رمضان طريق عباد الرحمن إلى باب الريان

أحمد عماري

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: رمضان
عناصر الخطبة
1/ فرحة الصائم عند فطره وعند لقاء ربه 2/ رمضان طريق عباد الرحمن إلى باب الريان 3/ بعض الأعمال المشروعة في رمضان 4/ بعض الدروس المستفادة من رمضان 5/ وقفة مع نعيم الجنة

اقتباس

للصائم فرحتان: فرحة في دنياه، وفرحة في أخراه. يفرح عند فطره؛ لأن الله أعانه فصام، ورزَقه فأفطر. يفرح عند فطره؛ لأن الله قواه وأعانه حتى تغلب على شهوة نفسه الأمَّارة بالسوء، فروَّض نفسه بالصوم، وحملها على طاعة الله، وألبسها لباس التقوى. ويفرح عند لقاء ربه؛ حين...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 

وبعد:

 

مع نعمة أخرى من نعم الله وعطية من عطايا الرحمن أعدها الله لعباده جزاء صومهم واجتهادهم في طاعة الله في رمضان، من حازها فقد حاز الخير كله، ومن نالها فقد فاز وأفلح؛ إنها: الجنة التي يدخلها الصائمون من باب الريان.

 

هناك تكتمل فرحتهم، ويزول ظمؤهم، وترتاح أبدانهم، وتسعد أرواحهم.

 

إنها الفرحة الكبرى التي تنتظر الصائمين عند لقاء الله رب العالمين؛ ففي الصحيحين عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ"، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ".

 

للصائم فرحتان: فرحة في دنياه، وفرحة في أخراه.

 

يفرح عند فطره؛ لأن الله أعانه فصام، ورزَقه فأفطر. يفرح عند فطره؛ لأن الله قواه وأعانه حتى تغلب على شهوة نفسه الأمَّارة بالسوء، فروَّض نفسه بالصوم، وحملها على طاعة الله، وألبسها لباس التقوى.

 

ويفرح عند لقاء ربه؛ حين ينادى عليه ليدخل الجنة من باب الريان، وينعم بكرم الكريم المنان، ويسعد برحمة الرحيم الرحمن.

 

كيف لا يفرح وقد زال عنه عناؤه وشقاؤه، وذهب عنه ظمؤه وجوعه؟

 

كيف لا يفرح وهو ينظر إلى الجنة قد تزينتْ وأعِدّتْ لاستقباله؟

 

كيف لا يفرح وقد وُفق للطاعات والقربات، وتزود من الخيرات والصالحات؟

 

كيف لا يفرح وقد غفرت له الذنوب والسيئات، وتجاوز الله عما كان منه من زلات ومخالفات؟

 

كيف لا يفرح وقد فاز بشفاعة الصيام والقرآن، وأعتقتْ رقبته من النيران، ودخل الجنة من باب الريان؟

 

إنها أمنية العارفين، ومطلب العابدين، من أجلها صام الصائمون، وقام القائمون، وتعبّد المتعبدون؛ أن ينعموا ويفرحوا بدخول الجنة التي خلقها الله بيده، وجعلها مقراً لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها كل خير وكل نعيم، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص.

 

فرمضان شهر الصيام، والصيام طريق إلى الجنة؛ فقد أعد الله للصائمين بابا لدخول الجنة، لا يدخل منه إلا من صام وصبر على ألم العطش، وسماه ب "باب الريان"، وهو من الرِّيِّ الذي هو ضد العطش، وهو المناسب لحال الصائمين؛ إذ أشد ما يؤلم الصائم هو العطش، وفي هذا تحفيز للصائم على الصبر على ألم العطش طاعة لله، وطمعا في الري الذي لا ظمأ بعده أبدا، فإذا أحسست بالعطش -أيها الصائم- فتذكر باب الريان، اصبر على ألم العطش فباب الريان في انتظارك؛ ففي الصحيحين عَنْ سَهْلٍ -رَضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ-، قَالَ: "إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ".

 

إذا أحسست بالعطش وأنت صائم فلا تجزع ولا تغضب، وتذكر أنهار الجنة، قال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [محمد: 15].

 

رمضان شهر القيام، والقيام طريق إلى أعالي الجنان، قال سبحانه: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 15 - 17]، وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 15 - 18].

 

فهنيئا لك يا من حملتَ نفسك على القيام بين يدي الله، وربّيتَ نفسك على القيام في رمضان.

 

هنيئا لك يا من أتعبتَ نفسك بالقيام، وصبرتَ على ألم القيام، بُشْرَاك بيوم يزول فيه عناؤك، ويعظمُ فيه أجرك وثوابك.

 

رمضان شهر الطاعات والقربات، ومن داوم على طاعة الله ورسوله دخل الجنة، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [النساء: 13]، وعن معاذ بن جبل -رَضي الله عنه- قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فأصبحت قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا نبي الله، أخبرْني بعمل يُدخلني الجنة، ويبعدني عن النار؟ قال: "لقد سألتَ عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه، تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت" ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل" ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة: 16 حتى بلغ: (يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟" قلت: بلى يا رسول الله، قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد" ثم قال: "ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلك كله؟" قلتُ: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه فقال: "كفّ عليك هذا"، قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟" (أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح")

 

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رَضي الله عنه-: أن أعرابيا أتى النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان"، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى، قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا"، وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي َالله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما من عبد يعبد الله لا يشرك به شيئا، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر، إلا دخل الجنة" (أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني، وصححه الألباني في التعليقات الحسان).

 

ومن كان سبَّاقاً إلى أعمال البرّ وأنواع القرُبات كان مؤهلاً لأن يُدْعَى من أبواب الجنة كلها؛ وهذا ما بشّرَ به النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أبا بكر الصديق -رضيً الله عنه-؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة"، فقال أبو بكر -رَضي الله عنه-: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم وأرجو أن تكون منهم"، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضي الله عنه-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضي الله عنه-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّة" (أخرجه مسلم).

 

فيا مَن تريد الجنة: عليك بطاعة الله، الْزَمْ طاعة الله، واجتهد في عبادته، وابتعد عن معصيته، لتنال الجنة برحمة الله مع مَن اختارَهم الله وأنعم عليهم من عباده وأصفيائه، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69].

 

رمضان شهر الإحسان والإنفاق، والإحسان والإنفاق طريق إلى الجنة، قال سبحانه: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 274]، وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَا السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ" (أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي والحاكم)، وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "أنا وكافلُ اليتيم في الجنة هكذا" وقال بإصبعيه السبابة والوسطى.

 

رمضان شهر الصبر، والصبر طريق إلى الجنة، وكل الطاعات والقربات تحتاج إلى صبر، فلا يجتهد في الطاعات والقربات، ويبتعد عن المعاصي والمنكرات إلا من صبر؛ فالصبر طريق إلى كل خير، ووقاية من كل شر، وتلك هي طريق الجنة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 22 - 24]، وقال سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].

 

رمضان مدرسة أخلاقية، والأخلاق طريق إلى الجنة، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقا، وترك الكذب، وإن كان مازحا، وحسن خلقه"، وعن عبادة بن الصامت عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "اضمنوا لي ستا من أنفسكم اضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم".

 

رمضان شهر التقوى، وهي الغاية من الصوم؛ كما قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].

 

والتقوى طريق إلى الجنة؛ قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 31 - 35]، وقال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].

 

هل تفكّرت يوماً في سعادة خالية من الأكدار؟! هل تفكرت في حياة لا شقاء فيها؟! ولا سقم! ولا جوع! ولا حزن! ولا نصب! ولا موت؟!

 

إنها الحياة الأبدية في دار القرار، ومنازل الأبرار، حياة ينسى صاحبُها كل شقاء وعناء، وتُزًفُّ إليه السعادة صافية غرّاء.

 

السعادة الخالية من الآلام والأحزان، السعادة الكاملة التي لا يشوبها حزن ولا هم ولا خوف ولا ألم، هناك في الجنة: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر: 33 - 35].

 

إنها الجنة دارُ النعيم المقيم، والسرور الدائم، والسعادة الأبدية، حيث لا خوف ولا حزن ولا شقاء، قال تعالى: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف: 68 - 71].

 

إنها الجنة التي لا يَخطُرُ نعيمها ببال، ولا يُدرِك كمالها وجمالها إلا الكبيرُ المتعال، أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي َالله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، وأخرج أحمد والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: "لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ أَوِ الْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلْهَا يَنْعَم فَلَا يَبْأسُ، وَيَخْلُدْ لَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ".

 

إنها الجنة التي يَنعَمُ فيها الصالحون بالرضا والرضوان، ويتمتعون فيها بالنظر إلى وجه الرحيم الرحمن؛ أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا"، وأخرج مسلم في صحيحه عَنْ صُهَيْبٍ -رضيَ الله عنه- عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-".

 

فيا من غرته دنياه، وانشغل بها عن عبادة الله: اعلم أنك تسيرُ بنفسك في طريق الخسران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].

 

واعلم أن نعيم الدنيا الفاني الذي قد شغلك عن طاعة الله لا يساوي شيئا أمام نعيم الجنة الخالد؛ فعن سهل بن سعد -رضيَ الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" (أخرجه الإمام أحمد والترمذي).

 

واعلم أنّ أدنى أهل الجنة منزلة هو من يُعطى من النعيم عَشْرة أمثال ما في الدنيا من نعم وخيرات؛ ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رَضي الله عنه- قال: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا: رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا -أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا- فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي -أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي- وَأَنْتَ المَلِكُ" فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجذهُ، وَكَانَ يَقُولُ: "ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً".

 

إنها الجنة التي تستحق منا كل تعب وعناء، وتستحق منا كل بذل وعطاء، في طريقها فليتنافس المتنافسون، ومن أجلها فليعمل العاملون.

 

فاجتهد -يا عبد الله- لتكون من أهلها، واعمل لتسعد بدخولها، واعلم أنها سلعة غالية، لا تُدرَكُ بالأماني والمعاصي، ولا تُنال بالخمول والكسل، وإنما تنال بالجد والعمل، عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ" (أخرجه الترمذي والحاكم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة)، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 42 - 43]، وقال سبحانه: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر: 73 - 74].

 

نِعْمَ أجرُ العاملين الذين صاموا وقاموا، وصلوا وحجوا وزكوا، وأنفقوا وأحسنوا.

 

نعم أجر العاملين الذين اجتهدوا في الطاعات والقربات، وابتعدوا عن المعاصي والمنكرات: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت: 58 - 59].

 

فاللهم أدخلنا الجنة من باب الريان، وارزقنا شفاعة الصيام والقرآن، ومُنّ علينا برُفقة نبيك في أعالي الجنان، يا رحيم يا رحمن.

 

اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك اللهم من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

 

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك اللهم من سخطك ومن النار.

 

اللهم إنا نسألك الحنة وما قرّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل.

 

وصَلّ اللهم وسلمْ وبارك على حبيبنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].

 

 

المرفقات

طريق عباد الرحمن إلى باب الريان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات