رحمة الله

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-15 - 1436/03/24
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/إثبات صفة الرحمة لله 2/شمولية رحمة الله لجميع الخلق 3/بعض أسباب نيل رحمة الله 4/آثار رحمة الله على خلقه 5/تأملات إيمانية في قوله تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا...) 6/نزول رحمة الله بعباده في أحلك الظروف وبعض الأمثلة على ذلك

اقتباس

انظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة، فبرحمته أرسل إلينا رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل علينا كتابه، وعلمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصرنا من العمى، وأرشدنا من الغي، وبرحمته عرّفنا من أسمائه وصفته وأفعاله، ما عرّفنا به أنه ربنا ومولانا، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

"الرحمن" "الرحيم"، اسمان كريمان من أسماء المولى -جل وتعالى-.

 

والرحمة صفته، صفة حقيقية تليق بجلاله سبحانه وتعالى، وهي صفة كمال لائقة بذاته كسائر صفاته العُلى، قال الله -تعالى- في محكم تنزيله، في شأن ذكر هذه الصفة، أو ذكر شيء من آثارها على خلقه، قال تعالى: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة: 37].

 

وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)[البقرة: 143].

 

وقال جل وتعالى: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 129].

 

وقال: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المائدة: 39].

 

وقال: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)[هود: 90].

 

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الدالة على صفة الرحمة.

 

أيها الأحبة في الله: الله -جل وعلا- رحيم بنا، وهو سبحانه أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا.

 

رحمة الله -تعالى- وسعت وشملت كل شيء، العالم العلوي والعالم السفلي، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله -تعالى-، المسلم والكافر، البرّ والفاجر، الظالم والمظلوم، الجميع يتقلبون في رحمة الله آناء الله وأطراف النهار، قال الله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف: 156].

 

الله -جل وتعالى- فتح أبواب رحمته للتائبين، وللعاصين، وللمنحرفين، ما عليهم إلا أن يقبلوا على مولاهم، قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].

 

وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنة أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد".

 

أيها المسلمون: إن الله -جل وتعالى-، أرحم بعباده من الأم بولدها، أخرج البخاري ومسلم، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أنه قال: قُدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الله أرحم بعباده من هذه بولدها".

 

إن رحمة الله تغلب وتسبق غضبه، روى البخاري في صحيحه، حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه -وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش- إن رحمتي تغلب غضبي".

 

وفي رواية: "إن رحمتي سبقت غضبي".

 

الله -جل ثناؤه- له مئة رحمة؛ كما في حديث أبي هريرة عن البخاري، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة".

 

وفي رواية: "كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة".

 

وفي رواية: "إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها".

 

وفي رواية: "حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".

 

أيها الأحبة في الله: اعلموا -رحمكم الله- بأن العبد كلما كان أقرب إلى الله -تعالى-، كانت رحمة الله به أولى، أي كلما كان العبد طائعاً لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، عاملاً بما أمره الله ورسوله منتيهاً عما نهاه الله ورسوله عنه، كان استحقاقه للرحمة أعظم، قال الله -تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آل عمران: 132].

 

وقال عز وجل: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الأنعام: 155].

 

وقال سبحانه: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النور: 56].

 

وقال سبحانه: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف: 56].

 

الله -جل وعز- سمى بعض نعمه التي أنعمها علينا بالرحمة، فسمى المطر رحمة في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)[الأعراف: 57].

 

وسمى رزقه بالرحمة في قوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا)[الإسراء: 28].

 

وسمى كتابه العزيز بالرحمة في غير ما آية، لقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النحل: 89].

 

وسمى الجنة بالرحمة، وهي أعظم رحمة خلقها الله لعباده الصالحين، قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[آل عمران: 107].

 

وقال تعالى: (يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[الإنسان: 31].

 

أيها المسلمون -عباد الله-: يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-، في كلام نفيس له، وهو يتكلم عن آثار رحمة الله، فيقول: "فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة، فبرحمته أرسل إلينا رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل علينا كتابه، وعلمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصرنا من العمى، وأرشدنا من الغي، وبرحمته عرّفنا من أسمائه وصفته وأفعاله، ما عرّفنا به أنه ربنا ومولانا، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار وبسط الأرض، وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً، للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب، وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى.

 

ومن رحمته: سخر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل والدر، وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها: اسم الرحمن الرحيم، وأوصل إلى خلقه معاني خطاب برحمته، وبصرهم، ومكن لهم أسباب مصالحهم برحمته.

 

وأوسع المخلوقات عرشه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي وسع المخلوقات، بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه من صفته يسمى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتاباً فهو عنده وضعه على عرشه: "إن رحمته سبقت غضبه".

 

وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم والصفح عنهم والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة.

 

فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر.

 

وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالهم، فبرحمته خلقت، وبرحمته عمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها، وبرحمته طاب عيشهم فيها، وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور، ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

 

ومن رحمته: أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه.

 

ومن رحمته: أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام التناسل وانتفاع الزوجين، وتمتع كل واحد منهما بصاحبه.

 

ومن رحمته: أحوج الخلق بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وانحل نظامهم، وكان من تمام رحمته بهم: أن جعل فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعي والمرعى، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عم الجميع برحمته.

 

ومن رحمته: أنه خلق مئة رحمة، كل رحمة فيها طباق ما بين السماء والأرض، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة، نشرها بين الخليقة ليتراحموا بها، فيها تعطف الوالدة على ولدها والطير والوحش والبهائم، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه.

 

وتأمل قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن: 1 - 4].

 

كيف جعل الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة، متعلقاً باسم الرحمن؟" إلى آخر كلامه رحمه الله، الذي كله درر وفوائد.

 

نسأل الله -جل وعلا- أن يرحمنا برحمته، وأن يجعلنا من المرحومين في الدنيا والآخرة.

 

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

قال الله -تعالى-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[فاطر: 2].

 

إن رحمة الله -أيها الإخوة-: لا يحصيها العد، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه، وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته.

 

إن رحمة الله لو فتحها سبحانه لأحد من خلقه، فسيجدها في كل شيء، وفي كل موضع، وفي كل حال، وفي كل مكان، وفي كل زمان، فإنه لا ممسك لها –(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)- يجدها في نفسه وفي مشاعره، ويجدها فيما حوله، وحيثما كان وكيفما كان.

 

وما من نعمة من نعم الله يُمسك الله معها رحمته، حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة تحفها رحمة الله، حتى تكون هي بذاتها نعمة، ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله، فإذا هو مهاد، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه رحمة الله، فإذا هو شوك القتاد: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[فاطر: 2].

 

إن الإنسان يواجه أصعب الأمور برحمة الله، فإذا هي هوادة ويسر، ويواجه أيسر الأمور وقد تخلت رحمة الله، فإذا هي مشقة وعسر، ويخوض المخاوف والأخطار برحمة الله، فإذا هي أمن وسلام، ويعبرها بدون رحمة الله، فإذا هي مهلكة وبوار.

 

إنه لا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها دون سواه، لا ضيق مع رحمة الله ولو كان صاحبها في غياهب السجون، أو في جحيم العذاب، أو في شعاب الهلاك، ولا سعة مع إمساك رحمة الله، ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم وفي مراتع الرخاء.

 

إن هذا الباب لو فتح لك -يا عبد الله- وهو باب الرحمة، فلا عليك ولو أغلقت أمامك جميع الأبواب، وأقفلت جميع النوافذ، وسدت جميع المسالك.

 

إنه هو الفرج والفسحة، واليسر والرخاء.

 

ولو أغلق عنك هذا الباب -يا عبد الله- باب الرحمة، ولو فتح لك جميع الأبواب والنوافذ والمسالك، فما هو بنافع وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء.

 

هذا الفيض من رحمة الله، يفتح عليك، ثم يضيق الرزق ويضيق السكن، ويضيق العيش، وتخشن الحياة، فلا عليك، فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة.

 

وهذا الفيض يمسك عنك، ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء، فلا جدوى، وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء.

إن المال والولد والصحة والقوة والجاه والسلطان لتصبح مصادر قلب وتعب ونكد إذا أمسكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.

 

يبسط الله الرزق مع رحمته، فإذا هو متاع طيب ورخاء، وإذا هو رغد في الدنيا، وزاد في الآخرة، ويمسك رحمته عن هذا الرزق، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.

 

ويمنح الله الولد، ويكون معه الرحمة، فإذا هي زينة الحياة الدنيا، ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة، بالخلف الصالح الذي يذكر الله، ويمسك رحمته، فإذا الذرية بلاء ونكد وتعب وشقاء، وسهر بالليل وتعب بالنهار: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[فاطر: 2].

 

ويهب الله الصحة والقوة، مع رحمته، فإذا هي نعمة وحياة طيبة والتذاذ بالحياة وتسخير لهذا الجسم في طاعة الله، ويمسك رحمته، فإذا الصحة والقوة بلاء، يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ويدخر السوء ليوم الحساب.

 

ويعطي الله السلطان والجاه والملك، مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر.

 

ويمسك جل وتعالى رحمته، عن هذا السلطان والملك، فإذا به مصدر قلق على فواتها، ومصدر طغيان وبغي عند بقائها، ومثار حقد على صاحبها، لا يقر لها معها قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بسببه للآخرة، رصيداً ضخماً من النار.

 

نسأل الله الرحمة والسلامة، والعلم الغزير، والعمر الطويل، والمقام الطيب، كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال، مع إمساك رحمة الله ومع إرسالها.

 

إن القليل من العلم يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك الله فيه، وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة.

 

وفي المقابل، بسطة في العلم، وطول في العمر، مع نزع البركة والرحمة، شقاء على الإنسان، ونكد في الدنيا قبل الآخرة.

 

إن من رحمة الله: أن تحسن برحمة الله، أنها تضمك وتغمرك، وتفيض عليك، إن شعورك بوجودها هو الرحمة، ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة، والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها، أو يأسك منها، أو شكك فيها، وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87].

 

إن رحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان، وفي أي حال.

 

وجدها إبراهيم -عليه السلام- في النار، ووجدها يوسف -عليه السلام- في الجب، كما وجدها في السجن، ووجدها يونس -عليه السلام- في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى -عليه السلام- في اليم، وهو طفل رضيع مجرد من كل قوة، ومن كل حراسة، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته)[الكهف: 16].

 

ووجدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهم: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40].

 

ووجدها أحمد بن حنبل وهو يجلد وهو يضرب، كان رحمه الله يضرب ضرباً عجيباً، حتى قال بعض جلاديه: لقد ضرب ضرباً لو ضرب بمثلها جمل لهلك، لكنه رحمة الله كان يتلقى الضرب مع رحمة الله، فبقى بإيمانه قوياً كالجبل الأشم يدافع عن منهج أهل السنة والجماعة.

 

ووجدها شيخ الإسلام عندما أدخل السجن، فالتفت إلى السجناء، وتمثل قول الله -تعالى-: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ)[الحديد: 13].

 

وسيجدها كل من أخلص لله، وآوى إليه يأساً من كل من سواه، منقطعاً عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً باب الله، دون الأبواب كلها.

 

ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها، ومتى أمسكها فلا مرسل لها، ومن ثم فلا خوف من أحد، ولا رجاء في أحد، ولا مخافة من شيء، ولا رجاء في شيء، إنما هي مشيئة الله ما يفتح الله فلا ممسك، وما يمسك فلا مرسل والأمر مباشرة إلى الله.

 

إنه ما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، بلا واسطة، وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة، وفي إخلاص فلا رجاء في أحد من خلقه، ولا خوف لأحد من خلقه، فما أحد بمرسلٍ من رحمة الله ما أمسكه الله.

 

أيها المسلمون: إنها آية واحدة من كتاب الله في سورة فاطر: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[فاطر: 2].

 

آية واحدة، تبين بعض آثار عقيدة المسلم بصفة الرحمة، لو استقرت في قلب المسلم استقراراً صحيحاً لصمد كالطود، أمام الأحداث، وأمام الأشخاص، وأمام القوى والقيم والاعتبارات، ولو تضافر عليه الإنس والجن.

 

إنهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها ولا يمسكونها حين يرسلها.

 

إنهم وإن منعوك عن الكلام، وإن حاولوا أن يحولوا بينك وبين الناس، وإن تعرضوا لمصدر رزقك، فما دامت رحمة الله تحفك، فهم الذين يكونون في شقاء وغم وسفول، وأنت -يا عبد الله- يكفيك رحمة الله، فأنعم بها، وأكرم من عطاء، وهم يكفيهم في الدنيا بُعْد رحمة الله عنهم وفي الآخرة، أشد وأبقى.

 

فنسأل الله -جل وعلا- أن يحفنا برحمته، وأن يفيض علينا من رحمته، وأن يغمرنا برحمته، فإنه الرحمن الرحيم، وهو الغفور الرحيم، وهو على كل شيء قدير.

 

 

 

المرفقات

الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات