عناصر الخطبة
1/ فضل سورة المائدة 2/ استعراض لقصصها 3/ بيان لمحتواها 4/ شرح معاني بعض آياتهااقتباس
وفي فضلها أخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: أنزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله؛ فنزل عنها.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، القائل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة:120]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل مائدة من السماء معجزة لرسوله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [114-115].
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، أمره الله تعالى بقوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [67]، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن والعمل بما جاء في كتاب الله الكريم، وسنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسيكون موضوعنا اليوم بمشيئة الله سورة المائدة، وهي السورة الخامسة في ترتيب المصحف الشريف، وهي من السور المدنية الطويلة، وآياتها عشرون ومائة آية، وقد تناولت جانب التشريع بإسهاب إلى جانب موضوع العقيدة وقصص أهل الكتاب.
قال أبو ميسرة: المائدة من آخر ما نزل من القرآن، ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة، وفي فضلها أخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: أنزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.
وقيل: نزلت هذه السورة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو منصرف من الحديبية، وهي في مجموعها تتناول الأحكام الشرعية؛ لأن الدولة الإسلامية كانت في بداية تكوينها وهي بحاجة إلى المنهج الرباني الذي يعصمها من الزلل، ويرسم لها طريق البناء والاستقرار.
أما الأحكام التي تناولتها السورة فنلخصها فيما يلي: أحكام العقود، والذبائح والصيد والإحرام، والأيْمان، وقتل الصيد في الإحرام، والوصية عند الموت، والبحيرة والسائبة، والحكم على من ترك الحكم بشريعة الله، إلى غير ما هناك من الأحكام التشريعية.
وإلى جانب التشريع قص علينا الله تعالى في هذه السورة بعض القصص للعظة والعبرة، فذكر قصة بني إسرائيل مع -موسى عليه السلام- وهي قصة ترمز إلى التمرد والطغيان، ممثلة في هذه الشرذمة الباغية من اليهود حين قالوا لرسولهم: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [24]، وما حصل لهم من التشرد والضياع إذ وقعوا في التيه أربعين سنة: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [25-26].
والتيه في اللغة: الحيرة، والمعنى: يتحيرون في الأرض، قيل: إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ، كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم.
ثم قصة ابني آدم وهي قصة ترمز إلى الصراع العنيف بين قوتي الخير والشر ممثلة في قصة(قابيل وهابيل)، حيث قتل قابيل هابيل، وكانت أول جريمة قتل نكراء تحدث في الأرض أُريق فيها الدم البريء الطاهر.
وتتلخص قصتها -كما قال المفسرون- فيما يلي: إن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى، وكان يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، فلما أراد آدم أن يزوج قابيل أخت هابيل ويزوج هابيل أخت قابيل رضي هابيل وأبى قابيل؛ لأن توأمته كانت أجمل، فقال لهما آدم: قرِّبا قربانا،ً فمِن أيكما تقبل تزوجها.
وكان قابيل صاحب زرع فقرب أردأ زرعه، وكان هابيل صاحب غنم فقرب أحسن كبش عنده، فتقبل قربان هابيل بأن نزلت ناراً فأكلته، ولم يتقبل قربان قابيل، فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل بسبب تقبل قربان هابيل، فقال هابيل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [27]، (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) [28]، ظلماً لأجل قتلي ما كنت لأقابلك بالمثل.
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: المعنى: ما أنا بمنتصر لنفسي: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [28]، قيل: كان هابيل أقوى من القاتل، ولكنه تحرج من قتل أخيه خوفاً من الله، (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [29]، أي: إن قتلتني فذاك أحب إلي من أن أقتلك.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: المعنى: لا أبدؤك بالقتل؛ لترجع بإثم قتلي إن قتلتني وإثمك الذي كان منك قبل قتلي فتصير من أهل النار، وذلك عقاب من تعدى وعصى أمر الله؛ فزينت له نفسه وسهلت له قتل أخيه فقتله فخسر وشقي.
فلما قتله لم يعرف القاتل كيف يستر جسد المقتول، وماذا يعمل به؟! فأرسل الله غراباً يحفر بمنقاره ورجله الأرض ليري القاتل كيف يستر جسد أخيه، قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل احدهما الآخر ثم حفر له فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من قتل في الأرض.
وروي أنه لما قتله تركه بالعراء ولم يدر كيف يدفنه، حتى رأى الغراب يدفن صاحبه، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [31]، أي: قال قابيل متحسراً: يا ويلي ويا هلاكي! أضعفت أن اكون مثل هذا الطير فأستر جسد أخي كما فعل هذا الغراب؟ فصار نادماً على عدم الاهتداء إلى دفن أخيه لا على قتله.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة له، ثم قال الله سبحانه: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [32]، أي: إنهم بعد تلك الزواجر كلها يسرفون في القتل ولا يبالون بعظمته.
ثم أعقبه الله سبحانه بذكر عقوبة المحاربين لله، وهم قطاع الطرق، فقال -عز وجل-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [33-34].
كما ذكرت السورة قصة (المائدة) التي كانت معجزة لعيسى بن مريم ظهرت على يديه أمام الحواريين، فبعد أن أمتن الله -عز وجل- على عيسى ببعض نعمه عليه من خلقه من أم دون أب، وجعله برهانا على براءتها من الفاحشة، وقوَّاه سبحانه بجبريل -عليه السلام- يكلم الناس في المهد وفي الكهولة تثبيتاً، وتعليمه العلم النافع مع التوراة والإنجيل، وتصويره من الطين طيراً فيكون طيراً بإذن الله، ويشفى الأعمى الذي لا يبصر والأبرص الذي استعصى شفاؤه بمشيئة الله، وإحياء الموتى بمشيئة الله، ومنعه -عز وجل- لبني إسرائيل من قتله لما أرادوا الفتك به حين كذبوا بنبوته، ولم يؤمنوا، واتهموه بالسحر، ولم يصدقه إلا الحواريون حيث آمنوا به وأخلصوا في إيمانهم، بعد ذلك قالوا: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) [112].
قال أهل التفسير: إن الحواريين كانوا مؤمنين، وهم خواص عيسى، وإنهم لم يشكوا في قدرة الله وإنما سألوه سؤال مستخبِر: هل ينزل لنا أم لا؟ فإن كان ينزل فاسأله لنا، وقولهم كان للاطمئنان والتثبت، (قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [112]، أي اتقوا الله في أمثال هذه الأسئلة إن كنتم مصدقين بكمال قدرة الله تعالى.
(قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) [113]، أي: قال الحواريون نريد بسؤالنا المائدة أن نأكل منها تبركاً، وتسكن نفوسنا بزيادة اليقين، ونعلم علماً يقينياً لا يحوم حوله شائبة من الشك بصدقك في دعوى النبوة، ونشهد بها عند من لم يحضرها من الناس.
فأجابهم عيسى إلى سؤال المائدة من الله -عز وجل- لإلزامهم بالحجة الدامغة، وروي أنه لما أراد الدعاء لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويدعو ربه ويبكي، فدعا ربه أن يكون يوم فرح وسرور لنا ولمن يأتي بعدنا، ودلالة وحجة شاهدة على صدق رسولك، وارزقنا يا الله فإنك خير من يعطي ويرزق؛ لأنك الغني الحميد.
فأجاب الله دعاءه فقال: إني سأنزل عليكم هذه المائدة من السماء، فمن كفر بعد تلك الآية الباهرة فسوف أعذبه عذاباً شديداً لا أعذب بمثل ذلك التعذيب أحداً من البشر، وفي الحديث: "أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأُمروا إلا يدَّخروا لغد ولا يخونوا فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير" أخرجه الترمذي.
وتمضي السورة الكريمة حيث تذكر الموقف الرهيب يوم الحشر الأكبر، حيث يدعى المسيح عيسى بن مريم على رؤوس الأشهاد، ويسأله ربه تبكيتاً للنصارى الذين عبدوه من دون الله ويقول: إنه لم يدَّعِ أنه إله، ولم يدع الناس إلى ذلك، مع علم الله سبحانه بذلك، فيقول الله -عز وجل-: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [119-120].
عباد الله: هذه نبذة عن بعض آيات وقصص وردت في سورة المائدة، وسنكمل إن شاء الله الحديث عن البعض الآخر في الخطبة الثانية.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة خاتم رسله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر المؤمنين بالوفاء بالعهود والمواثيق، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة المائدة نقول، وبالله التوفيق، إن السورة الكريمة تعرضت أيضاً لمناقشة اليهود والنصارى في عقائدهم الفاسدة حيث نسبوا إلى الله -عز وجل- ما لا يليق به من الذرية والبنين، ونقضوا العهود والمواثيق، وحرفوا التوراة والإِنجيل، وكفروا برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، إِلى آخر ما هناك من ضلالات وأباطيل، وفي الآية الأولى من هذه السورة أمر من الله سبحانه لعباده المؤمنين بالوفاء بالعقود والعهود والمواثيق، سواء ما كان منها بين الناس وربهم أم بين الإنسان والإنسان.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: العقود والعهود هي ما أحل الله وما حرم، وما في القرآن الكريم كله من التكاليف والأحكام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) [1]، أي: أبيح لكم أكل الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بعد ذبحها إلا ما حرم الله عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة، وهي المضروبة بعصا أو بحجر، (وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [3]، أي ما ذبح على الأحجار المنصوبة (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [3]، أي: أحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [3]، أي: يقضي في خلقه بما يشاء لأنه الحكيم في أمره ونهيه.
وفي الآية الثالثة قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي: أكملت الشريعة ببيان الحلال والحرام، (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بالهداية والتوفيق إلى أقوم طريق، (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [3]، أي اخترت لكم الإسلام ديناً من بين الأديان، وهو الدين المرضي الذي لا يقبل دينا سواه، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
وفي الآية بيان لكفارة اليمين، قال تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) [89]، أي وثقتموها بالقصد والنية، وإذا حنثتم: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [89]، أي هذه كفارة اليمين الشرعية عند الحنث، واحفظوا أيمانكم عن الابتذال فلا تحلفوا إلا لضرورة.
وفي الآية (90) بين الله سبحانه حكم الخمر والميسر وما شابههما من الخبائث فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [90]، والخمر: جميع الأشربة التي تُسكر، والميسر القمار، كانوا يتقامرون به في الجاهلية، والأنصاب: الأصنام المنصوبة للعبادة، والأزلام: الأقداح اتلي كانت عند سدنة البيت وخدام الأصنام.
قال ابن عباس ومجاهد: الأنصاب حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها، ورجس: أي قذر ونجس، تعافه العقول، وخبيث مستقذر من تزيين الشيطان فاتركوه وكونوا في جانب آخر بعيدين عن هذه القاذورات لتفوزوا بالثواب العظيم.
وفي الآية بعدها: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي ما يريد الشيطان بهذه الرذائل إلا إيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين في شربهم الخمر ولعبهم القمار (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [91] أي: ويمنعكم بهما عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، وعن إقامة الصلاة التي هي عماد دينكم، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟ أي: انتهوا.
ولذلك قال عمر -رضي الله عنه-: انتهينا يا ربنا انتهينا. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا)، أي: أطيعوا أمر الله وأمر رسوله واحذروا مخالفتهما؛ (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [92]، أي: إن أعرضتم ولم تعملوا بأمر الله ورسوله فاعملوا أنه ليس عليه هدايتكم، وإنما عليه تبليغكم الرسالة.
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) [101-102]، ففي هاتين الآيتين نهي عن كثرة السؤال وخاصة في التكاليف الشرعية وقت نزول الوحي حتى لا تُكلفوا ما لا تطيقون كما فعلت الأمم كاليهود، فقد كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.
ثم قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [103]، كان أهل الجاهلية إذا أنجبت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، بحروا أذنها، أي ثقبوها، وحرموا ركوبها، وهي البحيرة.
وكان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً أو أنثى قالوا: وصلت أخاها وهي الوصيلة، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمي ظهره وهو الحام، فلما جاء الإسلام أبطل هذه العادات كلها، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
عباد الله: هذه بعض معاني آيات سورة المائدة، وما فيها من الأحكام الشرعية، والمواعظ الكثيرة، فأسأل الله أن يوفقني وإياكم لفهمها وتدبرها والعمل بها وبكل ما جاء في كتاب الله الكريم، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلوا وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم