رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ

د عبدالعزيز التويجري

2024-05-10 - 1445/11/02 2024-05-19 - 1445/11/11
عناصر الخطبة
1/شدة حاجة الأمة إلى الرجال الصادقين 2/نماذج من تضحيات الصحابة 3/من صفات العاملين للدين 4/من مآثر أبوبكر الصديق ومنجزاته

اقتباس

فكم تحتاج البيوت والمحاضن والمؤسسات العلمية والتربوية إلى معرفة ماهي الشهرة الحقيقية، وما هي الأعمال التي تكتب آثارا للمرء في حياته؛ لتبقى ذخرا له بعد مماته؟ فشتان بين من تكون مآثره تلاوات طيبة وأعمال وجهود بالخير شاهدة، وبين من مآثره متابعات تافهة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الولي الحميد، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.

 

أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].

 

اجتمع أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب -رضي الله عنه- يوماً بالصحابة فقال: "تَمَنَّوْا"،  فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ، وَقَالَ رَجُلُ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ زَبَرْجَدًا وَجَوْهَرًا فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: "تَمَنَّوْا"، فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: " أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ رِجَالًا مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ؛ أستعملهم".

 

إن تفخرَ الدنيا فأنت فِخارُها *** أو تخترَ العليا فأنت خيارُها

 

هذه هي الأمنية، وهذا هو الاحتياج الحقيقي للأمة، رجالٌ أمثال أَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذِ وَحُذَيْفَةَ، الأمة عند الفاروق لا تحتاج إلى مال، ولا إلى مناصبٍ وتوثيق أعمال؛ لأن كلاً يسعى لحاجته، وقليلٌ من يسعى لهداية النفس، ونفع الناس.

 

الأمةُ تحتاج إلى رجالٍ ونساء وشبان يحملون الدين على زادٍ قليل، هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبوبكر على راحلتين لا يحملان إلا زادهما، فأسسا أعظم كيانٍ للإسلام والدعوة، وانطلقا بأكبر رسالة وهداية؛ (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ)[الرعد: 36].

 

رسول العلى والفضل والخير والهدى *** لكل سطور المجد اسمك مبتدا 

مضى على الدين الذي شع نــــــــــوره *** سلاما وإيمانا وعدلا موطدا

 

وهاجر صُهَيْبٌ الرُّومِيِّ حِينَ عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: "أفَتَأْخُذُونَ أَهْلِي وَمَالِي وَتَدَعُونِي وَدِينِي؟"، فَفَعَلُوا، فلما قدم، قال له رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى"، افتدى بماله  ليبقى له إيمانه!.

 

دببتَ لِلْمَجْدِ والسَّاعُون قد بلَغُوا *** جَهْدَ النفوسِ وألقَوْا دونه الأُزُراَ

فكابَدوا المجدَ حتَّى ملَّ أكثرُهم *** وعانق المجدَ مَن أوفَى ومَنْ صَبَرا

 

(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[النحل: 41].

 

النفس والأسرة والمجتمع لا يبني فخرها شهرةٌ ولا جاه، ولا تحتاج لأن تعتز وترتقي بأوسمةٍ يُعَرِفُها، أو صورٍ يُشْهِرُها، المجتمعُ والأمةُ تحتاج إلى من يجسد شخصيته بمآثره، وحياته بعمله، وعمله بإخلاصه، "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"(أخرجه مسلم).

 

جسّدَ هذا المعنى رجالٌ عاشوا بين أظهرنا، ليس لهم ديوان ٌ يُذكر أو حسابُ يُشهر، عملوا للدين والدعوة وفق إمكانياتهم وطاقتهم، وبجهد أنفسهم، بلا طاقم وكادر، ولا مبانٍ وطوابقٍ، منطقهم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)[يوسف: 108]، ومنطلقهم: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً"، وشعارهم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ".

 

لم يجعلوا همَّهم حشو البطونِ ولا *** لبسُ الحريرِ ولا الإغراقِ في النعمِ

 

الأمم لا تقاس بأعمارها، والرجال لا يذكرون إلا بمآثرهم، عاش سعدُ بن معاذ -رضي الله عنه- في الإسلام سبع سنين، فقام في الإسلامِ مقاماً عظيما، ومات وهو ابن سبعٍ وثلاثين سنة فاهتز لموته عرش الرحمن!.

 

علو في الحياة وفي الممات *** بحق أنت إحدى المعجزاتِ

 

التاريخ لا يحتفظ إلا بمن يسطر اسمه في دواوين المنجزات، التاريخ هو الكنز الذي يحفظ مدخرات الأمة، والأمة لا تحترم إلا من يتفانى لرفع كرامتها، ولا تقدس إلا من يبذل وقته ومهجته لبناء الأخلاق العالية، والقيم الرفيعة؛ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23]، يعيش الناسُ هذا البرهان، إذا رحل من بينهم من كان طاهرُ السريرة، عذبُ الحديث، لم تغيره صروفُ الأيام، ولم تزعزعه فتنُ الزمان.

 

مَضَى طاهِرَ الأثْوَابِ لَمْ تَبْقَ بُقْعَةٌ *** غَدَاةَ ثَوَى إلاَّ اشْتَهَتْ أنَّها قَبْرُ

 

مضى غير مذموم وأصبح ذكره *** حلي القوافي بين راثٍ وما دحِ

 

هذا هو العز، وهذا هو السؤدد، وهذا هو الفخر، أورد الإمام الذهبي في السير: قال لما قدم الرشيد الرَقة، انجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم أمير المؤمنين، فقالت: ما هذا؟! قالوا: عالم من أهل خراسان قدم، قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.

 

تلك المكارم لا دنيا مزخرفة *** قد مازج الماء منها الذل والندم

 

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83]، نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبسنة سيد المرسلين، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إن ربكم لغفور شكور.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.

 

إنا لنفرح بالأيام نقطعهــــــــــا *** وكل يوم مضى يدني من الأجلِ

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا *** فإنما الربح والخسران في العملِ

 

تتصرم الأعوام سراعا وتخطفت المنايا فيها أحبابًا وأصحابًا وعبادا؛ "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةٌ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بهم بَالَةً"(أخرجه البخاري)، ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ"، "وخَيْرٌكم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ".

 

عاش أبوبكر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- سنتين وبضعةَ أشهرِ، أنجز فيها ما تعجز عن إنجازه الدول والحضارات في قرون؛ أمضى جيشَ أسامةَ، وبعثَ خالداً إلى قتالِ مسيلمةَ، والمثنى لفتحِ فارسَ، وأبوعبيدةَ لفتحِ الشامِ، وكلفَ زيداً بجمعِ القرآنِ، فكانت النتيجةُ أن رجع الناسُ إلى دين اللهِ، وفُتحتِ المدائنُ والقلاعُ، وجمعَ القرآنُ، وعلت رايةُ الإسلامِ، ودامَ الأمنُ السلامُ في ثلاثين شهرا.

 

ولَّى أبو بكرٍ فراعَ لهُ الورَى *** هولٌ تقاصرُ دونَهُ الأهوالُ

 

بركة من الله وصدق من الصديق، سير ومآثر الكبار هي التي تربي الأجيال على معالي الأمور، وتصنع أعملاً تبقي آثاراً، والأمة التي لا تحسن فقه مآثرها، ولا تحفظ حق رجالها أمة ضعيفة هزيلة مضيعة لمعالم طريقها.

 

فكم تحتاج البيوت والمحاضن والمؤسسات العلمية والتربوية إلى معرفة ماهي الشهرة الحقيقية، وما هي الأعمال التي تكتب آثارا للمرء في حياته؛ لتبقى ذخرا له بعد مماته؟ فشتان بين من تكون مآثره تلاوات طيبة وأعمال وجهود بالخير شاهدة، وبين من مآثره متابعات تافهة، وأعمال مخزية ساقطة، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "من أكثر من شي عرف به"، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

 

اللهم زدنا علما وعملا ورزقا وتوفيقا، اللهم بارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأرزاقنا وذرياتنا.

 

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.

المرفقات

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.doc

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات