عناصر الخطبة
1/ ذم الغضب 2/ طبيعة الغضب 3/ الشديد من يملك نفسه عند الغضب 4/ تعاسة الشخصية الغضبية 5/ قبيح أثر الغضب 6/ كيف نتخلص من الغضب؟ 7/ الغضب المحموداقتباس
من صفات الإنسان التي لا بدَّ أن تخطم بخطام الشرع، وتزم بزمام العقل؛ فهي كمال إذا ضبطها الإنسان ولم تعصف به ذات اليمين وذات الشمال، وهي نقص حينما تدفع المرء إلى أذية الناس، والتضييق على العباد، وحرمان الأهل والأولاد؛ فتطلق الزوجة، ويفرق البيت، وتعلو الأجواء كآبة الحزن، ومسحة البؤس؛ ناهيك عما...
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ:1-2].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشبيه وعن المثيل وعن النظير؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فتتقلب النفوس، وتتغير الأمزجة، فيُرى الإنسان يأنف من كل شيء، ويضيق صدره بكل أحد؛ تقلبات داخلية، واضطرابات نفسية.
إلا أنَّ الله -تعالى-لم يجعل هذا الإنسان مسلماً لعواطفه، تحمله مرة حتى يبلغ السماء نشوة وفرحا، وتحطه ثانية حتى تهوي به الريح في مكان سحيق.
أيها الإخوة: من صفات الإنسان التي لا بدَّ أن تخطم بخطام الشرع، وتزم بزمام العقل؛ فهي كمالٌ إذا ضبطها الإنسان ولم تعصف به ذات اليمين وذات الشمال، وهي نقص حينما تدفع المرء إلى أذية الناس، والتضييق على العباد، وحرمان الأهل و الأولاد؛ فتطلق الزوجة، ويفرق البيت، وتعلو الأجواء كآبة الحزن، ومسحة البؤس؛ ناهيك عما تحمله من أذية الجراح، وسفك الدماء، وقطع الأرحام. سبحان الله! ما هذا؟! إنها صفة الغضب!.
فعن حميد بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رجل: يا رسول الله، أوصني. قال: "لا تغضب".
قال: ففكرت حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال؛ فإذا الغضب يجمع الشر كله رواه أحمد، وأصله في البخاري.
وكيف لا يجمع الغضب الشر كله، وهو من الشيطان؛ فعن أنس -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الغضب جمرة في قلب الإنسان تتوقد، ألا ترى إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟".
فالغضب حرارة داخلية تنتشر داخل الجسد عند وجود ما يغضب بحق أو بباطل، فيغلي عندها الدم طلباً للانتقام، فيفقد على إثرها الإنسان اتزانه وسلامة تصوره.
ولا يزال الشيطان يملي عليه مراداته، ويظهره بمظهر المظلوم، حتى يسهل عليه كل إجراء ليسهل عليه الانتقام، فتنهال منه عبارات الفحش والسباب، فيرتفع الصوت، ويتبعه الفعل، فإن استطاع أن يضرب ضرب، وربما دفع بمن أغضبه، أو حذفه بما تقع عليه يده فكسره أو جرحه، وربما أزهق روحه على إثر غضبه شيطانية. فما أشد الأثر! وما أتعس ساعة الندم!.
أيها الإخوة: حينما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الشديد بالصُّرَعةِ؛ إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"؛ فذاك لأنَّ الذي يملك نفسه عند الغضب يحجب شراً كثيراً سوف يندم لو طاوع نفسه ونفذه.
وحينما يملك نفسه عند الغضب سوف يغلق باباً كبيراً يوشك الشيطان أن يدخل منه.
وحينما يملك غضبه سوف يحفظ هيبته أمام كل من علم بحاله أو رآه، فأثبت للجميع شدته وقوته مع نفسه، فلا يزال عظيما في النفوس يتقي الناس غضبه.
أيها الإخوة الكرام: لقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي قال: أوصني، قوله: "لا تغضب"، فردد مراراً: أوصني! أوصني! والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يزيد على: قوله: "لا تغضب".
قال ابن القيم رحمه الله: جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله:" لا تغضب" خيري الدنيا والآخرة، لأن الغضب يؤول إلى التقاطع، فهو مفتاح الفتن والآثام، وبريد التفرق والانقسام، ويستدل به على ضعف العقل والإيمان".
إن من أسوأ الغضب الغضبَ عند توافه الأمور، فهو يغضب؛ بل ويشتد غضبه، وربما سبَّ ولعن وطلق زوجته حينما تأخر غداؤه أو عشاؤه، أو لم يجب نداؤه لأول مرة حينما نادى.
وهو يغضب لتأخر أولاده عليه إذ لم يبادروا بالخروج إلى المدرسة أو منها وهو ينتظرهم.
وهو يغضب عند إشارة المرور حينما فتحت ولم يمش من أمامه، وهو يغاضب صاحب المحل وموظف الدائرة؛ فحياته غضب في غضب!.
بل نقل شيئاً من غضبه وجهله إلى مكان عبادته، فقد غضب على إمام المسجد حينما تأخر لدقائق في الإقامة، وغضب على المؤذن الذي لم يحقق مطلوبه في فتح مكيف أو إغلاقه.
ثم لا يدعه الشيطان حتى يدخل في صلاته مغضبا، متأففاً، متمايلا في وقوفه، يرمي بنفسه راكعاً ساجداً.
ثم الغضب موزع على جماعة المسجد كل بحسبه، وأسعدهم حظاً من غضبه -بل أتعسهم- من تصدى له، ولم يذعن لمراداته بحق أو بباطل.
فبالله عليكم كيف الحياة مع هذا؟ بل كيف حياة هذا مع نفسه؟.
إن ضبط النفس مقياس لرجولة الإنسان، يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب؟ وما علمك بأمانته إذا لم يطمع؟.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد أمرائه: لا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبت على رجل فاحبسه، فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه.
وقال ابن القيم رحمه الله: "دخل الناسُ النارَ من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العداون على خلقه".
قال مجاهد رحمه الله: قال إبليس لعنه الله: مهما أعجزني بنو آدم فلن يعجزوني: إذا سكر أحدهم أخذناه فقدناه حيث شئنا، وعمل لنا بما أحببنا؛ وإذا غضب قال بما لا يعلم، وعمل بما يندم.
ويكفي أيها الإخوة أن تعرف أن الغضب غالباً يقود إلى ما يسخط الرحمن، ويرضي الشيطان، وهو كثيراً ما يذل الإنسان؛ لأنه يعقبه الاعتذار واللوم من أعدائه وأصدقائه.
وهو قد يؤثر في البدن فيسبّب أمراضاً لا تنتهي، فربما أخرس لسانه، أو تعطلت بعض أركانه، أو جن في عقله، أو أصيب بجلطة في قلبه أو بدنه أو غير ذلك.
حفظ الله الجميع بحفظه.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتفرد بكل كمال، والشكر له فهو المتفضل بجزيل النوال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم وشريف الخلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام، وإذا تبين لنا قبيح أثر الغضب، فلعلك تسأل: كيف يتخلص المسلم من الغضب، فيكون ذلك بأمور:
الأول: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويدل عليه أنه لما استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فغضب أحدهما حتى احمر وجهه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد".
الثاني: أن يجلس إن كان واقفا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب؛ وإلا فليضطجع".
الثالث: إن زال عنه الغضب، وإلا فليتوضأ؛ لما جاء في الحديث الحسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".
الرابع: أن يتفكر في الأمر الذي أغضبه، ويقدّر لو أنه وقع أكبر مما هو عليه، فإذا غضب لكلمة؛ فماذا لو كانت ضربة؟ وإذا غضب لضربة؛ فماذا لو كانت جراحة وسالت على إثرها الدماء؟.
الخامس: أن يتذكر ما مدح الله -تعالى- به عباده المؤمنين بقوله لما ذكر الجنة: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، ثمَّ بيَّن صفاتهم فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134]، ووصف الله المؤمنين بأنهم: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى:37].
السادس: أن يتذكر الإنسان أنه بغضبه وغلظته تنفر عنه النفوس، وتبغضه القلوب، وأنه بحلمه ولينه تنعطف عليه القلوب، ويحبه الناس، فليختر أحب الأمرين إليه.
سئل بعضهم: بماذا سُدتَّ قومك؟ قال: كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم.
وجاء أن عيسى -عليه السلام- مرَّ بقوم من بني إسرائيل فسبّوه، فردَّ عليهم خيراً، فقيل له: إنهم يسبّونك، وتقول لهم خيراً؟ فقال: كل ينفق مما عنده.
السابع: أن يبادر الإنسان بالتخلص مما يجعله قريب الغضب سريع الانفعال، من تعاطي ما يسمونه منشطات، وهي نوع من المخدرات.
وكذلك شرب الدخان، فشارب الدخان من أسوأ الناس نفساً، عصبية جامحة، تستفزه الهمسة، وتطيشه الكلمة؛ نسأل الله للمدخنين العصمة والهداية.
ثم لتعلموا أنَّ خير الغضب ما كان عليه غضب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه كان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادما ولا امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله.
وخدمه أنس عشر سنين فما قال له أفٍّ قط! ولا قال له لشيء فعله: لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم يفعله: ألا فعلت كذا!.
وفي رواية أنه كان إذا لامه بعض أهله قال -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه فلو قضي شيء لكان".
نسأل الله -تعالى- أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، اللهم حسن أخلاقنا، وارزقنا العدل في الغضب والرضا.
اللهم ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم