عناصر الخطبة
1/ تعريف بالسور الكريمة: القارعة، التكاثر، العصر، الهمزة 2/ تفسير كُلٍّ 3/ بيان فضل بعض منها 4/ عرض ملخص لمحتوى كل سورة منهااقتباس
فسورة القارعة تتحدث عن القيامة وأهوالها، والآخرة وشدائدها، وما يكون فيها من أحداث عظام، كخروج الناس من القبور، وانتشارهم في ذلك اليوم الرهيب كالفراش المتطاير المنتشر هنا وهناك، يجيئون ويذهبون على غير نظام من شدة التطاير في الهواء، بعد أن كانت صلبة راسخة فوق الأرض ..
الحمد لله رب العالمين، بيَّن لنا ما في الآخرة من نعيم؛ لنجتهد في الحصول عليه، وما فيها من أهوال؛ لنتقيها ونحذر منها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم على نهج كتاب الله إلى يوم الدين.
فيا عباد الله: سنتكلم هذا اليوم عن معاني أربع سور قصار في كتاب الله الكريم، وهي سورة القارعة، وسورة التكاثر، وسورة العصر، وسورة الهمزة.
فسورة القارعة: مكية بلا خلاف، وترتيبها في المصحف الشريف الواحدة بعد المائة، وآياتها إحدى عشرة آية.
(الْقَارِعَةُ) [القارعة:1]، من أسماء القيامة؛ لأنها تقرع القلوب الفزع، وتفزع أعداء الله بالعذاب، والعرب تقول: قرَعَتْهُم القارعةُ إذا وقع بهم أمر فظيع، والمراد تفخيم أمرها وتعظيمه.
(مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) [2-3]؟ تأكيد لشدة هولها، ومزيد فظاعتها، حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دراسة أحد منهم. والمعنى: أي شيء أعلمك ما شأن القارعة؟.
ثم بيَّن سبحانه متى تكون القارعة فقال: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) [4]، أي: تأتيكم القارعة يوم يكون الناس كالفراش المنتشر المتفرق، والفراش: الطير الذي تراه يتساقط في النار والسراج، والواحدة فراشة. والمبثوث: المتفرِّق المنتشر.
(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [5]، أي: تكون الجبال كالصوف الملون بالألوان المختلفة.
ثم ذكر الله سبحانه أحوال الناس ذلك اليوم، يوم القيامة، وتفرقهم إلى فريقين على جهة الإجمال، فقال: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [6-7]، والموازين جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، أي: مَن رجحت أعماله الصالحة على غيرها فهو في عيشة راضية مرضية يرضاها صاحبها، والعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة.
ثم ذكر الله سبحانه الفريق الآخر فقال: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) [8]، أي: رجحت سيئاته على حسناته، أو لم تكن له حسنات يعتد بها، فجزاءه: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [9]، أي: فمسكنه جهنم، وسماها لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، والهاوية من أسماء جهنم، وسميت هاوية لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ) [10]؟ استفهام للتهويل والتفظيع ببيان أنها خارجة عن المعهود، بحيث لا تحيط بها علوم البشر، ولا تدري كنهها، ثم بينها سبحانه بقوله: (نَارٌ حَامِيَةٌ) [11]، أي: قد انتهى حَرُّها، وبلغ في الشدة إلى الغاية.
فسورة القارعة تتحدث عن القيامة وأهوالها، والآخرة وشدائدها، وما يكون فيها من أحداث عظام، كخروج الناس من القبور، وانتشارهم في ذلك اليوم الرهيب كالفراش المتطاير المنتشر هنا وهناك، يجيئون ويذهبون على غير نظام من شدة التطاير في الهواء، بعد أن كانت صلبة راسخة فوق الأرض.
وختمت بذكر الموازين التي توزن بها أعمال الناس، وانقسام الخلق إلى سعداء وأشقياء، حسب ثقل الموازين وخفتها.
وسورة التكاثر: مكية عند الجميع، وعدد آياتها ثماني آيات، وترتيبها في المصحف الشريف الثانية بعد المائة.
بدأت بقوله تعالى (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر:1]، أي: شغَلَكُم التكاثر بالأموال والأولاد، والتفاخر بكثرتها، والتغالُب فيها، وقيل: معنى ألهاكم: أنساكم، وقد ورد في فضل سورة التكاثر أن من قرأها فكأنما قرأ ألف آية.
وأخرج مسلم وغيره عن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، وفي لفظ: وقد أنزلت عليه (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، وهو يقول: "ابن آدم! مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت".
كما أخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة: "يقول العبد مالي مالي! وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ وتاركُه للناس".
(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [2]، أي: حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال، وقيل: ذكرتم الموتى وعددتموهم للمفاخرة والمكاثرة! فيكون ذلك على طريق التهكم بهم.
(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [3]، ردع وزجر لهم عن التكاثر، وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة، وفيه وعيد شديد.
ثم كرر الردع والزجر والوعيد فقال: (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [4]، للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول، وقيل الأول عند الموت، أو في القبر، والثاني يوم القيامة.
(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) [5]، أي: لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علماً يقيناً، كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا.
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [6]، هناك قسَمٌ، وهنا جواب للقسم، وفيه زيادة ووعيد وتهديد، أي: والله لَتَرَوُنَّ الجحيم في الآخرة.
(ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) [7]، أي: ثم لَتَرُونَّ الجحيم التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [8]، أي: تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن الآخرة، قال قتادة: إن الله سبحانه سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه.
ومجرد السؤال لا يستلزم تعذيب المسؤول على النعمة التي يسأل عنها، قد يسأل الله المؤمن عن النعم، عما أنعم بها عليه فيم صرفها، وبما عمل فيها، ليعرف تقصيره، وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر.
أخرج احمد وغيره عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: جاءنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر فأطمعناهم رطباً، وسقيناهم ماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا من النعيم الذي تسألون عنه" وروي غيره أيضا.
فسورة التكاثر تتحدث عن انشغال الناس بمغريات الحياة، وتكالبهم على جمع حطام الدنيا حتى يقطع الموت عليهم متعتهم، ويأتيهم فجأة وبغتة فينقلهم من القصور إلى القبور، وصدق القائل:
المــَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً *** وَالْقَبْرُ صُنْدُوقُ العَمَلْ
وبينت السورة للناس المخاطر والأهوال التي سيلقونها في الآخرة، والتي لا يجوزها ولا ينجو منها إلا المؤمن الذي قدم صالح الأعمال.
وسورة العصر: هي الثالثة بعد المائة في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها ثلاث آيات، وهي مكية عند جهور المفسرين، وفي فضلها أخرج الطبري عن ابن مزينة الدارمي، وكانت له صحبة، فقال: كان الرجلان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم على الآخر.
وقد أقسم الله سبحانه فقال: (وَالْعَصْرِ) [العصر:1]، وهو الدهر، لما فيه من العِبَرِ من جهة مرور الليل والنهار، على تقدير الأدوار، وتعاقب الضياء والظلام؛ فإن ذلك دلالة بيِّنَةٌ على الخالق الله -عز وجل-، وعلى توحيده.
وروي عن قتادة: أنه آخر ساعة من ساعات النهار، وقيل: المراد به صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى التي أمر سبحانه بالمحافظة عليها، وقيل غيره، والأول أولى.
وجواب القسم: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [3]، والخسر والخسران: النقصان، وذهاب رأس المال، والمعنى: إن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق، حتى يموت، أي: في هلاك.
ثم استثنى اللهُ سبحانه فقال: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي: لا يدخل في الخسران والهلاك مَن جمع بين الإيمان والعمل الصالح؛ فإنهم في ربح لا في خسر؛ لأنهم عملوا للآخرة، ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها.
وكذلك: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [3]، أي: وصَّى بعضُهم بعضاً بالحق الذي يحق القيام به، وهو الإيمان بالله، والتوحيد، والقيام بما شرعه الله، واجتناب ما نهى عنه، والصبر عن معاصي الله سبحانه فلا يأتيها، والصبر على القيام بفرائضه والمداومة عليها، حيث أقسم الله سبحانه بالعصر، وهو الزمان الذي ينتهي فيه عمر الإنسان، وما فيه من أصناف العجائب والعبر الدالة على قدرة الله، وحكمته.
على أن جنس الإنسان في خسارة ونقصان، إلا من اتصف بالأوصاف الأربعة: وهي الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والاعتصام بالصبر؛ وهي أسس الفضيلة، وأساس الدين؛ ولهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله- لو لم ينزل سوى هذه السورة لكفت الناس، فسورة العصر جاءت في غاية الإيجاز والبيان؛ لتوضيح سبب سعادة الإنسان أو شقاوته، ونجاحه في هذه الدنيا أو خسرانه.
عباد الله: أسأل الله أن أكون أعطيت فكرة موجزة عن هذه السور الثلاث القصيرة الآيات، العظيمة الدلالات، وأسأل الله أن ينفعنا بها وبهدي كتابه الكريم، وآياته الحكيمة، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين الذي نهانا عن الهمز واللمز، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ومن تبِعَهُم على نهج كتاب الله إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: سورة الهمزة هي السورة الرابعة بعد المائة في ترتيب المصحف الشريف، وعدد آياتها تسع آيات، وهي مكية بلا خلاف.
بدأت بقول الله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [1]، أي: خزي أو عذاب أو هلكة أو وادٍ في جهنم لكل هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، أي: الذي يغتاب الناس. وقيل: الهُمَزَة الذي يغتاب الرجل في وجهه، واللُّمَزَة: الذي يغتابه من خلفه، وقيل: الهمزة الذي يهمز الناس بيده، واللمز الذي يلمزهم بلسانه.
ثم وصفه الله بقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) [2]، أي: العلة في الهمز واللمز هو إعجابه بما جمع من المال، وظن أنه له الفضل في جمعه؛ فلأجل ذلك يستقصر غيره، ويحتقره.
ومعنى عدَّدَه، أي: أحصاه، أو أعدَّه لنوائب الدهر. وقيل: فاخَرَ بكثرته، وعدَّدَه، والمقصود ذمه على جميع المال، وعدم إنفاقه في سبيل الخير، (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) [3]، أي: يعمل عمل مَن يظن أن ماله يتركه خالداً مخلداً لا يموت.
(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) [4]، وفيه ردع له عن ذلك الحسبان، أي: ليس الأمر على ما يحسبه هذا الذي جمع المال وعدده، فوالله لَيُطْرَحَنَّ في النار، وَلَيُلْقَيَنَّ فيها.
ثم تساءل الله عز وجل فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) [5]؟ لتهويلها وتفظيعها؛ حتى كأنها ليست مما تدركه العقول، وتبلغه الأفهام.
ثم بيَّنَها سبحانه فقال: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) [6]، أي: هي نار الله الموقدة بأمره سبحانه، وسُميت الحطمة لأنها تحطم كل ما يلقى فيها وتهشمه، وقيل: هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم، وقيل غيره.
ثم وصفها بقوله: (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [7]، أي: يخلص حَرُّها إلى القلوب، فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة -مع أنها تغشى جميع أبدانهم- لأنها محل العقائد الزائفة، أو لكون الألم إذا وصل إليها مات صاحبها، أي: إنهم في حال مَن يموت، وهم لا يموتون.
(إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) [8]، أي: مطبقة مغلقة، (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) [9]، أي: كائنين في عمد مُمَدَّدَة، موثقين فيها، قال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم ثُم شُدَّتْ بأوتاد من حديد، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح.
فسورة الهمزة تحدثت عن الذين يعيبون الناس، ويأكلون أعراضهم بالطعن والانتقاص والازدراء، وبالسخرية والاستهزاء وفعل السفهاء، كما ذمت الذين يشتغلون بجمع الأموال، وتكديس الثروات، كأنهم مخلدون في هذه الحياة، يظنون لفرط جهلهم وكثرة غفلتهم أن المال سيخلدهم في الدنيا.
وختمت بذكر عاقبة هؤلاء التعساء الأشقياء، حيث يدخلون ناراً لا تخمد أبداً، تحطم المجرمين ومَن يُلقى فيها من البشر؛ لأنها الحطمة، نار سقر، نعوذ بالله من النار وأهوالها، ونسأل الله أن نكون من أهل الجنة دار الأبرار، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصَلُّوا وسلِّمُوا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم