عناصر الخطبة
1/ استعاذة النبي الكريم من أربعة مصائب 2/ وقفات وتأملات في الحديث وبيانٌ لهداياته 3/ الفزع إلى الله تعالى والاعتصام بهاقتباس
الأمر إذا كان عند الله فأنت في الأمان كله، وتأملوا هذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك". هل يمكن أن يكون هنالك شيء من الأشياء التي يبتلى بها الناس في هذه الحياة لا يشملها هذا الدعاء؟ كل مكروب قد تعوذتَ منه، وقد سألت الله -سبحانه وتعالى- أن يجنبك إياه.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، خير نبي أرسله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وآل كل وصحب كل أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله ما استطعتم، وأطيعوه؛ فما أسعدكم إن أطعتم! ثم اعلموا أن الله -عز وجل- قال في محكم تنزيله: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:55-56].
وأخرج الإمامُ مسلمٌ في صحيحه، وغيرُه في غيرِه، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: كان من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك".
ما أعظمه من دعاء! من إنسان هو أفضل إنسان خلقه الله -تعالى-، وهو أفصح إنسان، أعطاه الله جوامع الكلم؛ ولهذا كان أفضل الدعاء ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مثل هذا الدعاء الجامع المانع الذي يؤمن لك مستقبلك، فالخوف من المستقبل هو الذي شغل الناس، الخوف مما يكون في غد، والله أعلم بما يكون في غد.
انشغل الناس بهذه المسألة، وهرع الغرب إلى التأمين على الحياة وعلى الأولاد وعلى الأموال والممتلكات، وذلك التأمين يعطيك تعويضا إذا حصل لك مكروه وإذا نزلت بك مصيبة، لكنهم لن يستطيعوا أن يدرؤوا عنك مصيبة ولا أن يكفوا نازلة من النوازل ولا نائبة من النوائب، ولكنهم يعوضونك بالمال، وهل المال يغني عن الحياة؟ وهل المال ينفع إذا جاءك المرض وجاءك الابتلاء ولم يكن هنالك لطف بقدر الله -تعالى- بك؟.
هكذا يفعلون! ولكن الله -سبحانه وتعالى- حين تدعوه يـؤمن لك الحياة بطريقة أخرى، بأن يمنع عنك ما قدره الله -تعالى- عليك من المصائب؛ لدعائك ولتضرعك، أو بأن يلطف بك فيما قدره الله -تعالى- عليك، أو يضاعف لك الحسنات والخيرات، وأن يعوضك في نفسك أو في مالك أو في ولدك أو في آخرتك.
الأمر إذا كان عند الله فأنت في الأمان كله، وتأملوا هذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك". هل يمكن أن يكون هنالك شيء من الأشياء التي يبتلى بها الناس في هذه الحياة لا يشملها هذا الدعاء؟ كل مكروب قد تعوذتَ منه، وقد سألت الله -سبحانه وتعالى- أن يجنبك إياه.
زوال النعمة مصيبة من المصائب، كم من إنسان كانت عنده نعم كثيرة ولكنه فقدها لأنه لم يقيدها بالشكر! وكم من إنسان كان في عافية فابتلاه الله -تعالى- بالمرض وحرم خير الدنيا وخير الآخرة؛ لأنه لم يصبر على ذلك البلاء الذي ابتلاه الله -تعالى- به!.
وكم من إنسان تمرد على الله وعصاه وتجبر وتكبر ففاجأه الله -تعالى- بسيف نقمته، وانتقم منه فكان من الخاسرين! وكم من إنسان أغضب الله وتمادى في إغضابه لله، والله حليم، ولكنه تمرد واستمر على تمرده وإغضابه لربه، فسخط الله -تعالى- عليه! أيستوي هو ومن طلب رضا الله؟! (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [آل عمران:162].
لا أريد أن أحكي لكم شيئا من الحكايات ولا الأخبار، فمن كان له قلب حاضر، ومن كان له سمع وبصر، ومن كان شهيدا على الدنيا وما يدور فيها؛ فإنه يستطيع أن يرى شواهد كثيرة على من زالت نعمته، وتحولت عافيته، وفوجئ بنقمة الله وسخط الله -تعالى- عليه كما سخط على الأولين من اليهود والنصارى وغيرهم.
إن الله سخط على قوم فجعل منهم القردة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت، والله -تعالى- قص علينا قصصاً كثيرة في ذلك، ونحن في عصر مرت بنا سنوات -وهذه السنوات ليس بعيدة بل هي قريبة- رأينا فيها العجائب ورأينا فيها من زالت نعمته ومن تحولت عافيته ومن انتقم الله -تعالى- منه ومن سخط الله -تعالى- منه! رأينا ذلك عيانا بيانا، وشهدناه؛ فهل نعتبر؟ وهل نحافظ على نعمة الله -تعالى- وعلى ما أعطانا الله -تعالى- من عافية؟ قال الإمام الليث بن سعد -رحمه الله تعالى-: "العافية هي دفاع الله -تعالى- عن عبده"، يدافع الله -تعالى- عنك ويحميك ويحرصك ويكلؤك برعايته وعنايته، فإذا ذهبت العافية فإنه لم يبق شيء! (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، أي: إذا كان الإنسان في نعمة وفي عافية فإن الله -سبحانه وتعالى- لا يغير ما به من نعمة أبداً ولا من عافية أبداً حتى يغير هو ما بنفسه، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].
وهكذا قال الله في سورة الأنفال، حينما قال الله -تعالى-: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:52-53]. لأنهم غيروا ما بأنفسهم فغير الله -تعالى- ما بهم.
وقد يكون هنالك عباد صالحون في مجتمع ولكن ذلك المجتمع فاسد وغير ما بنفسه وغير نعمة الله -تعالى- ولم يقيدها بالشكر، فتصيب المصيبة الجميع، كما قال الله -تعالى-: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال:25]، بل تعم الجميع، ولو كان هنالك أناس صالحون، ثم يجزي الله -تعالى- الصالحين بعد ذلك والشاكرين بعد ذلك يوم يقوم الحساب، والله لا يضيع أجر المحسنين، ولا يضيع أحداً، إن خسر شيئا في الدنيا فإنه يعوضه إياه في الآخرة، ولو عرف الإنسان ما أعد الله -تعالى- له في الآخرة لتمنى أن يبتلى بابتلاءات كثيرة، ولكننا أمرنا بأن نسأل الله العافية في الدنيا وفي الآخرة، وعلمنا الله -تعالى- أن نقول: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، صلى الله عليه وعلى آله السادة الغرر، ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر.
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ *** فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الليالي كما شاهدتها دُولٌ *** مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
من كان يظن أن الدنيا تدوم على حال فهو مخطئ، وهو مغتر، بل معترّ، فقير من الفهم، لا يفهم ما يكون في الواقع، ولا يفهم سنن الله -سبحانه وتعالى-.
ليس هنالك نعمة تدوم، هذه الأوراق النقدية التي في أيدينا نبيع بها ونشتري قد يأتي يوم من الأيام وتبهت ولا يكون لها قيمة أصلا؛ لأنه لا رصيد لها! فليست مغطاة بذهب كما كانت في الزمن الأول، بل هي أوراق عليها رسومات وعليها أرقام وعليها صور، الأوراق البيضاء خير منها، قد يأتي زمن من الأزمان لا يكون لها قيمة... وهذا من سنن الله -سبحانه وتعالى- في الدنيا...
يا معشر الإخوة: الدعاء هو عبارة عن سلاح يتحصن به الإنسان، وإني أسألكم: هل تجدون فرقا بين إنسان في موطن خوف وفي موطن فزع أعزل لا سلاح له وليس في يده شيء يدافع به عن نفسه وإنسان آخر مدجج بالسلاح سلاحه في يده وعلى جسده؟ ألا تجدون فرقا بين هذا وبين هذا؟ لا أسأل عن الفرق الذي يكون في الظاهر؛ ولكنني أسأل عن الفرق الذي سيكون في الباطن.
إن هذا الذي هو أعزل هو خالٍ، قلبه هواء، يملؤه الخوف من عدوه، وأما ذلك فإن في قلبه ألوانا من الثبات والاستعداد، هذا هو ما يحدثه بالضبط الدعاء، مثل هذا الدعاء الذي تدعو به يعطيك قوة ويعطيك مناعة، بل إنه -كما يقول العلم- يزرع فيك مناعة ضد الأمراض؛ لأنك تعلم أنك متحصن بالله، وهذا اليقين القوي يعطيك قوة، وتعلم أن الله -تعالى- يدافع عنك، وكما قلنا وقال أهل العلم: العافية هي دفاع الله -تعالى- عنك؛ فإذا كنت بجانب الله -سبحانه وتعالى- أو إذا كان الله -سبحانه وتعالى- بجانبك؛ فمم تخاف ومم تحذر؟.
هذا الذي يحدثه الدعاء في نفسك، فافزعوا -أيها الإخوة- إلى الاعتصام بالله -تعالى- في كل حين؛ فإنه لا غنى لأحد عن ربه الذي خلقه والذي قدر له رزقه والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والذي بيده خزائن كل شيء، الذي بيده مفاتيح الغيب، والذي يعلم كل شيء.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم