عناصر الخطبة
1/ارتباط دعوة عيسى بدعوة موسى –عليهما السلام- 2/بعض معجزات عيسى -عليه السلام- 3/أقسام الناس تجاه عيسى -عليه السلام- 4/حكم تسمية النصارى بالمسيحيين وبعض عقائدهم الباطلة 5/أسباب كفر النصارى وحكم التشكيك في كفرهم 6/بعض الأحكام المتعلقة بالتوراة والإنجيل 7/أعظم معجزات عيسى -عليه السلام- المائدة 8/أسرار محاولة اليهود قتل عيسى -عليه السلام-اقتباس
لقد أيد الله عيسى -عليه السلام- بمعجزات كثيرة؛ بدأت بولادته، ثم بكلامه في المهد، ثم بإحيائه للموتى بإذن الله، والخلق من الطين كهيئة الطير، فيكون طيرا بإذن الله، وشفاء المرضى؛ كالأبرص والأعمى، فقد كان اليهود يجتمعون عليه، ويطالبونه: أن يخلق لهم طيرا؛ كالخفاش، فيعجن عيسى -عليه السلام- طينا ثم يصوره كهيئة الخفاش، ثم ينفخ فيه فيكون خفاشا بإذن الله، وغيره من الطيور، فيطير حتى إذا جاوز الناس سقط ميتا، فلا يختلط بخلق الله، ويأتي إلى...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: تحدثنا في الخطبة الماضية عن عيسى -عليه السلام- وولادته، ومواجهته لقومه، ونكمل -بإذن الله- الحديث كما وعدناكم، فعيسى كان يدعو إلى الله، وهو في المهد؛ كما قال تعالى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران: 46].
يعني يدعوهم، ولا زال كذلك مصاحبا لأمه، بارا بها، حتى بلغ مبلغ الرجال، وبلغ ثلاثين سنة؛ كما حكاه أهل السير، عندها نبئ وأمر بالبلاغ، ودعوة قومه إلى التوحيد، وكانت دعوته لهم امتدادا لدعوة موسى - عليه السلام-، وأنزل الله عليه الإنجيل فيه زيادة أحكام، وتخفيفٌ لما وضعوا على أنفسهم من الآصار؛ كما قال تعالى: (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50].
ولا زال على ذلك، فتبعه جمع من قومه، وعارضه كثير من اليهود، وناصبوه العداوة، وأخذوا يكيدون له ويطالبونه بالمعجزات.
ولقد أيد الله عيسى -عليه السلام- بمعجزات كثيرة؛ بدأت بولادته، ثم بكلامه في المهد، ثم بإحيائه للموتى بإذن الله، والخلق من الطين كهيئة الطير، فيكون طيرا بإذن الله، وشفاء المرضى؛ كالأبرص والأعمى، فقد كان اليهود يجتمعون عليه ويطالبونه أن يخلق لهم طيرا كالخفاش، فيعجن عيسى -عليه السلام- طينا ثم يصوره كهيئة الخفاش، ثم ينفخ فيه فيكون خفاشا بإذن الله، وغيره من الطيور، فيطير حتى إذا جاوز الناس سقط ميتا، فلا يختلط بخلق الله، ويأتي إلى الأبرص فيمسح على جلده فيبرأ، والأكمه الذي ولد أعمى يمسح على عينيه فيبصر، وقد كان قومه اشتهروا بالطب، فجاءت معجزاته في تلك الأمراض التي أعجزتهم، وبهذا تبعه كثير من قومه.
ومن معجزاته: أنه يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون في مخازنهم.
واستمر عيسى -عليه السلام- يدعو إلى توحيد ربه –عز وجل- وهو العابد لربه الموحد له، فلم يحفظ عنه أنه عصى الله في حياته -عليه السلام- أبدا.
أيها المؤمنون: لقد انقسم الناس في زمن عيسى -عليه السلام- إلى ثلاثة أقسام:
قسم عادوه وهم اليهود الذين تمسكون بدينهم المحرف، ورفضوا ما جاء به عيسى، واتهموا مريم -عليها السلام-.
وقسم غلوا في عيسى، واعتقدوا فيه أنه ابن الله.
وقسم اتبعوا ما جاء به من غير تحريف وهم الحواريون، كما قال تعالى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ) [آل عمران: 52].
والحواري هو الناصر؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) [الصف: 14].
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبدالله قال صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري، وحواريي الزبير بن العوام".
معاشر المؤمنين: إن النصارى في هذا الزمن يفرون من تسميتهم بالنصارى، ويسمون أنفسهم بالمسيحيين، نسبة للمسيح، والمسيح منهم براء، فقد حرفوا الدين الذي جاء به عيسى، وغلو في عيسى -عليه السلام-، ولكي يفروا من الآيات التي نزلت فيهم والأحاديث التي وردت فيهم، ومن ذلك قوله تعالى: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة: 17].
وقوله: (وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ) [التوبة: 30].
وما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
لذا فلا يجوز تسميتهم بالمسيحيين، بل يجب أن نسميهم بما سماهم الله ورسوله به.
عباد الله: إن عقيدة النصارى عقيدة محرفة خبيثة، لعنهم الله عليها، وكفرهم بها، حيث أنهم حرفوا الدين الذي جاء به المسيح، وزعموا أن لله صاحبة يعني زوجة، وله ولد –تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا-، ويقولون: إن الآلهة ثلاثة: الله، والابن، وروح القدس.
فالنصارى بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- كفار بنص الكتاب والسنة؛ لعدة أمور:
منها: تكفير الله ورسوله لهم.
ومنها: أن دينهم محرف.
ومنها: أن نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد جعل الله شريعته ناسخة لكل ملة كانت قبله، فلا يقبل الله من أحد بعد البعثة غير الإسلام، قال الله -تعالى-: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
معاشر المؤمنين: إن من المؤسف حقا: أن نرى من يشكك في كفر اليهود والنصارى، ويقول: هم مؤمنون، وهم إخواننا، وهم أتباع شريعة سماوية!.
جاهلا أن أهل العلم قد أجمعوا على كفر من لم يكفر الكافر، فضلا عن كفر اليهود والنصارى.
ولهذا وجب على كل مسلم أن يلزم تعلم العقيدة الصحيحة؛ لأنه لا نجاة إلا بها.
أما بالنسبة لكتب أهل الكتاب كالتوراة والإنجيل، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها، ولا النظر فيها، وذلك لأنها محرفة!.
أما الإنجيل فهو عدة نسخ، والمعتمد عندهم أربع أناجيل، كلها ألفت بعد زمن عيسى -عليه السلام- بفترة، كتبها طلابه.
وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مطالعتها، بل غضب من ذلك، أخرج الإمام أحمد وغيره من حديث عن جابر بن عبد الله: أنَّ عمر بن الخطَّاب أتى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بكتابٍ أصابَه من بعض أهل الكُتُبِ فقَرَأ على النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- فغضب، وقال: "أَمُتَهَوِّكُونَ فيها يا ابْنَ الخطَّاب، والَّذي نَفْسي بِيَده، لقد جِئتُكم بها بيْضاء نَقيَّة، لا تَسألوهُم عنْ شيءٍ فيخبِروكُم بِحَقٍّ فَتُكَذِّبوا به، أو بِبَاطلٍ فَتُصَدِّقوا به، والَّذي نَفْسِي بِيَده، لو أنَّ موسى كان حيًّا، ما وَسِعَه إلاَّ أنْ يَتْبَعَني".
ويستثنى من النظر فيها أهلُ العلم الذين يردون ويناظرون أهل الكتاب ليدعوهم للدين بما صح في كتبهم.
اللهم فقهنا في الدين، ووفقنا لما تحبه وترضاه، يا كريم.
أقول...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن من أظهر المعجزات التي جاء بها عيسى -عليه السلام-: نزولَ المائدة، كما حكى لنا ذلك ربنا في كتابه، وسمى سورة من الطوال باسمها، سورة المائدة، حيث يقول الله فيها: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء)[المائدة: 112]. الآيات.
والمائدة، هي: الخوان عليه طعام.
وذكر بعضهم: أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم، فسألوا أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها، ويتقوون بها على العبادة.
قال: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[المائدة: 112]
أي: فأجابهم المسيح -عليه السلام-، قائلا لهم: اتقوا الله، ولا تسألوا هذا، فعساه أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين.
(قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا) أي: نحن محتاجون إلى الأكل منها: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) إذا شاهدنا نزولها رزقًا لنا من السماء: (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا) أي: ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك: (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ)[المائدة:113] أي: ونشهد أنها آيةٌ من عند الله، ودلالةٌ وحجةٌ على نبوتك وصدقُ ما جئت به.
(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا)[المائدة: 114].
قال السُّدِّي: "أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظمه نحن وَمَنْ بعدنا".
وقال سفيان الثوري: "يعني يومًا نصلي فيه".
وقال قتادة: "أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم".
وعن سلمان الفارسي: "عظة لنا ولمن بعدنا".
وقيل: "كافية لأولنا وآخرنا".
(وَآيَةً مِنْكَ) أي: دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء، وعلى إجابتك دعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك: (وَارْزُقْنَا) أي: من عندك رزقًا هنيئًا بلا كلفة ولا تعب: (وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي: فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها: (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) [المائدة: 115].
فأنزلها الله جلت قدرته عليهم وأكلوا منها، ولم يرد في كيفية نزولها، ولا ما كان فيها من الطعام شيء صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ لا فائدة تحته، ولذا لن نتطرق له.
عباد الله: قد يتساءل البعض: لم أراد اليهود قتل عيسى، مع أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقد جاءهم بالمعجزات الباهرة؟
والجواب من وجوه:
الأول: أن اليهود قوم بهت، والأصل فيهم الجحود والتكذيب.
والثاني: أن اليهود يعلمون أن دينهم محرف، وقد جاء عيسى ليبين لهم الدين الصحيح، وليقيم الحق والعدل بينهم، فرفضوا من أجل ذلك أن يتابعوه فهم لا يريدون الحق.
والثالث: أن عيسى -عليه السلام- سيرد المظالم لأهلها، ومعنى ذلك: أن الظلمة ستؤخذ الأموال التي اغتصبوها وترد لأهلها.
والرابع: أن اليهود قوم حسدة، فحسدوا عيسى على ما آتاه الله من النبوة والكرامة والمعجزات، ولهذا كانت الرسل تسوس بني إسرائيل كلما هلك نبي بعث الله آخر، وكانوا يقتلون الأنبياء كما وصفهم الله بذلك في كتابه، فقال: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران: 21].
أخرج ابن أبي حاتم من كلام عبد الله بن مسعود قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثَمائة نبي من أول النهار، وأقاموا سوق بقلهم من آخره.
ولقد اشتدت أذية اليهود لعيسى -عليه السلام-، حتى جعل لا يساكنهم في بلد، ويكثر من السياحة في الأرض، ويدعو إلى الله، فلما ضاق الأمر باليهود سعوا به إلى ملك ذلك الزمن، وكان في دمشق، وكان كافرا، ويقال لأهل ملته: اليونان، فما زالوا به حتى كتب لعامله على بيت المقدس بصلبه.
ونقف على هذا، ونكمل -بإذن الله- في الخطبة القادمة، حيث سنعرض لعقيدة الصلب، ورفع عيسى -عليه السلام-، ثم نزوله في آخر الزمان.
اللهم وفقنا لهداك...
اللهم آمنا في دورنا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم