زلة أهل الفضل

الشيخ هلال الهاجري

2022-05-13 - 1443/10/12 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الإنسان معرض للزلل والأخطاء 2/نماذج من زلل الفضلاء في القرآن وحكم الله فيها 3/تعامل النبي مع زلات أصحابه

اقتباس

مُوسى -عَليهِ السَّلامُ- رَمَى الألواحَ التي فيها كَلامُ اللهِ عَلى الأرضِ حَتى تَكَسَّرتْ أَشلاءً، وأَخَذَ بلِحيةِ هَارونَ -عَليهِ السَّلامُ- وهو نَبيٌّ مِن الأنبياءِ، ولَطَمَ وَجهَ مَلَكِ المُوتِ فَفَقَأَ عَينَهُ، وَجَادَلَ في شَأَنِ فَرضِ الصَّلاةِ على رَسولِ اللهِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ عظيمِ الشانِ، قديمِ الإحسانِ، ذي الفضلِ والامتنانِ، القائلِ في محكمِ القرآنِ: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)[الرحمن: 60]، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، خَلَقَ فَسوَّى، وقَدَّرَ فَهَدَى، وأَخَرجَ المَرعَى، فَجَعلَهُ غُثاءً أَحوَى، وأَشهدُ أنَّ مُحمداً عَبدُه ورَسولُه، أَرسَلَهُ إلى الجِنِّ والإنسِ بَشيراً ونَذيراً، ودَاعياً إلى اللهِ بإذنِه وسِراجاً مُنيراً، أَقامَ اللهُ بِهِ الحُجَّةَ، وأَوضحَ بِهِ الطَّريقَ، فصَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَليهِ، وعَلى آلِهِ وأَصحابِه وخُلفائه الأربعةِ، أبي بَكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ وعَليٍّ، وعَلى سَائرِ أَصحابِه الأخيارِ، النُّجباءِ الأَطهارِ.

 

أَما بَعدُ: ما رَأيُكم في إنسانٍ لَهُ من الفَضَائلِ أجملَها، ولَهُ من الأخلاقِ أكمَلَها، مَعروفٌ بِخِصَالِ الخَيرِ والإحسانِ، ومَوسومٌ بِصِفاتِ البِّرِّ والإيمانِ، تَاريخُهُ يَشهدُ فِيهِ الجميعُ لَهُ بالثَّناءِ الجَميلِ، ومَوَاقفُهُ يَعجَزُ اللِّسانُ فِيها عن الشُّكرِ الجَزيلِ, ثُمَّ في يومٍ من الأيامِ زَلَّ زلَّةً كَبيرةً، وغَلَطَ غَلْطَةً خَطيرةً، فما هو المَوقفُ المُناسبُ تُجَاهَ هذا الإنسانِ؟ هَل يُقَالُ كما يَقولُ البَعضُ: أنَّ غَلطةَ الشَّاطرِ بِعَشرةٍ، فَليسَ لِغَلطَتِه مَغفرةٌ، ولا لِخَطئهِ كَفَّارةً؟ أو نَقولُ: أنَّ سَيِّئتَه مَغمُورةٌ في بُحورِ حَسنَاتِه، كما قالَ القَائلُ:

 

وإِذا الحبيبُ أَتَى بذنبٍ واحدٍ *** جَاءَت محاسنه بِأَلفِ شَفيعٍ

 

فَتَعالوا لِنرى كَيفَ عَامَلَ أَهلُ الفَضلِ أَهلَ الفَضلِ، ولْنَبدأُ بِتَعَامُلِ اللهِ -تَعالى- مَعَ أَخطاءِ أَهلِ الفَضلِ.

 

هَل تَعلمونَ مُوسى أنَّ -عَليهِ السَّلامُ- رَمَى الألواحَ التي فيها كَلامُ اللهِ عَلى الأرضِ حَتى تَكَسَّرتْ أَشلاءً، وأَخَذَ بلِحيةِ هَارونَ -عَليهِ السَّلامُ- وهو نَبيٌّ مِن الأنبياءِ، ولَطَمَ وَجهَ مَلَكِ المُوتِ فَفَقَأَ عَينَهُ، وَجَادَلَ في شَأَنِ فَرضِ الصَّلاةِ على رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ- عَلى أُمتِه، فَكانَ يَقولُ لَهُ في كلِّ مَرةٍ: ارجعْ إلى رَبِّكَ؟! ومَعَ ذَلكَ كُلِّهِ لمْ يُعاتبْهُ ربُّه، ولَمْ تَسقُطْ مَنزِلتُهُ؛ بَل لا زَالَ وَجِيهاً يُحُبُّهُ رَبُّهُ ويُجيبُهُ، أتعلمونَ لِماذا؟.

 

 لأنَّ لموسى -عليهِ السَّلامُ- مَقاماتٍ عَظيمةً، قَامَها في وَجهِ فِرعونَ، أعظمَ أعداءِ اللهِ -تعالى-، وأَعتى من عَرفَتهُ البَشريةُ، الذي ادَّعى الألوهيةَ والرُّبوبيةَ، فَجَادلَهُ مُوسى ونَاظرَه، حتى لما قَامَتْ عليهِ الحُجَّةُ ولا زالَ جَاحِداً مُستكبِراً؛ (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)[الإسراء: 102]؛ أي: هَالِكاً، ثُمَّ قَامَ مَقاماتٍ جَليلةً أَمامَ بَني إسرائيلَ بَعدَ هَلاكِ فِرعونَ، وصَبرَ على أَذاهُم وكَفرِهم واستِهزائهم وعِنادِهم، حَتى استَحقَّ وِسامَ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)[مريم: 51].

 

وأما مَوقفُه -سُبحَانَه- مَع إمامِ الصِّديقينَ والأولياءِ، فَقَد كَانَ أبو بَكرٍ الصِّديقِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يُنفقُ عَلى ‌مِسطَحِ بنِ أُثاثةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- لقَرابتِهِ مِنهُ وفَقرِه، فلما كَانتْ حَادثةُ الإفكِ، تَكلَّمَ مِسطحُ في عائشةَ -رَضيَ اللهُ عَنها- مَعَ مَن تَكلَّمَ، فلما أَنزلَ اللهُ -تَعالى- براءَتَها، قَالَ أبو بكرٍ -رَضِيَ اللهَ عَنهُ-: "واللهِ لا ‌أُنفقُ عَلى ‌مِسطحٍ شَيئاً أَبداً، ولا أَنفعُه بِنَفعٍ أَبداً"، فَماذا قَالَ اللهُ -تَعالى- لأبي بَكرٍ في مَنعِهِ لِنَفَقةٍ كانتْ لوَجهِ الله، ويَنبغي أن تَبقى خَالصةً للهِ -عَزَّ وجَلَّ-؟! قَالَ -سُبحَانَه-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22]؛ (وَلا يَأْتَلِ) أيْ: لا يَحلِفُ، فَقَالَ أَبو بَكرٍ الصِّديقِ -رَضيَ اللهُ عَنهُ-: "بَلى، واللهِ إنِّي لأُحِبُّ أَن يَغفرَ اللهُ لي"، فَرجَعَ إلى ‌ِمِسطحٍ النَّفقةَ التي كَانَ يُنفقُ عَليهِ، وقَالَ: "واللهِ لا أَنزعُهَا مِنهُ أَبداً".

 

وهَكذا الفَضلُ يَشفعُ لأهلِه، واسمعوا لِقَولِ اللهِ عن يُونسَ -عليهِ السَّلامُ-: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصافات: 143، 144]، وأَما فِرعونَ لمَّا لَم تَكنْ لَهُ سَابقةُ خَيرٍ تَشفعُ لَهُ، وَقَالَ: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يونس: 90]، قِيلَ لَهُ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس: 91].

 

أقولُ هذا القولَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، والعَاقبةُ للمتقينَ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَليُّ الصَّالحينَ، وأَشهدُ أن مُحمداً َعَبدُهُ ورَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً إلى يَومِ الدِّينِ.

 

أَمَا بَعدُ: والآنَ تَعالوا لِنَرى كَيفَ تَعاملَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلمَ- مَعَ زَلَّةِ أهلِ الفَضلِ، لمَّا كَتَبَ حَاطبُ بنُ أَبي بَلتعةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- إلى نَاسٍ من المشركينَ من أَهلِ مَكةَ، يُخْبِرُهُمْ بِعَزمِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَمَ- عَلى غَزوِ مَكةَ، قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَمَ-: "يا حَاطبُ! مَا هَذا؟"، قال: يا رسولَ الله! لا تَعْجَلْ عليَّ، أَمَا إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا نِفَاقًا، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ، وكُنتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قريش، ولم أكن من أَنْفُسِهِا، وكان مَنْ معكَ من المهاجرين لهم قَرَابَاتٌ بمكةَ، يَحْمُونَ بها أهليهم وأموالَهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النَّسَبِ فيهم أن أَتَّخِذَ عندهم يدًا، يَحْمُونَ بها قَرَابَتِي، فقُلتُ: أكتُبُ كتابًا لا يَضُرُّ اللهَ ولا رسولَه، وَمَا فَعلتُهُ كُفرًا ولا ارتدادًا، ولا رِضًا بالكُفرِ بَعدَ الإسلامِ، فَقَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ-: "لقد صَدَقَكُمْ"، قَالَ عُمرُ: يَا رسولَ اللهِ! دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هذا المنافقِ، فَأَخبرَه رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ- بِفَضلِ حَاطبٍ، فَقَالَ: "إنه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لعلَّ اللهَ أن يكون قد اطَّلَعَ عَلى أَهلِ بَدرٍ، فَقَالَ: اعملوا ما شئتُم؛ فقد غَفرتُ لَكم"، وَصَدقَ زُفَرُ بنَ الحَارثِ:

 

‏أَيَذهبُ يَومٌ وَاحدٌ إِنْ أَسأتُهُ *** ‏بِصَالحِ أَيامي وحُسْنِ بَلائيا؟

  

اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ العَافيةَ في الدُّنيا والآخرةِ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ العَفوَ والعَافيةَ في دِينِنا ودُنيَانا وأَهلينا وأَموالِنا، اللهمَّ استرْ عَوراتِنا، وآمنْ رَوعاتِنا، اللهمَّ احفظنا من بَينِ أَيدينا، ومِن خَلفِنا، وعَنْ أَيمانِنا، وعَن شَمائلِنا، ومِن فَوقِنا، ونَعوذُ بِعَظمتِكَ أَن نُغتالَ من تَحتِنا، اللهمَّ أَصلحْ أَحوالَ المسلمينَ، واجمعْ كَلمتَهم، ووَحِّدْ صَفَّهم يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ وَفِّقْ ولاةَ أَمرِنا، وارزقهُم الجُلساءَ الصَّالحينَ، سَدِّدْ أَقوالَهم، وأَصلِحْ أَعمَالَهم، وبَاركْ في جُهودِهم يَا حَيُّ يَا قَيومُ.

 

 

المرفقات

زلة أهل الفضل.pdf

زلة أهل الفضل.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
12-05-2022

شكرا بارك الله فيك