَقَدْ سَلِمَ قَلْبُهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ فَمَا أُشْرِبَهَا ولا مَالَ إِلَيْهَا، وَسَلِمَتْ جَوَارِحُهُ فَلَمْ تَتَلَطَّخْ يَدُهُ بِدَمٍ حَرَامٍ، وَلَمْ يَقَعْ لِسَانُهُ فِي أَعْرَاضِ إِخْوَانِهِ، وَقَطْعَاً فَلَنْ يَكُونَ شَرِيكَاً فِي تَأْجِيجِ فِتْنَةٍ وَفُرْقَةٍ وَشَرٍّ. وَإذَا مَا اسْتَزَلَّهُ شَيطَانٌ استَغْفَرَ رَبَّهُ وَأَنَابَ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ المُتَفرِّدِ بِالخَلْقِ والإيجَادِ، لا رادَّ لِمَا أَرَادَ، أَمَرَنَا بَالصَّلاحِ وَالإصلاحِ، وَحَذَّرَنا مِنْ الفَسَادِ والإفْسَادِ، نَشهَدُ ألاَّ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، شَهَادَةً تُسعِدُ صَاحِبَهَا فِي الدُّنْيَا وَيومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ.

 

وَنَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّدًا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ بَعَثَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلعِبَادِ، وَالهَادِي إلى سَبِيلِ الرَّشَادِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَمْجَادِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُم وَمَنْ تَبِعَهُم بِإحْسَانٍ وإيمَانٍ إلى يَومِ التَّنَادِ.

 

أمَّا بَعدُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

عِبَادَ اللهِ: عِنْدَمَا تَمُوجُ الفِتَنُ، وَتَخْتَلِطُ الأُمُورُ، وَيُلَبَّسُ الحَقُّ بِالبَاطِلِ؛ فِإنَّ مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ لِلمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، فَيَخْرُجَ مِنْ الدُّنْيا وَقَدْ سَلِمَ قَلْبُهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ فَمَا أُشْرِبَهَا ولا مَالَ إِلَيْهَا، وَسَلِمَتْ جَوَارِحُهُ فَلَمْ تَتَلَطَّخْ يَدُهُ بِدَمٍ حَرَامٍ، وَلَمْ يَقَعْ لِسَانُهُ فِي أَعْرَاضِ إِخْوَانِهِ، وَقَطْعَاً فَلَنْ يَكُونَ شَرِيكَاً فِي تَأْجِيجِ فِتْنَةٍ وَفُرْقَةٍ وَشَرٍّ. وَإذَا مَا اسْتَزَلَّهُ شَيطَانٌ استَغْفَرَ رَبَّهُ وَأَنَابَ.

 

وَكُلُّكُمْ يَعْلَمُ أنَّ الْفِتَنَ لا تَبْدَأُ عَظِيمَةً ولا كَبِيرَةً، وَلَكِنَّهَا تَبْدَأُ مُلْتَبِسَةً مُحَيِّرَةً، ثُمَّ تَكْبُرُ شَيئَاً فَشَيئَاً؛فَمَنْ سَارَع فِيهَا مَلَكَتْهُ وَسَيَّرتْهُ، وَمَنْ شَارَكَ فِيها أَوْقَعَتْهُ وَأهْلَكَتْهُ.

 

أيُّها المُؤمِنُونَ:  تَوَقَّفْنَا فِي سِيرَةِ ثَالِثِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَزَوجِ ابْنَتَيْ رَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-، وَمَنْ اشتَرى الجَنَّةَ مَرَّتَينِ! فِي أَمِيرِ البرَرَةِ وَقَتِيلِ الفَجَرَةِ، فِيمَنْ بُشِّرَ بالجَنَّةِ، فِيمَنْ جَمَعَ الأُّمَّةَ والقُرَآنَ! نَعَمْ إنَّهُ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ عُثْمَانُ الحَيَاءِ، وَالصِّدْقِ وَالبَذْلِ، عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضَاهُ-.

 

وَقَبْلَ أنْ نَتَحَدَّثَ عَنْ الفِتْنَةِ وَأَحَدَاثِهَا، لابُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وَاقِعِ المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، حتى لا نُلْقِ لَومَاً على أحَدٍ، ولا بُدَّ كَذلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ تَوَجُّهَاتِ وَسِيَاسَاتِ خَلِيفَةِ المُسلِمينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-.

 

عِبَادَ اللهِ: الذي يَقْرأُ أحْدَاثَ الفِتْنَةِ يَجِدُ أنَّ مُؤامَرَةً كُبْرَى جَرَى التَّخْطِيطُ لَهَا بِإحْكَامٍ، مِنْ مَجُوسَ وَنَصَارَى، وَيَهُودَ وَمُنَافِقينَ!  

 

ألا فَلْنِعْلَمُ يَا كِرامُ: أنَّ مِنْ أهَمِّ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الفِتْنَةِ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- ما يَلِي: انْتِشَارُ الرَّخَاءِ وَتَقَاطُرُ الأَمْوَالِ بِأَيْدِي النَّاسِ مِمَّا جَعَلَ بَعْضَهُمْ يَنْشَغِلُ وَيَفْتَتِنُ! حتَّى صَارَ تَنَافُسٌ وَبَغْضَاءُ، بَينَ مَنْ لَمْ يَصْقُلِ الإِيمَانُ قُلُوبَهُمْ! خَطَبَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- النَّاسَ فَقَالَ: "أَلا لا تُبْطِرَنَّكُمُ الفَانِيَةُ، وَلا تُشْغِلَنَّكُم عَنْ البَاقِيَةِ، وَاحْذَرُوا أَحْدَاثَ الدَّهْرِ المُغِيِّرِ، والْزَمُوا جَمَاعَتَكُم، وَلا تَتَفَرَّقُوا شِيَعَاً وَأَحْزَابَاً".

 

عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الفِتْنَةِ طَبِيعَةُ التَّحَوُّلِ الاجْتِمَاعِيِّ فِي عَهْدِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- فَقَدْ حَدَثَتْ تَغَيُّرَاتٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ عَمِيقَةٌ، ظَلَّتْ تَعْمَلُ بِصَمْتٍ وَقُوَّةٍ خَاصَّةً النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ خِلافَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-؛ فَقَدْ دَخَلَ على الدَّولَةِ الجَدِيدَةِ، أَجْنَاسٌ، وَلُغَاتٌ، وَثَقَافَاتٌ، وَعَادَاتٌ، وَمُعْتَقَدَاتٌ، لَيسُوا كَالصَّحَابَةِ، مِمَّنْ تَلَقَى تَرْبِيَةً كَافِيَةَ عَلى يَدِ رَسُولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-.

 

مِنْ الأسبَابِ يا رَعاكُمُ اللهُ: أنَّهُ حِينَ تَوَقَّفَتْ الفُتُوحَاتُ فِي أَوَاخِرِ عَهْدِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- وَتَوَقَّفَتِ الغَنَائِمُ عَلى إِثْرِهَا، صَارَ الرَّعَاعُ وَالأَعْرَابُ يَتَسَاءلُونَ: عَنْ الغَنَائِمِ القَدِيمَةِ؟ فَانْتَشَرَتْ شَائِعَاتٌ بَاطِلَةٌ ضِدَّ خَلِيفَةِ المُسْلِمينَ!

 

أتَدْرُونَ يا عِبَادَ اللهِ: مَنْ كَانَ يَتَولَّى إدَارَةَ وَتَدْبِيرَ تِلْكَ المُؤامَرَاتِ إنَّهُ اليَهُودِيُّ عَبْدُ اللهِ بنُ سَبَأٍ الذي قَدِمَ مِن اليَمَنِ فَدَخَلَ فِي الإِسْلامِ ظَاهِرًا وانْتَقَل فِي البِلادِ لِيَنْشُرَ سُمُومَهُ! وِمِمَّا قَالَهُ لِلرَّعاعِ والهَمَجِ: اْنَهَضُوا فِي أَمْرِكُمْ، وَاطْعَنُوا بِأُمَرَائِكُمْ وَوُلاتِكُم الذينَ يُعَيِّنِهُمُ الخَلِيفَةَ، وَأَظْهِرُوا أنَّكُمْ آمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ نَاهُونَ عَنْ المُنْكَرِ لِتَستَمِيلُوا النَّاسَ إِلَيكُمْ!

 

حِينَهَا صَارَ مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الفِتْنَةِ أنَّهُم استَخْدَمُوا إِشَاعَةَ الأَرَاجِيفِ، وَالتَّحْرِيضِ وَالمُنَاظَرَةِ وَالمُجَادَلَةِ لِلْخَلِيفَةِ أَمَامَ النَّاسِ، وَالطَّعْنِ بِالوُلاةِ، حَتَّى تَنَادوا مِنْ البَصْرَةِ وَالكُوفَةِ وَمِصْرَ وَمُنَافِقِّي المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ واجتَمَعُوا بِالمَدِينَةِ، وَأَوْهَمُوهُم أَنَّهُم جَاءُوا بِدَعْوَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ، فَصَارُوا يُكَبِّرُونَ، وَيُنَاظِرُونَ وَيُجَادِلُونَ ويُطالِبُونَ بِاستِبْدَالِ وُلاةٍ وَعَزْلِهِم، ثُمَّ تَطَوَّرُوا بِمُطَالَبَةِ خَلِيفَةِ المُسْلِمينَ أَنْ يَتْرُكَ الخِلافَةَ!

 

وَلِسَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَينَ دَورُ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ؟ وَمَا دَورُ الخَلِيفَةِ وَهُوَ يَرى هَذِهِ الشِّرْذَمَةَ تَعِيثُ فَسَادَاً وإفْسَادَاً؟

 

فَالحَقُّ يا مُؤمِنُونَ: أنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَألُوا جُهْدَاً فِي دَحْرِهِمْ والتَّحْذِيرِ مِنْهُم، لَكِنَّ عَدَدَ المُتَمَرِّدِينَ كَثِيرٌ فَعَلى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ أنَّهُم كانوا أكثر من أَلْفي خَارِجِيٍّ، وَعَدَدُ المَوْجُودِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي المَدِينَةِ قُرَابَةَ السَّبْعِ مِائَةِ، فَلَيسَ فِي المَدِينَةِ جَيشٌ لِلدِّفَاعِ عنها؛ فَمُعْظَمُ الجُيُوشِ فِي الثُّغُورِ. وَعَدَدٌ مِنْهُم في الحَجِّ. زِدْ على ذَلِكَ أنَّ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- لَمْ يَرْضَ أنْ يُقَاتَلَ أحَدٌ بِسَبَبِهِ فَكَانَ حَرِيصَاً على حَقْنِ الدِّمَاءِ.

 

قَالَ ابنُ تَيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: "وَمِنْ المَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ عُثمَانَ كَانَ مِنْ أَكَفِّ النَّاسِ عَنْ الدِّمَاءِ، وَأَصْبَرِ النَّاسِ عَمَّنْ نَالَ مِنْ عِرْضِهِ،  وَعَلى مَنْ سَعَى فِي دَمِهِ وَإِرَادَةِ قَتْلِهِ، وَقَدْ جَاءَ المُسلِمُونَ يَنْصُرُونَهُ وَيُشِيرُونَ عَلَيهِ بِقِتَالِهِم، وَهُوَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالكَفِّ عَنْ القِتَالِ وَيَأْمُرُ مَنْ يُطِيعُهُ أَلاَّ يُقَاتِلَهُم، فَأشَاروا عليهِ بِالذَّهَابِ لِمَكَّةَ، فَقَالَ: "لا أَكُونُ مِمَّنْ أَلْحَدَ فِي الحَرَمِ، فَقَالُوا: تَذْهَبُ لِلشَّامِ؟ فَقَالَ: لا أُفَارِقُ دَارَ هِجْرَتِي، فَقَاتِلْهُم، فَقَالَ: لا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ مُحمَّدَاً فِي أُمَّتِهِ بِالسَّيفِ، فَكَانَ صَبْرُ عُثْمَانَ حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَعْظَمِ فَضَائِلِه عِنْدَ المُسْلِمِينَ".

 حَقَّاً: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35].

 

أقَولُ ما سَمِعْتُم واستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم فَاستَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.  

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمدُ للهِ كَتَبَ البَلاءَ عَلَى المُؤمِنِينَ، جَعَلَ أَشَدَّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءَ وَالمُرْسَلِينَ،  نَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَعَد الصَّابِرِينَ بِأَجْرٍ ثَمِينٍ، وَنَشهَدُ أَنَّ نَبِيَّنا مُحمَّدَاً عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ قُدْوَةُ الصَّابِرِينَ وَإِمَامُ الشَّاكِرِينَ، اللهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِكْ عَلَيهِ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِه المَهْدِيِّينَ، وَالتَّابِعينَ لَهُمْ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحسَانٍ وإيمَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ.

 

أمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب ــ 70].

 

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- على يَقِينِ بِقَولِ النَّبيِّ الكَرِيمِ –صلى الله عليه وسلم- أنَّ بَلوى سَتُصِيبُهُ، فَكَانتْ تِلْكَ الكَلِمَاتُ أَمَامَ عَينَيهِ دَوْمَاً وَأَبَدَاً، سَيَعْمَلُ مِنْ أَجْلِهَا مُحَافِظَاً على تَمَاسُكِ خِلافَةِ المُسْلِمينَ وَحَقْنِ دِمائِهِمْ وإخمَادِ الفِتَنِ بِينَهُمْ.  

 

إلاَّ أنَّ الخَوارِجَ الأنْذَالَ استَغَلُّوا سَلامَةَ صَدْرِهِ وَحِلْمِهِ، وَفِدَائِيَّتَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ!

 

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ حَاصَرَ المَتَمَرِّدُونَ المَدِينَةَ النَّبَويَّةَ، وَدَارَ الخِلافَةَ الإسلامِيَّةَ، فَكَانَ عُثْمَانُ والصَّحابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الخُرُوجِ للصَّلاةِ، أوَّلَ الأمْرِ.

 

وَكَانَتْ آخِرُ خُطْبَةٍ أَلَقَاها قَالَ فِيها: "إنَّ اللهَ إِنَّمَا أَعطَاكُم الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُم الدُّنْيَا لِتَرْكَنُوا إليها، فَإنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وإنَّ المَصِيرَ إلى اللهِ، واتَّقُوا اللهَ فَإِنَّ تَقْوَاهُ جُنَّةٌ، والْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ ولا تَصِيرُوا أَحْزَابَاً، قَالَ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا). يَا أَهَلَ المَدِينَةِ: إِنِّي أَسْتَودِعُكُمُ اللهَ، وَأَسْأَلُه أَنْ يُحْسِنَ عَلَيكُمْ الخِلافَةَ مِنْ بَعْدِي، وَإِنِّي واللهِ لا أَدْخُلُ عَلى أَحَدٍ بَعْدَ يَومِي هَذا، حَتى يَقْضِىَ اللهُ فِيَّ قَضَاءَهُ، وَلأَدَعَنَّ هَؤُلاءِ الخَوَارِجَ وَرَاءَ بَابِي، وَلا أُعْطِيهم شَيْئَاً يَتَّخِذُونَهُ عَلَيكُم دَخَلاً فِي دِينٍ أَو دُنْيَا، حتَّى يَكُونَ اللهُ هُو الصَّانِعَ فِي ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، وَآمُرُ أَهْلَ المَدِينَةِ بِالرُّجُوعِ وَأُقْسِمُ عَلَيهم" فَرَجَعُوا إلاَّ نَفَراً يَسِيرَاً جَلَسُوا عَلَى بَابِهِ، وَلَزِمَ عُثْمَانُ دَارَهُ. وَشَدُّوا علَيهِ الحِصَارَ حتَّى مَنَعُوا عَنْهُ الطَّعَامَ والشَّرابَ!

 

وَفِي آخِرِ أَيَّامِ حِصَارِهِ رَأى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- فِي المَنَامِ، أنَّ النَّبيَّ –صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ أَبُا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وَهُوَ يَقُولُ: "يَا عُثْمَانُ أَفْطِرْ عِنْدَنَا". فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "لِيَقْتُلَنِي القَومُ". يَعْنِي أيقَنَ أنَّهُ سَيُقْتَلُ!            

 

هَجَم المُتَمَرِّدُونَ الخَوارَجُ على دَارِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- فَتَصَدَّى لَهُمُ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيرِ وَسَعِيدُ بنُ العَاصِ وَغَيرُهُمْ، فَنَشِبَ قِتَالٌ فَنَادَاهُم عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-: "اللهَ اللهَ، أَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ نُصْرَتِي،  أَعْزِمُ عَلَيكم كَفُّ اليَدِ وَالسِّلاحِ. ومِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ شَدَّ على جِسْمِهِ ملابِسَهُ، خَشْيَةَ انْكِشَافِ عَورَتِهِ فَأَقْدَمَ المُتَمَرِّدُونَ الخَوارَجُ عَلى حَرْقِ البَابِ، فَثَارَ أَهْلُ الدَّارِ، وَأَبْلَوا أَحْسَنَ البَلاءِ وَعُثْمَانُ يُصَلِّي وَيَسْتَفْتِحُ: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [طه: 1- 3].

 

فَمَضَى فِي قِرَاءَتِهِ مَا يُخْطِئُ وَمَا يُتَعْتِعُ، حَتَّى أنْهَاهَا. ثُمَّ جَلَسَ وَأَخَذَ يَدْعُوا وَيَقْرَأُ: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). وَنَشَرَ المِصْحَفَ الذي خَطَّهُ بِيَدِهِ، بَينَ يَدَيهِ، وَأَخَذَ يَقْرأُ مِنْهُ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ صَائِمَاً، فِإذْ بِخَارِجِيٍّ يَدْخُلُ عَلَيهِ، فَلَمَّا رَآهُ عُثْمَانُ قَالَ لَهُ: بَينِي وَبَينَك َكِتَابَ اللهِ! فَخَرَجَ وَتَرَكَهُ، وَدَخَلَ آخَرُ يُقَالَ لَهُ: المَوتُ الأَسْوَدُ، فَخَنَقَ عُثْمَانَ قَبْلَ أنْ يَضْرِبَهُ بِالسَّيفِ،  فَانْتَضَحَ الدَّمُ عَلى المِصْحَفِ الشَّريفِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 137].

 

وَلَمَّا تَمَّ القَتْلُ نَادَى مُنادِ الخَوَارِجِ قَائِلا: أَلا إنَّ دَمَهُ وَمَالَهُ حَلالٌ، فَانْهَبُوا مَا فِي البَيتِ، فَعَاثُوا فَسَادَاً، وأهَانُوا المَحَارِمَ وَالنِّسَاءَ! وَلَمْ يُرَاعُوا حُرْمَةً ولا كَرَامَةً لِأَحَدٍ! فاللهُ حَسِيبُهُمْ،  وَهُوَ نِعْمَ الوَكِيلُ.

 

حِينَهَا خَيَّمَ الحُزْنُ فِي أَرجَاءِ المَعْمُورَةِ فَلمْ يَكَدِ المُسلِمُونَ يُصَدِّقُونَ أنْ يَكُونَ مَصِيرُ ذِي النُّورَينِ، بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَكِنَّهُ أَمْرُ اللهُ وَقَدَرُهُ! لَقَدْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ أنَّ بَابَ فِتْنَةٍ انفَتَحَ لا يُمْكِنُ سَدَّهُ! وَهَكَذا الفِتنُ تَكْبُرُ شَيئَاً فَشَيئَاً. غَفَرَ لِخَلِيفَةِ المُسلِمينَ، وَجَعَلَ صَبْرَهُ وَحِلْمَهُ رِفْعَةً لَهُ يَومَ القِيَامَةِ. وَكَفى المُؤمِنينَ شَرَّ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ، وَرَدَّ كَيدَ الأعداءِ في نُحُورِهمِ.

 

 اللهم احفظ المسلمينَ من شَرِّ الفَوَاحِشِ والفتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ. اللهم اهدِنا سُبلَ السلامِ ألهِمنَا رُشْدَنا وَقِنَا شَرَّ أنفُسِنا والشَّيطَانِ.

 

اللهم عليكَ باليهود الظالمين والنصارى المعتدين والرافضة الحاقدين. اللهم عليكَ بِكُلِّ عَدُوٍّ للمسلمينَ، اغفر لنا ولوالدينا والمسلمين.  

 

وأقم الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا.  

 

 

 

المرفقات

القتل

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات