عناصر الخطبة
1/أيّ الراحلين أنت؟ 2/أثر السمعة في قبول الأعمال 3/سمعة الإنسان أطول من عمره 4/أهمية المحافظة على حُسن السمعة والسيرة.اقتباس
فسبحانَ اللهِ!! لقد رَحَلَ الرَّجلُ عن هذه الدُّنيا، ولكن بقيتْ سمعتُه في ذاكرةِ النَّاسِ، فهذه الشهادةَ التي أثنى بها النُّاسُ عليه، خيرًا كانتْ أو شرًّا، لم تكنْ وليدةَ تلك اللحظةِ، بل إنَّها رحلةُ حياةٍ، عاشَ بها بينَ النَّاسِ، وتركَ بها أثرًا استحقَّ به تلكَ الشَّهادةَ.
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ الَّذي بَدَأَ خَلْقَ الإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلائِكَتَهُ المُقَرَّبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، خَلَقَ الخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَهُوَ الغَنِيُّ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، النَّبِيُّ الأَوَّاهُ الأَمِينُ، أَرْسَلَهُ رَبُّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَسِرَاجًا لِلْمُهْتَدِينَ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ الغُرِّ المَيَامِينِ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: عَن أَنسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: مَرُّوا بجَنَازَةٍ، فأَثْنَوْا عَليها خَيرًا، فقَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: "وَجَبَتْ"، ثم مَرُّوا بأخرى، فأَثْنَوْا عَليها شَرًّا، فقَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: "وَجَبَتْ"، فقَالَ عُمرُ بنُ الخطابِ -رَضيَ اللهُ عَنهُ-: ما وَجَبَتْ؟، فقَالَ: "هذا أَثْنَيْتُمْ عَليهِ خَيرًا، فوَجَبَتْ له الجنةُ، وهذا أَثْنَيْتُم عَليهِ شَرًّا، فوَجَبَتْ له النارُ، أَنتم شُهَدَاءُ اللهِ في الأرضِ".
فسبحانَ اللهِ!! لقد رَحَلَ الرَّجلُ عن هذه الدُّنيا، ولكن بقيتْ سمعتُه في ذاكرةِ النَّاسِ، فهذه الشهادةَ التي أثنى بها النُّاسُ عليه، خيرًا كانتْ أو شرًّا، لم تكنْ وليدةَ تلك اللحظةِ، بل إنَّها رحلةُ حياةٍ، عاشَ بها بينَ النَّاسِ، وتركَ بها أثرًا استحقَّ به تلكَ الشَّهادةَ.
قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم *** وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ
اسمعوا إلى أثرِ السُّمعةِ في قبولِ الأعمالِ، بل وإلى حُسنِ أو سوءِ المآلِ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا -هذا عملُها، ولكن ما هي سمعتُها؟-، قَالَ: غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، -فماذا قالَ -عليهِ الصلاةُ والسلامُ- عن صاحبةِ هذه السُّمعةِ؟-، قَالَ: "هِيَ فِي النَّارِ". قَالَ الرَّجلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ -هذه عبادتُها، فما سمعتُها؟-، قَالَ: وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: "هِيَ فِي الْجَنَّةِ".
السمعةُ أطولُ عُمرًا من الإنسانِ، يموتُ وتبقى في الذاكرةِ وعلى اللسانِ، فمنهم من له السمعةُ الطَّيبةُ، كما قال -تعالى- في إبراهيمَ وذريتِه -عليهم السَّلامُ-: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)[الأنبياء:50]؛ قَالَ ابنُ عَباسٍ -رَضيَ اللهَ عَنهما-: "يعني: الثناءُ الحَسنُ"، ومنهم من له السمعةُ السيئةُ فلا مدحَ ولا عزاءَ، ولا حُزنَ ولا بُكاءَ، كما قالَ -تعالى-: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان: 27]، وصدقَ القائلُ:
كأنهم قَطُّ ما كانوا ولا وُجِدُوا *** وماتَ ذِكْرُهم بين الوَرَى ونُسُوا
أيها الأحبةُ: إن سمعةَ الإنسانِ تنتقلُ إلى الأجيالِ والأولادِ، وقد يُحكمُ على الشَّخصِ من سيرةِ الآباءِ والأجدادِ، فها هي مريمُ تأتي إلى قومِها وهي تحملُ طِفلاً صغيرًا من غيرِ زوجٍ، فيقولُ لها قومُها: (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا)[مريم:27] عظيمًا، وذكَّروها بسمعةِ والديها الطَّيبةِ، فقالوا: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)[مريم:28]، وهكذا أثرُ السمعةِ لا تكونُ خاصةً بصاحبِها، بل تعمُّ من حولَه من الأقاربِ، فكم من شابٍ أو فتاةٍ صالحين قد تُركوا، بسببِ أبٍّ سيءِ الخُلقِ أو أمٍ شَرسةِ الطِّباعِ.
ولذلكَ لم يكنْ همَّ يوسفَ -عليه السلامُ- هو الخروجُ من السجنِ فقط، بل كانَ المقصودُ هو الحفاظُ على سمعتِه التي تشوَّهتْ باتِّهامِ النِّساءِ له، فلما جاءَه مبعوثُ الملكِ، (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)[يوسف:50]، فلما ثبتتْ براءتُه من تُهمةِ النِّساءِ، خرجَ بسمعةٍ طيبةٍ يتبوأُ من الأرضِ حيثُ يشاءُ.
إِذا المَرءُ لَم يُدنَسْ مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ *** فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها *** فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ، أَفْضَلَ مَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أما بَعدُ: إن تشويهَ السمعةِ هو أعظمُ ما قد يُبتلى به الإنسانُ، واسمعوا ماذا قالتْ مريمُ عندما بُشِّرتْ بعيسى -عليهِ السَّلامُ-، ومرَّ على خيالِها ماذا قد يقولُه عنها النَّاسُ في هذا المقامِ، (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)[مريم:23]، وهكذا الموتُ أهونُ على الشرفاءِ، من أن تتلوَّثَ سمعتُهم الصافيةُ النَّقاءِ.
يقربُ النَّاسُ من الرجلِ وينفرونَ منه، بحسبِ ما يسمعونَ عنه، ولذلكَ أرادَ المنافقونَ تشويهَ سمعةِ الرسولِ -صلى الله عليهِ وسلمَ- بالطَّعنِ في شرفِ زوجتِه عائشةَ العفيفةِ -رضيَ اللهُ عنها-، لتنفيرِ الناسِ منه ومن دينِه، ولكم أن تتخيلوا شهرًا كاملاً والنَّاسُ يتكلمونَ في عِرضِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، ولم ينزلْ في ذلك وحيٌ من السَّماءِ، حتى قامَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ!، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي، وَالله مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي"، ثُم نزلتْ براءتُها بعدَ ذلكَ تُتلى إلى يومِ القيامةِ.
فحافظْ على سمعتِكَ بينَ النَّاسِ، وتعبَّدْ للهِ بالإحسانِ إليهم، فهم شهودُ اللهِ، فما عسى أن يَشهدوا؟
أَحسِنْ إِلى النَّاسِ تَستَعبِدْ قُلُوبَهُمُ *** فَطَالَمَا استَعبَدَ الإِنسَانَ إِحسَانُ
اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرف عنَّا سيءَ الأخلاقِ لا يصرف عنَّا سيئَها إلا أنت، اللهم إنا نعوذُ بك من منكراتِ الأخلاقِ والأهواءِ والأدواءِ.
اللهم إنا نسألُك قُلوبًا سليمةً، اللهم اجعلنا لك شاكرينَ، لك ذاكرينَ، لك راغبينَ، لك راهبينَ، اللهم اهد قلوبَنا، ويسر أمورَنا، وطهر قلوبَنا.
اللهم وفقّ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك وأيّدهم بتأييدِك، واجعلهم أنصارًا لدينِك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وبلادَنا بسوءٍ، اللهم فأشغله في نَفسِه واجعل كيدَه في نحرِه واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه يا ربَّ العالمين، اللهم احفظ علينا دينَنا وأمنَنا واستقرارَنا وجماعتَنا يا أرحمَ الراحمينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم