اقتباس
فترى الشيخ يتغير صوته وطبقته ونبراته من موقف إلى موقف، يرفع صوته ويخفضه، يرققه ويغلِّظه... ففي مقام التخويف والإنذار تسمع الصوت المرجرج المزلزِل فكأن الصوت يثور ويفور ويغتلي، وفي مقام الترقيق والمواساة تسمع الصوت الخاشع الوجل المرتعش الحاني فكأن الصوت يربت على كتف السامعين ويحتضنهم، وفي مقام التقرير والتعليم تسمع الصوت الثابت الواثق المتزن فكأن الصوت يقتحم العقل ويصافح الفهم...
لما رأيت هذا النجاح المبهر لفضيلة الشيخ علي القرني –حفظه الله- في الخطابة والمحاضرة، ولما عاينت قدر حب الناس له ومكانته في قلوبهم واتساع وتنوع جمهوره، ولما استمعته فأثَّر في قلبي تأثيرًا بالغًا وترك في نفسي أثرًا عميقًا... عند ذلك كله ساءلت نفسي: ما السر في نجاح الشيخ الخطابي؟! وما الذي جعل له قبولًا عند الدعاة وطلبة العلم وعند عوام الناس كذلك؟ ما الذي ميزه لنقتدي به فيه؟...
ثم ساءلت نفسي أخرى: إن الكمال نادر عزيز، فما الذي نتمنى لو كان في شيخنا ليكمُل خطابيًا؟ وهل من شيء نتداركه عليه أو نراجعه فيه؟ وأي نقد يمكن أن يوجَّه إليه؟... فكان هذا المقال الذي نحاول فيه أن نجيب على هذين التساؤلين.
ونقرر من البداية: أنه ليس مقصدنا -هنا- تحديد استراتيجية محددة للنجاح الخطابي؛ فقد أفردنا لهذا كتابات مستقلة، وإنما هو مجرد عرض لتجربة الشيخ الخطابية، ونعرضها لغرضين:
الأول: نبرز ما امتازت به تجربته من مميزات ونقاط قوة؛ فنقتدي به فيها.
الثاني: نتلمس ما بدر من فضيلته مما يصدر من البشر من خلل ومآخذ؛ لنحذر الوقوع في مثلها.
وسيكون هذا -إن شاء الله- هو منهجنا وديدننا طوال حلقات هذه السلسلة.
***
بداية: من هو شيخنا اليوم؟ هو فضيلة الشيخ العلامة الخطيب المفوه والمحاضر الفصيح والعالم اللغوي والداعية الموفَّق: علي بن عبد الخالق القرني من سكان مكة المكرمة، ولد سنة 1961م، وهي توافق 1380 أو 1381هـ، كان يعمل مدرسًا للغة العربية للمرحلة الثانوية، وقد طلب التقاعد عام 1430هـ، معروف بتواضعه الجم حتى إنه ليحضر دروس غيره من العلماء كالشيخ العجلان والشيخ محمد المختار الشنقيطي، ومشهور بفصاحته وبيانه وقد نقل عنه تلاميذه حرصه على التحدث بالفصحى في كل حالاته، نفهم من تلاميذه حبه للخفاء وكراهيته للشهرة، نحسبه -والله حسيبه- من الدعاة الصادقين المخلصين ومن الأتقياء الأخفياء.
وشيخنا مقلٌّ في محاضراته فله في كل سنة محاضرة واحدة أو محاضرتان لا يزيد عليهما، ولم أقف للشيخ إلا على ثمانين درس وخطبة ومحاضرة فقط أو ما يزيد قليلًا، وإلقاؤه من حفظه؛ فلا يستعين بوريقات ولا بغيرها، وهذا دليل على إتقانه وإجادته، وقد قصر محاضراته على مكة والطائف وجدة ولا يجاوزها إلا نادرًا.
***
والآن إلى إجابة سؤالينا، ونقسِّم مقالنا إلى قسمين:
القسم الأول: نقاط القوة وعوامل التميز:
*أولًا: بلاغة الألفاظ، ومتانة اللغة، وطلاقة اللسان:
إذا بدأ الشيخ في التحدث وجدت الكلمات تنساب من فمه انسيابًا وتتدفق تدفقًا وتنهمر انهمارًا، تنطلق الكلمات من فمه متدافعة هادرة تجرف في طريقها ما استقر في القلوب من أوكار المعاصي وأكنان الشهوات وسرابيل العيوب.
إي والله، إن المرء ليسمع كلمات الشيخ إذا ما نقد عيبًا أو نعى على السامعين ذنبًا أو تقصيرًا وهي تتتابع فكأنما هي سيل جارف تتساقط قطراته على رأس السامع فيكاد يرفع يديه يتقي بهما إنهمارها، وكأنه هو المعنيّ بها وحده.
فهي ألفاظ إذا انطلقت انطلقت قوية رصينة رزينة تجللها الفخامة وتكسوها العظمة وتزينها الثقة وتحوطها المهابة، لا تهتز ولا تتردد ولا تتذبذب، بل هي تهز الفؤاد وتزلزل الكيان وتتخلل إلى الأفهام، وهكذا ينبغي أن تكون ألفاظ الخطيب المؤثر.
ولعلنا نوجز بعض مظاهر ما قلنا من جميل لغة الشيخ في النقاط التالية:
(1) كثرة المترادفات والمعطوفات: ونقصد بالترادف هنا: «دلالة كلمات مختلفة المبنى على نفس المعنى»، ولغة الشيخ لغة غنية ثرية بهذا وبذاك، فتسمعه يعبِّر عن المعنى الواحد بألفاظ وصيغ كثيرة متعددة، وتراه يكثر من المعطوفات التي تزيد الأمر بيانًا ووضوحًا وشمولًا، مما يدل على سعة استيعابه لألفاظ اللغة والتمكن من تطويعها وتوظيفها.
ولنستمع إليه الآن وهو يصف حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجرته قائلًا: «يخرج من مكة من بين الأهل والجيران والأخوة والخلان، حسيرًا حزينًا كئيبًا طريدًا، في تلك الفيافي والقفار...»([1]).
ومن الثانية قول فضيلته: «ومِنْ شُكر نعمة الله عليك في جوارحك: ضبطها بوحي الله، العين لا ترى، والأذن لا تسمع، واللسان لا ينطق، والعقل لا يفكر ويخطط، والقلب لا ينعقد، واليد لا تكدح، والرجل لا تسعى ولا تخطو إلا فيما يرضي المولى، حالك:
أنا أدري غايتي أعرف منهاج حياتي *** قد تجلى لي مصيري إذ تلوت النازعات»([2]).
(2) الاستشهاد بالشعر الجزل: قرأت في أحد المنتديات من يعيب على شيخنا إكثاره من الأشعار في خطبه ومحاضراته، وإني لأتعجب! كيف تصير الميزة عيبًا؟! فإن للشعر رونقه وبهاءه وسحره، وإن المعنى الذي تعجز عن الإقناع به مئاتُ الكلمات المنثورة قد يتكفل بإيصاله بيت شعر واحد، بل والله إني لأعيب على خطيب يخطب خطبة لا يستعين فيها بالشعر، وإني لأعدُّ هذا من القصور والعي والحصر.
وما وجدنا الشيخ يذكر الأشعار إلا موظَّفة في مقامها ومكانها، وهو يجيد سردها وإلقاءها، وإني لأعتقد أن بعض تلك الأشعار من نظم الشيخ؛ فإنك لا تراها في مظانها من الكتب والمواقع، وإذا ثبت أنها من نظمه فهي موهبة جديدة تضاف إلى مواهب شيخنا الكثيرة.
ومن ذلك قوله يصف حال ابن الزبير حين هجرته خالته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لقولة قالها:
كأنه فارس لا سيف في يده *** والحرب دائرة والناس تضطرب
أو أنه مبحر تاهت سفينته *** والموج يلطم عينيه وينسحب
أو أنه سالك الصحراء أظمأه *** قيظ وأوقفه عن سيره التعب([3]).
(3) حسن التصوير: يقول شيخنا مصوِّرًا لحظات استقبال المسلمين لخبر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وشاع الخبر في المدينة كأفجع ما يكون الخبر، وأظلمت سماء المدينة، وضجت بالبكاء، وأغلقت القلوب بحزنها، وذرفت العيون بدمعها، وليس لعين لم يفض ماؤها عذر، ضاقت على المسلمين أنفسهم، وتبدلت الأرض فما هي بالأرض التي يعرفون»([4])، فهي صورة متقنة مطابقة لتلك اللحظات؛ فاجعة مع ظلمة مع ضجيج بالبكاء مع كمد مع ضيق مع إنكار للأرض...
ثم يواصل التصوير بعدها قائلًا: «وتذهب اللحظات، وما يطلع فجر اليوم الثاني إلا والمسلمون قد جعلوا الصديق خليفة لهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليكون نموذجًا فريدًا من خريجي مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيا له من نموذج! ويالها([5]) من لحظتين متضادتين! لحظة وداع مؤثرة تمزق الأكباد والقلوب، ولحظة أخرى هي لحظة تولي الصديق أمر الأمة، التي أثلج الله بها صدور المؤمنين يوم ولى عليها خيرها»([6]).
(4) السجع العفوي غير المتكلف: وقد أخطأ من عدَّ السجع عيبًا، بل هو جمال وزينة للقول ما لم يكن متكلفًا فيذم للتكلف، ومن السجع العفوي الجميل الموفق قول شيخنا واصفًا ابن سلول: «رأس الضلالة وعمود الجهالة المريد التدمير لهذا الدين»([7])، والمتابع لشيخنا يدرك أنه من أبعد الناس عن التكلف، الذي ينفر الناس من الخطيب.
*ثانيًا: جودة التحضير:
فكل سامع للشيخ يدرك ذلك بلا كثير تأمل؛ فإن الشيخ يلقي المحاضرة التي تزيد على الساعة والنصف، مما يعني ما بين سبعة آلاف إلى عشرة آلاف كلمة أو يزيد، تتخللها النصوص والأدلة والشواهد، وهو يلقيها بأسلوبه السريع الهادر، فكأنه يحفظها منذ ميلاده، مما يشير بل ويؤكد كمَّ الجهد الكبير الذي بذله الشيخ في التجهيز والإعداد والتحضير، والخطيب الجيد من احترم عقول سامعيه؛ فبذل وسعه في نفعهم.
ومن أمارات وعلامات حسن تحضير شيخنا لما يلقي ما يلي:
(1) حفظ النصوص والشواهد: ففي الخطبة أو المحاضرة الواحدة تستطيع أن تعدَّ للشيخ عشرات من النصوص والشواهد، وهو مع ذلك شديد التحري لألفاظها لا يكاد يغيِّر منها لفظًا، وإن أحس أنه خالف لفظ الحديث النبوي وجدته يقول متورعًا: «أو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، لكنه في الأغلب الأعم يحرص على سرد النصوص بلا تغيير فيها.
وهذا ما هو مطلوب من كل خطيب يصعد منبرًا أو يلقي محاضرة؛ أن يحفظ أدلته من نصوص الكتاب والسنة حفظًا متينًا متقنًا، فإن هذا يعطيه قوة وثباتًا، وأيضًا يصونه أن يقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل، أما خطأ الخطيب في آيات القرآن فهذا يدركه أغلب السامعين ويفطنون إليه، مما يخل بمكانته عندهم إذا ما تكرر.
(2) التقسيم الجيد للخطبة أو المحاضرة: ففي وضوح وجلاء تجد شيخنا ينظم ويرتب خطبته أو محاضرته في عناصر ونقاط محددة واضحة، وغالبًا ما يفصل فصلًا واضحًا ما بين فكرة وفكرة وما بين عنصر وعنصر، وهذا واضح جلي في كثير من خطب الشيخ ومحاضراته مثل: «حسرات»، و«هكذا علمتني الحياة»، و«صفحات مطوية»، و«صور وعبر»، وقلما يترك شيخنا ذلك.
ولهذا التقسيم فوائد كثيرة للمتكلم وللسامع، فبالنسبة للخطيب فإن (العَنْصَرَة) تيسر عليه استيعاب جوانب خطبته وتقلل المنسي والمفقود منها وتجعلها حاضرة ظاهرة مرتبة في ذهنه بحيث يسهل استحضارها، وأما فائدتها للسامع فتعينه على متابعة ما يقوله الخطيب وعدم الشرود أو فقدان الخيط الذي يربط ما بين أجزاء خطبته أو محاضرته، مما يزيد استفادته.
(3) الاختصار والإيجاز: حتى عند ذكر القصص والنصوص والاستشهادات الطويلة، فيذكر الشاهد من الحديث فقط، فإن الحديث إن كان طويلًا وفي غير محل الشاهد ربما شتت انتباه السامع ورآه خارجًا عن الموضوع، وهو كذلك يستعمل جوامع الكلم، ويختصر المعاني الطويلة في كلمات قليلة.
ولا يخفى أن الإيجاز والاختصار وتركيز الكلام يستدعي مزيد وقت وتحضير وإعداد، وإني لأذكر كلمة كتبها أحد البلغاء في ختام رسالة إلى أحد أصدقائه تقول: «وأعتذر إليك عن الإطناب فليس لدي وقت للإيجاز».
(4) ندرة التلعثم والتلجلج: ولا عجب؛ فالتحضير الجيد يولِّد الثقة والثبات والطلاقة، وهكذا تجد الشيخ القرني؛ ما أن يبدأ حديثه إلا وينساب كلامه سهلًا لينًا حينًا كماء نهر رقراق صاف حالم، وحينًا يهدر كشلال متدفق مندفع يكتسح ما يعرض له، بلا تعثر ولا تخبط في الحالين.
وإن أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء -في عصرنا- لو ترك الإعداد والتحضير فلا بد أن يتعثر ويتلعثم، أو يتأتأ ويفأفأ، أو على الأقل تخرج كلماته تافهة وأسلوبه سطحي عارٍ من المعاني البلاغية.
*ثالثًا: تكثيف العناصر الإقناعية:
هدف الشيخ القرني في خطبته ودرسه ومحاضرته، كهدف كل خطيب؛ أن يتوصل إلى إقناع سامعيه بشتى الوسائل، وقد كثَّف شيخنا في أحاديثه من تلك العناصر الإقناعية، وهاك نماذج لها.
(1) التدليل من الكتاب والسنة: وهذا هو التأصيل الذي يفتقده اليوم كثير من الخطباء، وهذا ما أجاد فيه الشيخ القرني؛ فهو يرد الأمر إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مؤصلًا ومستدلًا على كل أمر من الوحيين، وهذا من أشد الأدوات الإقناعية تأثيرًا في المؤمنين الصادقين: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36].
(2) تعدد المؤكدات: فالمعنى الواحد يؤكده الشيخ بشتى وسائل التأكيد من قسم وتكرار ونماذج وبيان فضل أو خطورة... وهذا ظاهر واضح جلي في جميع كلام الشيخ، ومن ذلك قوله: «الجوارح جوارح، وأخطرها شأنًا أداة البيان اللسان، ترجمان الجنان، كاشف مخبئات الخدور، زارع الضغينة والفتنة في الصدور، تسل السيوف وتدق الأعناق بكلمات، تقوم صراعات وتثور فتن بكلمات، تضيع أوقات وتشاع اتهامات وتقذف محصنات غافلات مؤمنات بكلمات، تُهدم حصون للفضيلة وتزرع الهموم والحسرات بكلمات، بكلمات يقال على الله بلا علم وذاك قرين الشرك أكبر الموبقات، السب والهمز واللمز واللعن والغيبة والطعن والنميمة والقذف والفحش والبذاءة كبائر بكلمات، إنها شجرات لا قرار لها مجتثات مستأصلات خبيثة سماؤها وأرضها وماؤها»([8]).
(3) تنوع أساليب التناول: يورد الشيخ المعنى من المعاني التي تحتاج إلى بيان فيعرضها عرضًا مشوقًا، ثم يشرع في كلام آخر فتحسب أنه قد انتقل إلى فكرة أخرى أو معنى آخر، وإذا به يفاجئوك أنما يؤكد كلامًا مضى ويعود إليه مرة بعد مرة، وفي كل مرة بأسلوب مغاير مختلف.
ومثال ذلك متصل بالنموذج السابق؛ فبعد أن قال الشيخ ما قال عن اللسان -كما مر- وحسبناه قد انتهى، إذا به يعود ليتناول نفس المعنى لكن بأسلوب آخر؛ فيتكلم عن البيان -وهل يكون البيان إلا باللسان؟!- فيقول: «البيان ما البيان! إنه ذو حدين أحدهما -وهو المقصود- خطر جسيم، وشأن عظيم، سلاح فتاك؛ إن لم يضبط أهلك الحرث والنسل وزرع الشتات، يلدغ كالأفعى، ويحرق كاللظى، بحروف تقطع الأواصر، وتفصم العرى، وتكدر النفوس، وتضيق الصدور»([9]).
ثم بعدها بحين يعود ثالثة فيقول: «إنها الحروف لو قُدِّر كون بعضها سائلًا ثم مزج بماء البحر لأفسده وغيَّره، بحروف ملفوظة أو مكتوبة يهوي المرء أو يرفع، ويرضى عنه أو يسخط عليه...»([10]).
وهكذا ينبغي على الخطيب أن يصنع؛ فيكرر دون أن يكرر، يكرر بطرق مختلفة ليؤكد على فكرة ما، بحيث لا يشعر ولا يحس السامع أنه قد كرر، وهذا من ذكاء الخطيب.
(4) التساؤلات المفضية إلى الحقيقة: وهو أسلوب إقناعي خطير التأثير، وقد أجاد شيخنا في استعماله، ومن ذلك قوله: «ما الحكمة من خلقك أيها الإنسان؟ ألتذبح الحيوانات لتأكلها؟! ألتبس أبهى اللباس؟! ألتسكن أحسن الدور والقصور؟! ألتنكح أجمل الزوجات لتتمتع بهن؟! ألتنام على الوثير وتتنعم؟! ألتركب أفخم السيارات؟! لا، والذي رفع السماء بلا عمد، ما خُلقنا إلا لعبادة الله الواحد الأحد...»([11]).
(5) المقارنات والمتضادات: ففي محاضرته القيمة: "أي الغاديين أنت؟" يعرض خطيبنا نماذج متضادة لطائع وعاص، فعرض فضيلة الشيخ لمن يشرك مع الله ويحلف بسواه ولمن يستعين بالله وحده لا شريك له، ثم عرض لتارك الصلاة وللمحافظ عليها، ثم قارن بين مطلق لسانه وحافظ لسانه، ثم قارن بين الساخط على قضاء الله والراضي به، ثم قارن بين الظالم والعادل، ثم بين قاطع الرحم وواصلها، ثم بين شاهد الزور والشاهد بالحق، ثم بين آكل الحرام ومتحري الحلال، ثم بين الوالغ في الأعراض بالغيبة والنميمة والمدافع عنها بظهر الغيب... وإنك لو تتبعت خطب الشيخ ومحاضراته لوقفت على الكثير من ذلك.
*رابعًا: التمكن من تطويع الصوت:
فترى الشيخ يتغير صوته وطبقته ونبراته من موقف إلى موقف، يرفع صوته ويخفضه، يرققه ويغلِّظه... ففي مقام التخويف والإنذار تسمع الصوت المرجرج المزلزِل فكأن الصوت يثور ويفور ويغتلي، وفي مقام الترقيق والمواساة تسمع الصوت الخاشع الوجل المرتعش الحاني فكأن الصوت يربت على كتف السامعين ويحتضنهم، وفي مقام التقرير والتعليم تسمع الصوت الثابت الواثق المتزن فكأن الصوت يقتحم العقل ويصافح الفهم... وإنك لن تعدم هذا كله وأكثر منه في كل خطبة ومحاضرة للشيخ، والاستماع إليه خير دليل على ما نقول.
*خامسًا: استغلال الأسلوب القصصي:
وهذا مما يبهر في الأسلوب الخطابي للشيخ؛ فهو يجيد استخدام القصة وتوظيفها ووضعها في مكانها ومقامها، فتؤثر أيما تأثير وتثمر أفضل الثمار، ولا تجد شيئًا من خطبه ومحاضراته -فيما أعلم- إلا وقد ضمَّنه من القصص الكثير، ففي الجزء الأول من محاضرة: «هكذا علمتني الحياة» وحده، قد عددت له أكثر من تسع قصص ثم تركت العدد.
وهو ينوع القصص ما بين قصة قرآنية وأخرى نبوية وثالثة من بطون الكتب ورابعة معاصرة واقعية... وينسب أغلب قصصه إلى مصادرها مما يدل على تحضير فضيلته لها، ولا يخفى ما للأسلوب القصصي من أهمية ومميزات -ليس هذا مقام تفصيلها- مما يعيب الخطيب أن يغفلها.
ثم هو يستنتج الدروس والمستفاد من القصة، فيقول الشيخ متحدثًا عن أبي بكر -رضي الله عنه- ثم مستحثًا السامعين للعمل: «خرج وعمره في الإسلام لا يتجاوز بضعة أيام، وبعد أيام يعود، فبم عاد أبو بكر؟ عاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، خرج صادقًا مبلغًا فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة فيما بعد.
فيا لله! يأتي أبو بكر يوم القيامة وفي صحيفة حسناته ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يعود وقد أسلم على يديه عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة -رضي الله عنهم أجمعين-.
أرأيتم عطاءً للإسلام كهذا العطاء؟ قد يعيش الإنسان منا ستين عامًا أو سبعين عامًا أو أقل أو أكثر، لكنها والله لا تعدل في ميزان الحق ساعة من ساعات أبي بكر، قد لا يكون الصديق حفظ بضع سور من القرآن في ذلك الوقت، ولم يكن حفظ بضع آيات، وبعضنا يحفظ القرآن، ويحفظ من السنة الكثير، ويستمع إلى عشرات المحاضرات، ويستمع إلى عديد من الأشرطة، ويقرأ عشرات الكتب، وينقضي عمره وما هدى الله على يديه رجلًا واحدًا، ما السبب؟ إنه نقص الإيمان، أو نقص الصدق لضعف الإيمان في القلوب.
حصان إخلاصنا ما زال يُسمعنا *** صهيله غير أنا ما امتطيناه
فهلا صدقنا الله، وهلا أخلصنا النوايا لله، لتنقاد القلوب لنا كما انقادت لأبي بكر وسلفنا، نرجو الله أن يَمنَّ علينا بذلك»([12]).
وهذا موقف آخر يعرضه الشيخ لا للتسلية وإنما ليبرز منه العبرة والعظة، فها هو يعرض موقف تعذيب أهل مكة للمسلمين في فجر الدعوة، ثم يعلق قائلًا: «ويا أيها الأحبة في الله! إن الضلال والجهل والكفر والنفاق بكل زمان لا يمتلك الإقناع والحجة والبرهان، قد يمتلك القوة والبطش، لكن أنَّى لقلوب تسلل إليها النور أن تتدثر بالضلال بعد أن تسلل إليها النور»([13]).
انتهى الجزء الأول، ويتبع بالثاني والأخير بإذن الله.
([1]) من محاضرة: «صراع الدعاة مع المنافقين»، الدقيقة: (27:45).
([2]) من محاضرة: «حروف تجر الحتوف»، الدقيقة (5:35).
([3]) نفس المحاضرة السابقة، الدقيقة: (11:44).
([4]) من محاضرة: «أبو بكر الصديق»، الدقيقة: (50:22).
([5]) لعل الأفضل أن يقال: «ويا لهما»، بلفظ المثنى؛ لمناسبة ما بعدها.
([6]) من محاضرة: «أبو بكر الصديق»، أول الدقيقة: (56).
([7]) من محاضرة: «صراع الدعاة مع المنافقين»، الدقيقة: (18:42).
([8]) من محاضرة: «حروف تجر الحتوف»، الدقيقة (7:11).
([9])نفس المحاضرة السابقة، الدقيقة (8:44).
([10]) نفس المحاضرة السابقة، الدقيقة (14:37).
([11]) من محاضرة: «أي الغاديين أنت؟»، الدقيقة: (8:43).
([12]) من محاضرة: «أبو بكر الصديق»، الدقيقة: (15:44).
([13]) نفس المحاضرة السابقة، الدقيقة: (17:50).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم