اقتباس
والخطيبُ المبتدئُ الذي يرومُ تدريبَ نفسِهِ على الصّنعةِ الخطابيّة لا بُدّ له أن يدرسَ تجاربَ المصاقعَ في الخطابة، ويديمَ مشاهدة وسماع الكبار الذين سبقوه في الميدان ليتعلّم من مناهجِهِم ويرتشفَ من ملكَاتِهم وطرائقِهم، وينظُرَ إلى أيّ مدى ترامَت بهم الصنّعةُ الخطابيّة.. وأنا ذاكر في هذه السلسلةِ شيئًا من هذه التجارب على غير ترتيبٍ مقصود لا في الأمصار ولا في الأشخاص، وأتمنّى...
الحمدُ لله والصلاةُ والسلامُ على رسول الله وآله وصحبِهِ ومن والاه، وبعد:
فشرطُ الاستفادةِ من هذه السلسلة في التجارب الاتفاقُ على تحديدِ مجال الدّراسةِ فيما يتعلّقُ بالصنّعةِ والنهجِ الخطابي تحديدًا بغيةَ تحقيق الاقتداءِ والتأسّي فيه، من حيثُ السّمتُ الخطابي والأسلوب ومناحي التأثير وأساليب الإقناع وما يخدمُ النّضجَ في هذا السبيل بشكل عام، وعليه: فلا يهمُّنا - من هذه الجهة - انتماءات الخطباءِ ولا توجّهاتُهُم واجتهاداتهم الفقهيّة أو السياسيّة أو المنهجيّة، ولا يعني ذكرُ خطيبٍ ضمن هذه السلسلة أو تقديمُهُ على غيرِهِ أنَّهُ نالَ رتبةَ الكمالِ أو حازَ التزكيَة المطلقةَ، فإنّ الكمالَ لله وحده، والله - سبحانه - يزكّي من يشاء ويرفع ويقدّم، ومدحُهُ هو الزّينُ والرّفعة. .
فإن اتّفقنا على هذا الشرطِ أقول:
إنّ من أشهر طرق تحصيل رتبةِ النضجِ في الخطابةِ " الإكثارُ من مطالعةِ أساليب البلغاءِ، ومصاقعِ الخطباءِ، ودراستِها دراسةَ متعرِّفٍ لمناحي التأثيرِ وجهاتِ الإقناعِ فيها، ومتذوِّقٍ لما فيها من متانةِ الأسلوبِ وحسنِ العبارة وجودة التفكير " (1) .
والخطيبُ المبتدئُ الذي يرومُ تدريبَ نفسِهِ على الصّنعةِ الخطابيّة لا بُدّ له أن يدرسَ تجاربَ المصاقعَ في الخطابة، ويديمَ مشاهدة وسماع الكبار الذين سبقوه في الميدان ليتعلّم من مناهجِهِم ويرتشفَ من ملكَاتِهم وطرائقِهم، وينظُرَ إلى أيّ مدى ترامَت بهم الصنّعةُ الخطابيّة.. وأنا ذاكر في هذه السلسلةِ شيئًا من هذه التجارب على غير ترتيبٍ مقصود لا في الأمصار ولا في الأشخاص، وأتمنّى من كلّ أخٍ في الله أن يراسلني على البريد الإلكتروني (2) ليقترحَ عليّ أو ينصحني أو يزوّدَني بأسماء وأمثلة من مختلف الأمصار الإسلاميّة تستحقُّ البحث في نضج النهج الخطابي، وأنا شاكرٌ له سعيَهُ من قبل ومن بعد.
خطيبنا في هذا العدد: سماحة الشيخ علي الطنطاوي (3) - رحمه الله -:
شخصيّة إسلاميّة أدبيّة دعويّة معروفةٌ من جيل العمالقة الكبار، محبوبةٌ عند الكبير والصغير، والعام والخاص، لأسباب كثيرة من بينها: حديثه العفوي وروح النّكتة والدّعابة الموجودة فيه في البرامج التلفزيونية والإذاعية التي كان يقدّمها بكل بساطة وألفة مع كل عمق وتأثير ( مسائل ومشكلات )، ( نور وهداية )، ( على مائدة الإفطار ). .
والحق قبل أن أتكلّم عن بصمات النضجِ في نهجه الخطابي (4) أقول كلمةً لله:
القاعدة الأساسيّة ونقطة الارتكاز في النضج الخطابي هي " السيرة والسريرة " :
فلا بُدّ أوّلاً من الانتباه والنظر في جهاز الإرسال قبل التطرّق للرسالة التي يُرسلها، لأنّ الرسالة سوف يؤثّرُ عليها الجهازُ لا شكّ في ذلك .. وهذا في عالم الأجهزة ؛ فكيف بعالم الأشخاص .. ؟!
التأثيرُ والتغيير في رسالةِ الخطيبِ إنّما يرتكزُ بالأساسِ على صورةِ الخطيبِ الداخليّةِ وأخلاقِهِ مع النّاسِ سلبًا وإيجابًا، هذا الأساسُ يعملُ في الخفاءِ قبل أن نتكلّمَ عن الأسلوبِ والمنطقِ وقواعدِ الخِطاب، وأرجو من إخواني الخطباء التركيزَ على هذا أشدّ التركيز. .
والشيخُ - رحمه اللهُ - نحسبُ أنّهُ واعظٌ بسمتِهِ ووقارِهِ وأخلاقِهِ وسيرتِه وسريرَتِهِ قبل أن يكونَ واعظًا بالمنطقِ والقول، فالرّصيدُ الذي فاضت به السريرَةُ على الوجه والمَطلَع - نحسبه كذلك ولا نزكّي على الله أحدًا -، ورصيدُ السيرةِ والسّمت والوقارِ وحسنِ المعاملة - وهذا فيما بينه وبين الناسِ كما ذكروا عنه واضحٌ صريح - ؛ كلُّ هذا الرصيدِ يسبقُ في الحقيقةِ في التأثير والإقناع والتغيير جُهدَ الخطيبِ وأسلوبَهُ ومنطقَهُ وكلامَه !.
وكلُّ من شاهدَ الشيخَ أو صاحبه وتأمّل وجههُ عَلِمَ عِلمَ اليقينِ - والناسُ شهودُ الله في الأرض - أنَّ وجهَهُ ليسَ بوجهِ غاش ولا متصنّع، بل وضَاءةٌ وصفاءٌ وابتسامةٌ وإشراق يأخذُ بمجامع القلوب من أوَّل نظرة - نحسبه كذلك ولا نزكّي على الله أحدًا -. .
وقد قضَى ربنا – سبحانهُ - أنَّ من كان من أهل الصدق والصفاء عُرفَ ذلكَ في وجهه وطلعته بالنور والوَضاءَةِ وإن كان عبدًا أسوَدَا، ومن كان من أهل الكذب والغش والنفاق عُرِفَتْ في وجهه الظُّلمةُ والحيرةُ والوحشةُ وإن كان وجههُ أشدَّ بياضًا من الثلج، وإن كان أفصحَ من سَحبان وائل . حكمةُ الله في إظهار ما في القلوب على الوجوه:
كما قال ابن عباس- رضي الله عنهما- :" إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وقوَّةً في البدن،وسعةً في الرِّزق،ومحبَّةً في قلوبِ الخلق، وإنَّ للسيِّئة سوادًا في الوجه، وظُلمةً في القلب، ووَهْنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبِغْضَةً في قلوبِ الخلق ". وقال عثمانُ - رضي الله عنه -:" ما عَمِلَ رجُلٌ عملاً إلاَّ ألبسهُ اللهُ – تعالى - رداءَه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشَر".
هذا وقد نصّ - رحمة الله عليه - على قيمة الإخلاص والقدوة والسريرة والسيرة في حياة الواعظ الخطيب، وكيف يؤثّر ذلك على رسالته ونهجه في الوعظ:
فقال - رحمه الله - يوصي الخطباء :" إن أولى ما ينبغي أن يتحلَّى به الواعظ: أن يبدأ بنفسه فيعظها، وأن يخلص قوله لله وعمله، وأن يفرَغَ من شهوات نفسه؛ فلا تملكه شهوة الشهرة والجاه، ولا شهوة الغنى، ولا شهوة النساء، وأن يكون في فعله أوْعَظ منه في قوله. . "(5).
كل هذه الأخلاق النفسيّة من الإخلاص والتجرّد عن الشهوات، شهوات الرياء والجاه والشهرة والمال والنساء؛ كل هذه الأصول التربويّة رصيدٌ روحي ودعائمُ استباقيّةٌ خفيّة في شخص الخطيب، تعملُ مع أدواتِ ووسائل الإقناع والتأثير من قبل ومن بعد، تعملُ في الخفاء على التأثير والتغيير، بل يلقي بها الله تعالى البركةَ والأثرَ الجليلَ في التنبيه العفويّ والقول القليل، فكيف بالقول القائمِ على أصول الإقناع وقواعد التأثير ؟!.
وكم من خطيبٍ يُتقنُ فنون الخطابةِ والقول، ويفعّل مع ذلك كلّ أدواتِ التأثير وأساليب الإقناع، ولكنّه عاجزٌ عن تصديقِ ذلك بقلبِهِ وسريرته وسيرته؛ فلا يصدّقُ الناسُ المبادئ التي يتكلّمُ عنها، وتزِلُّ موعظته عن صفحات قلوبهم كما تزِلُّ القطرة عن الصفا ! .
وقد شهدَ أحباب وأصحاب وتلاميذ الشيخ علي الطنطاوي - رحمة الله عليه – أنّهُ كانَ نقيّ السيرة والسريرة، مثالاً حيًّا لما يقول، عاملاً بما يعلمُ ويعلّم، مراقبًا لله تعالى في القول والعمل، مشتهرًا بالمروءة والزهد والترفّع عن الطمع والحُطام. . لذلك ألقى الله تعالى حُبّهُ في القلوب ، والبركة في كلامه ودروسه وخطبه!
ومن شرّ ما يُبتلى به الخطيب ويفسدُ عليه رسالته ودعوته " الطمع " والنظر إلى ما في أيدي الناس، بل واستغلالهم باسم الدّين لجمع الحطام وذوق لذائذ العيش من عطاياهم، هذا يقضي تمامًا على الحياة في الكلام والخطاب، ويجعل الخطيبَ في وادٍ والتأثير في وادٍ آخر:
قال - رحمه الله - يأمرُ الخطيب بالصدق ونبذ الطمع: ". . فلا يأمر الناس بالزهد ثم يخالفهم إلى ما زهَّدهم فيه، فيزاحم المتكالبين عليه!، ولا يتظاهر بالدين ابتغاء الدنيا وتوصُّلاً إليها؛ فيجمع من حوله العاملين على الكسب الحلال، والجادِّين في جمع المال من حِلِّه، ليأخذ من أموالهم ما يتعالى به عليهم، وليذوق لذائذ العيش من عطاياهم، وليسلبهم فوق ذلك حريتهم وعقولهم وكرامة أنفسهم عليهم، فيصرّفهم في مآربه، ويسيرهم حيثما شاء، ويذلهم بين يديه ليستكبر عليهم، ويجعل الدين وسيلةً إلى ذلك. . "(6).
وقد شهد من عاشَ معه من بناته وأحبابه وطلاّبه وإخوانه في الشام أو في مكة أو جدّة أنه كان - رحمة الله عليه - قُدوةً في هذا، كان من أزهد الناس فيما في أيدي الناس، وفي ما في جيوبهم، وألسنتهم، فقد زَهِدَ في المال والثناء والثراء، كما زهدَ في الرفاهيّة وسُكنَى القصور، كما زهد في الجاه والمنصب، وفي سائر مفردات حطام هذه الدنيا التي يقتتل حولها الكثيرون !.
إنما أردت التأصيل والتأكيد لهذا الأساس الأول في نضج النهج الخطابي قبل التطرق لمعالم هذا النضج في خطاب سماحة الشيخ، وللوقوف على الشهادات فيه يرجى الاطّلاع على ما كتبه العمالقة الكبار من العلماء والأدباء والدعاة والقضاة والمفكّرين والشعراء في سيرته ومواقفه وفي رثائه عند وفاته، وهي مبثوثةٌ في المجلاّت والجرائد والمواقع الإلكترونية. .
نسأل الله لنا وله المغفرة والرحمة والجنّات، وفائدةُ تقديم هذه الركيزةِ قبل الحديث عن الصنعةِ الخطابيّة : توجِيهُ عنايةِ الخطباءِ إلى ضرورة إصلاح السريرةِ والسيرة ليصلح الله ما بينهم وما بين الخلق، ويجعل البركة في كلامهِم وخطبِهم. .
وإلى الجزء الثاني من المقالة بإذن الله في ركائز النضج في نهجه الخطابي.
------
[1] - الخطابة وإعداد الخطيب : علي محفوظ - ص 17 .
3 - الشيخ علي الطنطاوي فقيه و قاضي ، و أديبٌ و خطيب سوري ولد سنة : 1909م ، وتوفي رحمه الله في سنة 1999م .
4 - نتدارس هذا بإذن الله في الجزء الثاني للمقال .
5 - فصول إسلامية : علي الطنطاوي - دار الدعوة - دمشق ، سوريا - ط 1 - 1960 م ، ص ( 97 ) .
6 - فصول إسلامية : علي الطنطاوي ، ص ( 97 ) .
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم